بعد 14 عاما على اعتقال زعيم حزب العمال الكردستاني عبدالله أوجلان) اعتقل في 15 شباط عام 1998 في العاصمة الكينية نيروبي) كيف يمكن النظر إلى القضية الكردية في تركيا؟ وكيف أدار اوجلان من معتقله قضيته؟ وكيف تحول إلى صاحب الكلمة الأولى في حل هذه القضية أو تصعيدها؟ وما هي آفاق حل هذه القضية بعد كل الذي جرى؟
لعل ما دفعني إلى كتابة هذه المقالة، تلك الوثائق التي نشرت في تركيا مؤخرا، وأقصد هنا، وثائق المحادثات السرية التي جرت بين حزب العمال الكردستاني والاستخبارات التركية في أوسلو على مدار سنتين، حيث تقول الوثائق إنه خلال هذه الفترة عقد خمس لقاءات بين الجانبين، تم خلاله بحث إيجاد حل سلمي للقضية الكردية وفق المرجعيات الدستورية ضمن مبادرة الانفتاح الديمقراطي التي طرحها رئيس الوزراء التركي رجب طيب اردوغان حيث كان يمثله في هذه المحادثات رئيس الاستخبارات التركية القومية (ميت) هاكان فيدان المقرب جدا من اردوغان وقيمته يوازي قيمة وزير الخارجية احمد داود أوغلو من الناحية الأمنية، واللافت ان هذه الوثائق تكشف عن إطلاع أوجلان على تفاصيل اللقاءات التي جرت وكذلك عن لقاءات جرت بين أوجلان وفيدان داخل السجن إلى درجة ان ورقة الحل التي طرحها أوجلان تحولت إلى أحد بنود البحث خلال المحادثات التي جرت والتي بسببها تم استدعاء فيدان للمثول أمام القضاء.
تقول الوثائق ان المحادثات أفضت إلى اتفاق على مجموعة من البنود وهي:
1- حل القضية الكردية من خلال الحوار وفق المرجعيات الدستورية والقانونية.
2- بحث المسودات المقدمة من أوجلان بشأن الحل الديمقراطي للوصول إلى السلام.
3- تشكيل لجان بهذا الخصوص في مجالات الدستور والسلام والعدالة.
4- تعهد الطرف التركي بإرسال مندوبين إلى أوجلان.
5- تعهد الطرف التركي بوقف سياسة الملاحقة والمضايقة بحق الممثلين والقانونيين المدافعين عن القضية الكردية.
6- وقف العمليات العسكرية والتأكيد على الحل السياسي.
في الواقع، على الرغم من نأي حزب العدالة والتنمية بنفسه عن هذه المحادثات الا أن ثمة مؤشرات تؤكد انه يقف وراءها، منها ما يتعلق بالالتفاف على عدم مثول فيدان أمام القضاء على الرغم من تشدق الحزب العدالة والتنمية بدور القضاء في محاكمة قادة الأجهزة العسكرية والأمنية بعد التعديلات الدستورية الأخيرة، ومنها ما ورد في بنود ( اتفاق أوسلو ) وهي بنود تقارب ( خريطة الطريق الكردية ) التي طرحها اردوغان قبل سنتين، ومنها ما يتعلق بطريقة بإدارة أوجلان لهذا الملف ومضمون طرحه لحل القضية الكردية وكذلك تكتيكات ومواقف حزبه، وكذلك الممارسة السياسية لحزب السلام والديمقراطية ومن قبل حزب المجتمع الديمقراطي، إذ من يربط بين جملة هذه الأمور خلال السنوات الأخيرة لا بد ان يرى ثمة خيطا دقيقا يربط بين جميع هذه الأمور وكان أوجلان بطلها بإمتياز. وما سبق، يؤكد حقيقتين:
1- حقيقة فشل النهج الأمني العسكري في إيجاد حل للقضية الكردية في تركيا.
2- ومن هذه الحقيقة تنبثق حقيقية ضرورة إيجاد حل سلمي للقضية الكردية. والسؤال الأساسي الذي يطرحه الجميع في تركيا اليوم، هو كيف السبيل إلى حل هذه القضية سلميا؟
دون شك، القناعة بأهمية الحل السلمي وضرورته تعنيان توفر مستويات متقدمة من التطور السياسي والاجتماعي في إطار ديمقراطي يسمح بالانفتاح على القضايا الإشكالية وحلها سلميا، ومثل هذه القناعة تعني على المستوى الاستراتيجي أهمية إنجاز حل للقضية الكردية بدلا من تركها إلى ما لا نهاية، في الحديث عن حل سلمي ينبغي التوقف عند ثلاثة عوامل أساسية.
1- ان تركيا بعد نهاية فترة الانقلاب العسكري الذي قام به الجنرال كنعان ايفرين عام 1980 ومن ثم مجيء سلسلة من الحكومات المدنية المعتدلة ولاسيما في عهد الرئيس تورغوت أوزال الذي وصل به الأمر إلى الحديث عن فيدرالية كردية في تركيا.. منذ هذه الفترة بدأت تركيا تشهد سلسلة من الخطوات وان كانت بطيئة في التأسيس لثقافة من شأنها وضع القضية الكردية على سكة الحل السلمي، فقد عدلت الحكومات التركية المتتالية منذ ذلك الوقت مئات القوانين التي كانت تقصي الشعوب والأقليات غير التركية. وفي عهد حزب العدالة والتنمية تم فتح المجال لاتخاذ المزيد من هذه الخطوات.
2 - ان حزب العمال الكردستاني الذي دخل في حرب دموية مع الدولة التركية منذ عام 1984 ورفع شعارات ثورية تدعو إلى إقامة دولة كردستانية في المنطقة، بات ينشد الحل السلمي ضمن تركيا ويطرح العديد من المبادرات ويقف في العمق وراء حزب السلام والديمقراطية الذي هو بمثابه جناح سياسي له في البحث عن حل سياسي يحقق الهوية للأكراد والاستقرار لتركيا.
3 ndash; لعل ما يشجع تركيا وأكرادها على الحل، هو حضور البعد الأوروبي، فسعي تركيا الدائم إلى العضوية الأوروبية دفع بها إلى القيام بإصلاحات ديمقراطية من بينها حل القضية الكردية، إذ ان مسار هذه العضوية تبدو مسارا للممارسة الديمقراطية وتحقيق المعايير الأوروبية.
في جميع الأحوال، يمكن القول انه بعد 14 سنة من اعتقال أوجلان، أفرزت التطورات المتعلقة بالقضية الكردية معطيات على الجبهتين الكردية والتركية من شأنها إيجاد واقع يمكن عليه بناء (خريطة طريق) لحل هذه القضية سلميا، فعلى الجبهة الكردية تبلور تيار سلمي قوي بدعم علني وخفي من حزب العمال الكردستاني، يعمل على إعادة ترتيب أولويات المجتمع الكردي واعداده للانخراط في الحركة العامة في تركيا وفق أسس تقوم على الاعتراف التدريجي بالهوية القومية الكردية والعمل ضمن الأطر القانونية كالبلديات والاعلام والانتخابات والبرلمان.... وتحويل كل ذلك إلى ضغط داخلي وخارجي لإجبار المؤسسة الحاكمة على الاعتراف بهم، ولعل مثل هذا الخيار يحظى بموافقة أمريكية وأوروبية. وعلى الجبهة التركية وعلى الرغم من مخاوف أنقرة من قيام دولة كردية في المنطقة ألا انه برز داخل الأوساط التركية الاقتصادية والثقافية والاجتماعية والحزبية وحتى السياسية تيار يدعو إلى إيجاد حل سلمي للقضية الكردية وذلك من خلال إجراء المزيد من التعديلات الدستورية والقانونية تقر بالوجود القومي للأكراد وتفسح المجال أمامهم في ممارسة شكل من إشكال الحكم المحلي، بما يؤدي كل ذلك إلى المزيد من عوامل القوة والمناعة والتنمية والنمو والاستقرار بدلا من الشقاق والقتل والدمار.
في الواقع، يمكن القول ان ما تحقق يشكل أرضية جيدة للبحث عن حل سلمي للقضية الكردية، ومع توجه حكومة حزب العدالة والتنمية إلى وضع دستور جديد للبلاد تبدو تركيا أمام فرصة تاريخية لإيجاد الحل المنشود لقضيتها الكردية، خاصة وان ثورات الربيع العربي أكدت ان الحرية مطلب لا حياد عنه مهما طال الأمر. معضلة تركيا في كل ذلك تكمن في كيفية الاعتراف بحزب العمال الكردستاني وفتح حوار معه وتحديدا مع زعيمه أوجلان الذي ظل من معتقله يوجه الحزب ويحدد سياساته، مثلما ظل اتارتوك يحكم تركيا من قبره طوال العقود الماضية. ومن دون هذا الاعتراف فأن القضية الكردية تبقى معلقة وتشكل قنبلة مؤقوتة في الخاصرة التركية قابلة للانفجار في أي وقت.
والسؤال هنا، هل كسب أوجلان في معتقله السياسة بعد أن أخفق في الحرب؟