على الرغم من مرور قرابة عام على الأزمة السورية واتساع رقعة الاحتجاجات ضد النظام و وقوع آلاف الضحايا الا أن واشنطن لم تقل أرحل بشكل واضح وصريح للرئيس السوري بشار الأسد كما كان الأمر بالنسبة للرئيس المصري السابق حسني مبارك ومن بعده العقيد الليبي معمر القذافي، ولعل السؤال البديهي هنا،هو لماذا لم تقل واشنطن ذلك حتى الآن؟
دون شك، ثمة اعتبارات كثيرة لها علاقة بالجيوسياسة التي تشغلها سورية من جهة، ومن جهة ثانية لها علاقة بطريقة إدارة النظام للأزمة ونجاحه في جعل الأزمة أزمة دولية أعادت إلى العلاقات الدولية أجواء الحرب الباردة ، ومن جهة ثالثة لأسباب أمريكية لها علاقة بالأزمة المالية التي دفعت بواشنطن إلى الإنكفاء على الداخل خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية. من الواضح، أن الأزمة السورية وبحكم العلاقات التي أقامها النظام خلال العقود الماضية وارتباط ذلك بالصراعات الجارية في المنطقة ولاسيما الصراع مع إسرائيل لم تعد أزمة داخلية فقط لها علاقة بالحرية وتغيير النظام فحسب، وأنما باتت تعبيرا عن منظومة إقليمية واسعة، تمتد من طهران إلى الجنوب اللبناني عبر دمشق وربما بغداد المالكي وبعض القوى الفلسطينية،وعليه فان هذه المنظومة تبدو كتلة واحدة معنية بما يجري في سورية،وهي على مستوى التعاطي تقف في جبهة واحدة وتمتلك من القدرة على تفجير أهم المناطق الحساسة في الشرق الأوسط والخليج العربي ، ومثل هذا الأمر يعد أمرا في غاية الدقة والأهمية في حسابات واشنطن التي باتت تبحث عن نتائج مضمونة لأي عمل عسكري هنا أو هناك خاصة بعد ما جرى لها في أفغانستان والعراق، كما أنها لا تتحمل القدرة على المغامرة في منطقة تقع إسرائيل في قلب استراتيجيتها، نظرا لطبيعة العلاقة العضوية بين تل أبيب و واشنطن .
ويبدو أن الذي عقد من هذا المشهد الإقليمي للأزمة السورية وخفف من تأثير الدورين التركي والخليجي هو دخول روسيا والصين بقوة على خط الأزمة واستخدامهما الفيتو مرتين في مجلس الأمن الدولي، وهو ما أعاد أجواء الحرب الباردة للعلاقات الدولية،ولعل سبب الموقف الروسي وبدرجة أقل الصيني هو أهمية موقع سورية في الصراعات الدولية الجارية،وأهمية هذا الموقع في الحسابات الخاصة للدولتين من جهة، ومن جهة ثانية لتجاهل واشنطن والغرب عموما مصالح هذه الدول في إدارة الأزمات العالمية والقضايا الحساسة بالنسبة لهما، وهو ما يجعل المواجهة السياسية والدبلوماسية والاستخباراتية بين هذه الأطراف سيد الموقف،انطلاقا من تمسك كل طرف بمصالحه وتطلعاته.
دون شك، طريقة تعامل واشنطن مع الأزمة السورية على هذا النحو لا يعني أنه يريد الإبقاء على النظام وأنما تغييره عبر استراتيجية مختلفة لما جرى في ليبيا نظرا لاختلاف الخصوصية السورية والخوف من ان يؤدي الخيار العسكري إلى الانفتاح على المجهول بسبب طبيعة المنظومة الإقليمية والدولية المرتبطة بالأزمة السورية،وعليه يمكن القول ان واشنطن تتبع استراتيجية دفع النظام إلى الانهيار من الداخل عبر سلوك مركب يعتمد على التصعيد التدريجي للعقوبات وزيادة الضغط السياسي والدبلوماسي في المحافل الدولية، وإعطاء دور كبير للدول الإقليمية ولاسيما تركيا ودول الخليج العربي وكذلك الجامعة العربية ، والأهم دعم المعارضة السورية والتغاضي عن تسليحها، إذ باتت العمليات التي ينفذها الجيش السوري الحر واضحة من حيث التكتيك والاشتباك والأسلحة ومواقع الاستهداف وزيادة الأعداد... في مؤشرات على أنه يتلقى المزيد من الدعم والتدريب والتوجيه. فواشنطن تريد في النهاية إنهاك النظام وتجريده من عوامل قوته الأمنية والعسكرية والاقتصادية في الداخل بغية دفعه إلى الإنهيار تحت وقع هذه العوامل. دون شك، مخاطر النهج الأمريكي تبدو كبيرة جدا على سورية وشعبها ، سواء في جعل النهج الأمني سيد الموقف حتى النهاية وهو ما يعني المزيد من القتل والضحايا والتدمير، أو لجهة تفتيت النسيج السوري الاجتماعي والوطني ومخاطر الانزلاق إلى الحرب الداخلية تحت شعارات وأسماء عديدة وإطالة عمر الأزمة السورية،وهو ما يعني في حقيقة الأمر أن ما يعني واشنطن بالدرجة الأولى هو مصالحها ومصالح إسرائيل وليس شكل الحكم في سورية أو دماء السوريين التي تراق يوميا.