بعد ثلاثين عاما من الكفاح المسلح الذي بدأه حزب العمال الكردستاني بزعامة عبدالله اوجلان منذ عام 1984 في تركيا بهدف ( تحرير وتوحيد كردستان )، والذي أودى بحياة أكثر من 40 ألفا من طرفي الصراع ولم تنته إلى نتائجها المرجوة، مما مهد الطريق لمحاولات حل سياسي قام به أولا رئيس الوزراء تورغوت اوزال 1991 عبر الوسيط الكوردي ( جلال الطلباني )، لكنها لم تكلل بالنجاح بعد الموت الغامض للمفاوض التركي ( أوزال ). جرت أكثر من محاولة في هذا المسار ولكنها فشلت حتى بعد إلقاء القبض على زعيم الحزب ( أوجلان ) في كينيا 1999، بعد استغناء الأسد الأب عن خدماته على أثر التحشدات التركية على الحدود السورية بغية القضاء على العمال الكردستاني في سوريا.
&
حزب العمال الكردستاني تراجع عن مطالبه لاحقا وأكتفى بالكونفدرالية عبر زعيمه من سجن ( امرالي ), لكن العملية لم تلقى آذان صاغية من الطرف الرسمي التركي، إلى أن توّجت الجهود الإيجابية في شهر آذار 2013 والنداء الذي أرسله ( أوجلان ) من سجنه ليعلن بداية مشروع السلام في تركيا و(نهاية الكفاح المسلح ) بين حزبه وحكومة أردوغان بعد وساطة من جانب أقليم كوردستان-العراق. ونصّت بنود الاتفاقية على أن يلقى عناصر الكردستاني السلاح، وتقوم الحكومة بحزمة من الإصلاحات تجاه الكورد، ويتم التعامل وفق مبدأ المواطنة والإقرار بحقوق ثقافية وتوسيع الإدارات المحلية في المناطق الكوردية وذلك ضمن فترة زمنية محددة.
&
جدد ( أوجلان ) دعوته هذا العام أيضا عبر بيان مباشر في عيد النوروز الكردي آذار2015 لينهي وبشكل تام حقبة الكفاح المسلح، وانخراط الحزب في الحياة المدنية من خلال ممثله ( حزب الشعوب الديمقراطية) الذي يسعى بدوره لدخول معترك الإنتخابات البرلمانية هذا العام ( يونيو2015 ) متأملا تجاوز نسبة 10% لدخول البرلمان بعد تجاربه السابقة بقوائم انتخابية فردية.ولعل نجاح عملية السلام هذه ستكون لها انعكاسات ايجابية في الداخل التركي أولا، حيث أن تحقيق السلام يعتبر انجازا لحكومة أردوغان في وضع حدّ للصراع الدموي الدائر منذ عقود لإيجاد حلّ سياسي للقضية الكردية لديه، سيما وأنّ حزبه ( العدالة والتنمية ) يحظى بدعم الكورد، ويضم في صفوفه العديد من البرلمانيين من أصول كردية، وبذلك سوف يكسب المزيد من أصوات الناخبين الكورد في الانتخابات المقبلة. ثانيا: أردوغان سيحظى بمركز أقوى في معركته مع المعارضة التركية، من خلال التحالف مع (حزب الشعوب الديمقراطية الموالي لأوجلان)، وتمنحه الفرصة بالقيام بتغييرات جوهرية فيما يخص الوضع الداخلي التركي، والذي يعتبر أردوغان أحد ( رموز) الإصلاح وحتى الإنقلاب على الأتاتوركية وتقاليدها، وهذا بالطبع سيصبّ في صالحه وأجندة حزبه العدالة والتنمية المستقبلية في المنطقة.
&
أنّ حلّ المشكلة الكردية سيفتح الباب أمام تركيا للدخول في النادي الأوروبي، مما سينعكس إيجابيا على الوضع الإقتصادي في تركيا عموما وكذلك على مستقبل الكورد. فأكثر من عشرون مليون كوردي يعيشون في تركيا( الجزء الأكبر من كردستان )، سيمهد الطريق أمامهم ومن خلال عضوية تركيا في الإتحاد الأوروبي للإندماج والتفاعل مع الثقافة الأوروبية المتطورة اقتصاديا واجتماعيا والممارسات الديمقراطية، وهذا سيساهم في بناء مجتمعات متحضرة بعيدا عن التطرف الديني الصاعد مؤخرا في منطقة الشرق الأوسط، وتأثير ذلك على العراق وسوريا، حيث التواجد الكوردي. أنّ نجاح النموذج التركي - الكردي بعد عملية السلام، سيتوج ببروز (تركيا العلمانية المسلمة)، لتكوين جبهة أكثر قوة في مواجهة المشروع الإيراني ونفوذه في العالم العربي والمنطقة عموما.
&
تركيا تمتلك علاقات سياسية وتجارية مميزة مع أقليم كوردستان،حيث يبلغ حجم التبادل الإقتصادي معها مليارات الدولارات سنويا، وبات أردوغان يدرك أن الكُرد في الشرق الأوسط من الممكن التحالف معهم استراتيجيا،وذلك في صراعها مع ( الإمبراطورية الفارسية )، ولهذا نجد دورا فاعلا لحكومة كردستان العراق في مشروع السلام بين أردوغان وأوجلان، وامتلاك البرزاني للملف الكردي في سوريا، مما يسهل الطريق للدور التركي الفاعل في سوريا، في ظل تقاربات تركية- سعودية تجاه الثورة السورية، ومستقبل الأسد ونظامه.
&
هذه اللوحة الإيجابية ستكون واجهة تركيا ودورها في المنطقة،وطريقا لها نحو الإتحاد الأوروبي، وهذا يعتمد على مدى استيعابها وتفهّمها لقضية الكورد، والذين بدورهم يسعون لبناء حلف استراتيجي مع تركيا، لترسيخ عملية الإستقرار في المنطقة، ومواجهة خطر الإرهاب المتمثل بداعش وغيرها من القوى الظلامية،ومساهمة تركيا في الإنتصارات التي حققتها البيشمركة والقوات الكوردية ضد داعش" معركة كوباني" ووقف الزحف الإيراني في المنطقة الذي لايقلّ خطرا من نفوذ داعش والقاعدة وامتدادها، ودعمها للإرهاب وتغذية الجماعات الشيعية وتحريضها.
&
إنّ فشل مشروع عملية السلام سيكون كارثيا على الطرفين، وسيمنح انتصارا للحلف الإيراني في المنطقة" العدو اللدود للقضية الكردية" ومحاولاته كسب ورقة حزب العمال الكردستاني من خلال دعمه لوجستيا في سوريا وقنديل، واستعماله كقوة عسكرية لخلق الفوضى، وزعزعة المنطقة والبحث عن وكلاء يحاربون بدلا عنها.
&
أن التقاربات التركية- الكردية ومستقبلها باتت مرهونة بين أردوغان (السلطان العثماني العلماني)،وأوجلان المالك لمفاتيح القضية الكردية داخل كردستان تركيا،ومن الممكن أن نشهد تركيا جديدة وفق شراكة سياسية بين الأتراك والكرد سيكسب الطرفين ثمارها خلال السنوات المقبلة.
&
كاتب كردي سوري. لندن
التعليقات