يتحدث الكاتب اللبناني أمين معلوف في كتابه القيم " الهويات القاتلة " عن الاثر الذي تتركه فكرة تعريف الهوية في تشكيل ملامح الانقسام والصدع الجغرافي في البنية المجتمعية حيث يقول " ان كل من يجاهر بهوية اكثر تعقيدا , يجد نفسه مهمشا ". وهو ما ينطبق بشكل دقيق على كثير من بلدان العالم العربي المعقدة في بنيتها السكانية وفي تركيبتها القومية والدينية التي تحتم على المرء ان ينظر لها بعمق اكبر لمعرفة دورها في تشكيل صورة الصراع الحالي الذي يحرق بنيرانه الكثير من المدن التي تحولت الى اطلال لم يسلم منها الحاضر ولم يأمن منها حتى التاريخ الذي حُكم عليه بالاعدام لاسباب ليست بالبعيدة عن فكرة الهوية ذاتها.&
يعد العراق من بين اكثر الدول التي يمكن ان تخضع لاختبار هذه الفرضية في ظل ما شهده هذا البلد من صراعات عنيفة بعد 2003 بفعل التنافس من اجل الهيمنة والتحزب على اساس التمايز الهوياتي لادارة البلد. فقد كان هناك من جهة سعي ما من اجل التعويض السياسي لمظلومية الحرمان من السلطة لفترة طويلة من الزمن تم فيها اقصاء مكون عراقي اصيل وفقا لقاعدة الجذور والاصول والتشكيك بالهوية وعمقها التاريخي ومجالها الجغرافي الذي يمتد الى دولة تتعارض معها من جهة اخرى الهوية الجمعية للمنظومة السكانية التي انحدر منها راس الهرم الذي كان يمثله النظام العراقي السابق. وهي الاخرى ايضا تمتاز بكونها هوية عابرة للجغرافيا العراقية.&
هذا التوصيف الهوياتي صاحبه بعد الاحتلال قدر كبير من التمايز المُسيس للمجتمع على اساس الانتماءات الضيقة المشحونة وفقا لثنائيات ( الشيعي – السني ) وفي احيانا اخرى وبخط متواز فكرة التمايز القومي ( العربي – الكردي ) المُعزز بحدود للتقاطع الجغرافي بين مجالات نفوذ وتاثير هذه الهويات التي باتت مصدر صداع كبير لكثير من العراقيين وفقا لما افضت اليه من حروب وانتكاسات اسهمت في فكرة حرب الهويات ورغبة بعضها في ابتلاع البعض الاخر مكانيا واستراتيجيا وبالطريقة التي قادت فعليا الى تمزيق الهوية الجمعية التي باتت مهددة اكثر مما مضى بالضياع النهائي الذي سيحيل فكرة الوطن الواحد الى ذكرى تاريخية عابرة.&
لعبت وسائل الاعلام العراقية والعربية دورها المؤثر في تحريض هذا الصراع والتعريف الهوياتي للفرد والمجموعات العراقية التي باتت احاديثها وجدالاتها بل وحتى كثير من صراعتها تقوم في الاساس للوصول الى غاية محددة اساسها اثبات كل طرف الى الاخر بان اسس بناء هويته اقل شأنا واضعف بنيانا من ان يكون قادرا على الغاء الخصم , والى الحد الذي اصبح فيه تعريف هذا الخصم ملحقا بصفة مذهبية او قومية لتشكيل صورة الهويات المتصادمة في الفضاء المكاني العراقي. وقد نجحت هذه الوسائل في ترسيخ مكانة هذه المدخلات التي سهلت فيما بعد عسكرة المجتمع العراقي في ظل الخشية التي باتت تتهدد كل هوية من الهويات الرئيسية التي يتشكل منها البلد , وقد وصل الامر في هذا الخصوص الى اعادة رسم ملامح وهوية المدينة العراقية على اساس هذا التمايز الذي بات مصدرا لتوصيف النطاقات الحضرية الكبيرة التي تتسم بكونها نطاقات هوياتية – طائفية اسهمت بشكل كبير في تقليص مساحة النطاق الجغرافي المتسامح في هذه المدن عبر تقزيم واحيانا الغاء النطاقات المتنوعة الهويات فيه.&
ازمة الهوية هذه هي التي كانت تقف بقوة مع عناصر اخرى في سقوط الموصل وفي خلق الهوة بين السكان والمؤسسة العسكرية العراقية وكذلك كانت تقف وراء انتاج التطرف الذي تمارسه داعش بآلية هوياتية تعمل وفقها على استقطاب مذهب على حساب مذهب اخر في لعبة جيوبولتيك خطرة ومؤثرة في رسم ملامح المستقبل العراقي. حيث اصبحت الهوية في ظل هذا التوصيف هي اساس تحديد الآخر الذي بات يعمل من جهته على الارتداد في كثير من الاحيان الى قاعدته الهوياتية لتثبيت مصادر الردع التي تهيئه لمواجهة فكرة الالغاء التي تبرز بشكل واضح في خطابات وخطط داعش التي تحولت هي الاخرى الى ميدان مهم للتحليل الجيوبولتيكي – الهوياتي في العراق والشرق الاوسط ككل.&
في ظل هذا المشهد لم يكن غريبا ان يتم استخدام تعبيرات من قبيل الجيش الصفوي او المليشيات الايرانية التي تعكس دلالات ومعان هوياتية جغرافية محددة تسهم في استحضار تاريخ طويل من الصراع الذي يراد له ان يبقى متمددا ومتقدا بلا نهاية. وهي استراتيجية يريد من وراءها داعموا داعش العمل على ايصال رسالة الى الكتلة السكانية المؤسسة على قاعدة هوياتية محددة , بان من هو مهدد في صراع الحملة العراقية الحالية ضد داعش وخاصة في تكريت ذات الثقل الجيوبولتيكي المهم هو في الحقيقة الدين – المذهب. وفي حالة الموصل وكركوك يتم تصوير الرسالة بطريقة اكثر تعقيدا مفادها ان الخطر هناك مركب عبر اضافة بعد اخر اليه ممثلا بالتهديد القومي. وفي كلتا الحالتين يتم استقطاب الشباب المغرر بهم على اسس هوياتية محددة اسهمت بشكل اساس في تحديد مسار جغرافيا الارهاب في العراق من حيث مصادر تجهيز داعش بالمقاتلين والاموال وممرات العبور والملاذات آلامنة.&
الادراك الحكومي الذي تنبه مؤخرا لخطورة هذه القاعدة في توصيف التفاعلات السياسية والمجتمعية في ازمنة الصراع المفتوحة في العراق , كان عنصرا مهما في تغيير خريطة المجال المكاني الذي سعى داعش الى تشكيله هوياتيا في المناطق السنية. فالحملة العراقية ما كان لها ان تنجح لولا مشاركة العشائر السنية في القتال الى جانب القوات العراقية بمختلف مسمياتها. وهو ما اسقط عن هذه الحملة فكرة التمايز الهوياتي التي كان الاخرون يستغلونها لتجييش الطوائف العراقية ضد بعضها البعض. وهو ما يشكل نجاحا يتطلب توفير كل عناصر التطمين الممكنة التي تديم زخمه , لما له من دور محتمل في خلق بارقة امل بسيطة لنا جميعا في اعادة تشكيل الهوية العراقية من خلال التاكيد في الممارسة السياسية والعسكرية بان المهدد الحقيقي في البلد هو الجغرافيا العراقية بعنصرها المكاني الاوسع الذي يشمل فكرة الوطن مُختزلاً لكل التوصيفات الضيقة للهوية.&
في هذا الصدد نشير الى الارتدادت التي تشهدها الجغرافيا المتطرفة في العراق حيث تشير بعض المواقع الالكترونية الى العناوين الخبرية وهي ملحقة بتوصيفات هوياتية محددة توضح بشكل جلي حجم السخط الشعبي الذي بدا بالتشكل في هذه الجغرافيا التي باتت يوما بعد يوم مستعدة للانتفاض على املاءات داعش في رسم ملامح هويتها المناطقية. حيث ذكر بعض المواقع مؤخرا ان تنظيم داعش قام باعدام ثلاث طيارين من الضباط في الجيش العراقي السابق في الموصل. الامر الذي يعني بان دلالات تشكيل الهوية والخصم في هذه المناطق بدات بالتساقط حيث اكتشف عدد كبير من المواطنين هناك بان من يهدد حياتهم ليس من وصف بالخصم الذي يفترض به وفقا لخطاب داعش بانه هو من يمارس هذه الافعال وليس الراعين الرسميين لصياغة الهوية في تلك المناطق التي باتت في ظل هذا التهديد الوجودي مستعدة للخروج عن صمتها مستنجدة بالهويات الاخرى لتخليصها من قمع داعش. وهي اشارة تاكيد بان الهويات الفرعية حين تتهدد فهي تلجأ في آلية دفاعية ناجحة باتجاه الهوية الاعم والاشمل التي يمثلها الوطن.&
حين تمتزج التوصيفات الهوياتية بقضايا ذات علاقة بفكرة التمايز السياسي والثقافي والمناطقي مشحونة بمساعي اثبات التفوق الديني - المذهبي والقومي , فان تناقضات تعريف الهوية تتحول حينها الى قنبلة موقوتة قابلة للانفجار في اي لحظة مخلفة وراءها الالاف الضحايا ومئات الحرائق التي تبقى مصدرا مهما لتغذية الصراع في المستقبل. وهو ما يحتم على الحكومة العراقية الاحتكام الى اعلى اشكال الانضباط في الحملة الحالية الناجحة ضد داعش عبر ابعاد اثر عناصر هذا التمايز لما له من دور في رسم الملامح الهوياتية وانعكاساتها المفصلية على هذه الحملة العسكرية التي نمني النفس بانها ستفضي الى اعادة النظر في عناصر الضعف الجيوبولتيكية التي اسهمت في انتاج داعش وتحولها الى لاعب مؤثر بهذه الطريقة في العراق وبقية المنطقة.&
&
اكاديمي عراقي&
التعليقات