لم تعد الكلمات تكفي، ولا النصائح او التوجيهات تقنع احداً، وعجزت وسائل الاعلام عن نقل الافكار والمقترحات الى اهل السلطة لان هؤلاء يتمترسون في اماكنهم لا يرغبون ان ينازعهم احد متوهمين ان العناية الالهية منحتهم السلطات الابوية لقيادة البلد دون ادنى شعور لما يحصل كل يوم من خراب ودمار وتحطيم الشخصية العراقية التي اصبحت قياساً للشعوب الاخرى صفرا على الشمال.

يقودنا الكلام عن تشبث السيد نوري المالكي رئيس مجلس الوزراء بالسلطة وتحكمه بالقرارات التي لم تثمر الا الخراب والدمار غير عابئ بما قد يحدثه هذا الامر من فعل سؤ للعراق ولشعبه المحتاج الى النهوض اخلاقياً واقتصادياً وسياسياً، وغير مهتم بأن مواقفه السلطوية ستودي الى زعزعة اركان البلد وتقسيمه الى دويلات طائفية ومذهبية وهذا مانراه ونشهده يحصل ولو بشكل بطيء هذه الايام. ان اعتماد سياسة التمييز بين فئات الشعب العراقي، والاطاحة بالاتفاقات التي توقع بين الشركاء مما يعني التجرد عن الاخلاق، وزرع النهج الطائفي ستؤدي الى هتك البنية الاجتماعية للعراقيين من جهة، وترسيخ النهج الدكتاتوري من جهة اخرى.

لسنا ضد السيد المالكي ولا نريد ان نكون كذلك ولكننا ضد من يقف بوجه تصحيح مسار العملية الديمقراطية في البلد، هذه العملية التي اصيبت بمرض الدكتاتورية وهاهي تدنو رويدا رويدا نحو مفارقة الحياة ان لم تلاحق وتمنح جرعات الامل من جديد.

وبعيدا عن اطلاق النظريات او الحكم على النوايا نقول ان السيد نوري المالكي اعطانا الكثير من المبررات التي تجعلنا نعتقد انه يطمح بالتمديد له لولاية ثالثة اما من خلال ممارساته شخصياً واقواله المستبطنة لفكرة التمديد او من خلال افلات مؤيدية والمحيطين به بالتصريح عن انه لا يوجد في الدستور اية مادة تمنعه من الترشيح لولاية ثالثة ورابعة وربما عاشرة ولربما لغاية تأهيل احمد المالكي لاخذ مكان والده ولنعود الى ذات معزوفة صدام حسين وحسني مبارك والقذافي ومن لف لفهما.

اما الشعب العراقي، فلديه قناعة تامة بعد ولايتين للسيد المالكي انه لم يستطع اتخاذ اية خطوة في سبيل تحقيق الشراكة الوطنية او بناء الدولة على اسس مدنية عصرية وكل ما فعله خلق ازمات الواحدة تلو الاخرى هدفها البقاء في المنصب اما الشعب العراقي فكان نصيبه الحرمان وضياع الامل اذ ان السلطة التي يقودها السيد المالكي حجبت عنه اية بارقة امل في العيش بعز وكرامة.

ولانه يفترض بالانسان السوي ان يتعض من تجارب الايام السالفة ولا سيما في الحقل السياسي نستذكر بعض تصريحات السيد المالكي السابقة ففيها الاجوبة القاطعة والصريحة لما في نفسه من تمنيات لا تستقر ابداً على حال ثابتة.

انتخب السيد المالكي لاول مرة رئيساً لوزراء العراق في شهر حزيران عام 2006 بعد ان اجبرت اعتراضات الكتل السنية والكردية السيد ابراهيم الجعفري رئيس حزب الدعوة تخليه من منصبه كرئيس لمجلس وزراء العراق.

بتاريخ 24 كانون اول عام 2010 نشرت الصحيفة الامريكية (وول ستريت جورنال) اول تصريح لرئيس وزراء العراق الجديد السيد نوري المالكي حيث قال: quot;لم ارغب باخذ هذا المنصبquot;، واضاف: quot;قبلت به فقط لانه يصب في صالح المصلحة الوطنية ولن اقبل به ثانيةquot;.
وكرر المالكي عدم رغبته بتولي مسؤولية رئاسة الحكومة قائلاً: quot;ان قرار الموافقة على المنصب كان اثقل من الجبلquot;، واضاف: quot;آمل بان انتهي من الامر حتى قبل هذه الولاية موضحاًquot; quot;ارغب بخدمة شعبي من خارج وسط المسؤولين الرفيعي المستوى ربما من خلال البرلمان او العمل المباشر مع الشعبquot;.

كلام جميل ومؤثر وفيه ايثار ايضاً، فهذه المقدمة، والمقدمات نظرياً توحي بالنتائج، اشعرتنا اننا امام شخص كل همه ان يعمل مباشرة مع الشعب وليس الاختباء في المنطقة الخضراء المحصنة، شخص لا تهمه المواقع والكراسي بقدر ما تهمه مصلحة الشعب، ولكن بعد فترة من الزمن ومع حصول بعض الاحداث التي تستدعي ايثاراً حقيقياً من رأس السلطة التنفيذية تبين للجميع ان المقدمات التي وعدنا بها المالكي اظهرت نتائج مخالفة ومعاكسة للواقع.

فبسبيل الكرسي، كرسي رئاسة الوزراء قائل السيد المالكي ليبقى في المنصب الذي عده قبل سنوات بانه quot;اثقل من الجبلquot; وقتاله هذا وضع العراق على شفا هاوية التخندق والتقسيم.

من الامور المثيرة للاهتمام ان السيد نوري المالكي لم يعد يعير الرأي العام اية اهمية فتراه يقول اشياء سرعان ما يعمل بخلافها دون اي توجس من المحاسبة ففي اثناء اجراء انتخابات عام 2010 قال المالكيquot;انه عازم على تسليم السلطة بشكل سلمي وان الحديث عن عمليات تزوير غير مؤثرةquot; ولكن بعد اعلان النتائج تراه فعل المستحيل في سبيل البقاء في السلطة رغم خسارة ائتلافه اذ حصلت قائمتة التي تدعى quot;دولة القانونquot; على 89مقعداً فيما حصلت القائمة العراقية التي يرأسها الدكتور اياد علاوي على 91 مقعداً مما يحتم على رئيس الجمهورية تكليف الدكتور علاوي بتشكيل الوزارة.

في تلك الايام الصعبة قامت الدنيا ولم تقعد وبدأ الكثيرون من المحيطين بالمالكي يشككون بنتائج الانتخابات مطالبين باعادة العد والفرز في بغداد وهكذا كان الا ان النتيجة بقيت هي هي.

استمرت ازمة التكليف زهاء سبعة اشهر ذاق العراق خلالها الامرين واثناء ذلك كان طبالوا المالكي وزماريه ينشرون غسيلهم الطائفي بدون خجل قائلين ان quot;نصرة المذهب تتمثل ببقاءه في السلطة، وهو الرجلquot;الاوحدquot; لمنصب رئيس الوزراء وان البديل الوحيد للمالكي هو المالكي نفسه بل وذهب النائب عباس البياتي ابعد من ذلك فقال ان ذهب المالكي فعلينا استنساخه...بمثل هذا الجدل التافه بقيت الساحة العراقية طوال تلك الفترة تغلي والشعب العراقي يعاني الامرين دون ان يرف للمالكي وحاشيته اي جفن وهذا ما دعا الدكتور اياد علاوي الى التنازل عن حق كتلة العراقية في تشكيل الوزارة لان البلد لم يعد يحتمل، اما المالكي فقد وقع مع السيد مسعود البارزاني في 8/8/2010 اتفاقية اربيل ضامنا موقع رئاسة الوزارة له هذا الموقع الذي لم يعد quot;اثقل من الجبلquot;كما اشار عام 2006 بل اصبح quot;احلى من العسلquot;.

وكما لا يخفى على احد لم تكن اتفاقية اربيل سوى جواز مرور مؤقت سرعان ما تملص السيد المالكي من معظم بنودها بدون اي سند اخلاقي مطبقا نظرية ميكيافيللي بشكل دقيق معتمداً على بعض القضاة الذين باعوا ضمائرهم في سبيل ملء جيوبهم بالمال السحت الحرام والتمتع بالمناصب التي هم فيها.

لم تهدأ الساحة العراقية طوال الفترة الماضية فالشراكة الوطنية بقيت كعنوان دون واقع حقيقي والمواقع الامنية ابقاها المالكي في حوزته دون اية مشاركة من الكتل السياسية الاخرى وجعل الجيش وفرقه العسكرية اداة طيعة في يده فيما اسكت اصوات الصحافة والاعلام داخل العراق وهكذا بدأ النزوع نحو نوع من التسلط والدكتاتورية لا يبعد كثيراً عن نهج سابقه صدام حسين.

وبدلاً من العمل الدؤوب لرفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي والثقافي للطائفة الشيعية التي يعتبرها المالكي سنده الانتخابي، فان ارهاباً فكرياً عنيفاً مورس ضدها من قبله كالتخويف من المقابر الجماعية وعودة حزب البعث والارهابيين الى السلطة وتشجيع بعض الممارسات التي لاتمت بصلة الى جوهرالتشيع بهدف تجهيلها واستغلال هذا الجهل لتكون سندا له في الانتخابات، وبذلك بدأ العراق يشهد ظاهرة جديدة هي الشوفينية الشيعية المستحدثة قائدها نوري المالكي ومسعاها البقاء في السلطة فقط.
بتاريخ 5/2/2011 اعلن السيد المالكي لوكالة فرانس بريس quot;انه لن يسعى الى البقاء في منصبه لولاية ثالثة مؤيداً فكرة تثبت دورتين فقط بشكل دستوريquot;. وقال رداً على سؤال حول الاصلاحات الدستورية التي ينادي بها: quot;اسعى منذ زمن الى القيام باصلاحات في الدستور بالنسبة لامور كثيرة بينها تحديد ولاية رئيس الوزراء بمدتين ليس اكثرquot; وتابع: quot;ان الدستور لا يمنع ان تكون هناك دورة ثالثة ورابعة وخامسة لرئيس الوزراء لكن قراري شخصياً، ومنذ البداية، ان لا تكون هناك اكثر من دورتين وقد اعلنت ذلك سابقاً اثناء الانتخاباتquot;. (انتهى التصريح).

ان السيد المالكي يقول ذلك ويوحي للقارئ انه مع قصر ولاية رئيس الوزراء بفترتين ولكنه يستدرك ليقول quot;بشكل دستوريquot; ليحفظ خط الرجعة وهو يعلم يقيناً ان تعديل الدستور امر صعب للغاية ويكاد يكون مستحيلاً في هذه الظروف اذ ان القيام بذلك بشابه الى حد كبير رفع غطاء صندوق باندورا حيث تتطاير الشرور دون امكانية ايقافها مهما كلف الامر. لو كان صادقا في قوله، ولو كان يتمتع بصفات الزعامة الحقة لاعلن انه سوف لن يرشح لفترة مقبلة رغم ان الدستور لايمنعه من ذلك، ويتمنى لن يأتي من بعده كل الخير في تحمل تحمل المسؤولية.. اما اللعب هكذا على الالفاظ ففيها نوع من الدونية السياسية المستحدثة ولاتقترن بأي حال من الاحوال بالذكاء اوالوقار.

وان صدقنا المالكي في رغبته بولايتين فقط فلماذا يدأب ويكرر في مناسبات عديدة quot; انه يعتبر رئاسة الوزراء مسؤولية شرعية وامانة دينية سوف لن نسلمها لأي طرف من الممكن ان يخونها quot;؟؟ اليس ذلك تعبير واضح لوجود نية في الاحتفاظ بالسلطة بذرائع دينية لامد غير محدود؟؟ وماذا سيحدث ان افترضنا جدلا ان الانتخابات القادمة ستسقط المالكي؟؟؟ هل ستحصل حرب؟؟ ام ماذا؟؟

من الثابت ان قوال السيد المالكي حول تحديد فترة ولايتين لايعني البتة عزوفه عن السلطة بقدر ما هو للاستهلاك الداخلي، ففي الوقت الذي يصرح quot;اعلامياًquot; انه مع الولايتين فقط يقوم ائتلافه وحزب الدعوة والحاشية بالبدء باستعدادات واسعة لتحقيق اعادة انتخابه للمرة الثالثة والاستعانة بمحللين وسياسيين واجهزة اعلام والقيام بجولات الى المحافظات واستعمال اجهزة الدولة ومواردها لتهيئة الرأي العام لهذا المسعى بالتزامن مع اضعاف جميع منافسي المالكي المحتملين حتى في التحالف الوطني الذي ينظوي ائتلاف دولة القانون تحت لوائه.

بتاريخ 2/12/2012 صرح السيد فاضل محمد جواد والمستشار القانوني للمالكي ان quot;الدستور العراقي لم يحدد مدة تولي رئاسة الوزراء لان العراق بلد نيابي وان الكتلة الاكبر هي التي ترشح الشخص المعني لتولي الوزارة لذا فانه لا يوجد عائق قانوني يمنع تولي رئيس الوزراء ولاية ثالثة.

وعلى خطى رئيسه قال جواد quot;اذا ارادت الكتل السياسية ان تحدد فترة رئيس الوزراء لولايتين فقط فعليها ان تجري تعديلاً دستورياًquot;. بعد هذا التصريح انبرت مريم الريس، وهي ايضاً من مستشاري المالكي القانونيين فكررت ذات المقولة ولو بكلمات مختلفة.

طبعاً لم تكن هذه التحركات سوى محاولة لجس نبض الشارع العراقي حول هذا الموضوع سيما وان الفترة التي امضاها السيد المالكي في السلطة ولغاية يومنا هذا اتسمت بالفوضى والفساد والمحسوبية وسرقة المال العام وتدني مستوى الخدمات ورواج الافكار الطائفية والمذهبية ورغم كل ذلك فانه لا يوجد اي مؤشر ينبيء بان الامور ستتغير الى الاصلح.

ان العراق بحاجة الى رئيس وزراء يمتلك خبرة واسعة في مجالات المال والاقتصاد والادارة ليتمكن من توفير المستلزمات للشعب العراقي التواق الى العيش بكرامة كما تعيش الشعوب الاخرى... ان هذا الامر لا يتم ويتحقق ان بقي حزب المالكي بالسلطة فهو بالنهاية حزب دينو سياسي ويمثل طائفة واحدة ويحمل افكارا تتقاطع كثيرا عن افكار المشروع الوطني العراقي الواعد.

ان الفترة المقبلة في العراق ستكون حبلى بالمفاجأت والصراع في الساحة السياسية العراقية سيكون اعتى من ساحات المبارزة الرومانية، فبالرغم من ان مجلس النواب اصدر قانونا يحصر ولاية مجلس النواب بفترتين فقط، وان هيئة المساءلة والعدالة اجتثت القاضي مدحت المحمود رئيس المحكمة الاتحادية الذي رضي بذل ان يستعمله المالكي لتنفيذ رغباته مما اساء لسمعة القضاء العراقي ومرغ جبينه بالتراب، الا ان السيد المالكي وفي عملية تمتلك نزعة سادية بارزة كشف عن اخر قناع له في مجال رغبته بالبقاء فقال صراحة وفي خطاب شمشوني ان قانون حصر الولايتين غير قانوني وان المحكمة الاتحادية ستنقضه دون ان ينتظر رأي المحكمة ذاتها مما يدلل على مقدار تأثيره عليها بحيث يتحدث عن احكامها قبل ان تصدرها هي !!!، اما هيئة المساءلة والعدالة فقد اقال رئيسها رغم انها تابعة لمجلس النواب وليس للسلطة التنفيذية وعين بديلا عنه احد اعضاء حزب الدعوة المؤتمرين باوامره ثم اعاد مدحت المحمود الى مكانه ليختم له باصابعه العشرة وهكذا لم يبق من فصول هذا الانقلاب سوى تعيين مجلس قيادة الثورة من اعضاء حزب الدعوة وارسال قطعاته والويته لاحتلال بغداد واعلان البيان الاول وهذا ما يتوقع ان يحصل قريبا ان لم يتدارك المخلصون هذا الامور ويعيدون هذا الشخص الى حجمه الطبيعي والامور الى نصابها.

واخيرا كيف يمكن التنبوء بمستقبل العراق السياسي؟ وكيف يمكن استقراء احداثه المقبلة؟ لايمكننا الا الاشارة الى مقولة الكاتب الالماني الفذ امانوئيل كانت الذي عاش في الفترة التي اعقبت الحروب الدينية في اوربا ( 1559-1715) فقال quot; في النهاية سيشهد العالم سلما وازدهارا، وان ذلك سيتحقق اما من خلال قادة يحملون رؤية انسانية ثاقبة او بعد سلسلة من الكوارثquot;.

اتساءل ان كان القادة الذين هم في السلطة يمتلكون الرؤية الانسانية الثاقبة ام ان العراق بأنتظار سلسلة من الكوارث؟