لكل زمانٍ مالئُ دنيا وشاغلُ ناس، ‏وكذلك كان المتنبي في زمانه. ‏وفي العقود الأخيرة يتجلى معالي الدكتور الشاعر النادر معالي (الوزراء)، ‏غازي القصيبي مالئاً الدنيا، وشاغلاً الناس، ومبهراً أهل الإبداع والإدارة والفكر.

أبو يارا.. الوزير والسفير والمحامي والشاعر والأديب والقاص والروائي والناقد والأكاديمي... تعددت الأسماء والرمز واحدُ.

‏ولد عام 1359هـ- 1940م في الأحساء، وبعد عدة أشهر من ولادته توفيت والدته، ونشأ في كنف أبيه تتعهده جدته لأمه، ولم يكن له أتراب في عمره يقاسمهم أفراح طفولته،

فنشأ نشأة جادة يقول عنها:

‏«ترعرعتُ متأرجحاً بين قطبين: أولهما أبي، وكان يتسم بالشدة والصرامة، وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على الصغير اليتيم».

لم يكن غازي القصيبي رجلاً استثنائياً فحسب، بل كان عدة رجال في ثوبٍ واحد، فهو المثقف الواعي الذي كلما حل في مكان ملأه ثقافةً ووعياً وتنويرا، وهو الشاعر العذب الرقيق الذي يرسم بقصائده أجمل اللوحات وأرقها عذوبة، وهو الأديب والروائي البارع الذي لا يشبه سوى غازي القصيبي نفسه،

‏لقد رسم لنفسه أسلوباً ساحراً أخّاذاً في الأدب، كَوّن مع جمهوره علاقةً فريدةً من نوعها، كان بارعاً جدّاً في سرد التفاصيل، ليست التفاصيل المملة بل تلك التفاصيل التي تصطحب معها كوباً من الفشار كما لو أنك تشاهد فيلماً سينمائيّا.

وهو أيضاً غازي الدبلوماسي والسفير والوزير.. الرجل الذي لا يعرف عن العمل سوى الإنجاز، ولا يعرف عن الصعاب إلا خوضها، ولا يعرف عن المجد إلا معانقته، لم يَقُدْ كليّةً أو مؤسسةً أو وزارة إلا أحدث بها ثورةً حقيقية،

بدءاً من عمادته لكلية التجارة بجامعة الملك سعود، مروراً بالمؤسسة العامة للسكة الحديدية، ثم وزيراً للصناعة والكهرباء ، فوزيراً للصحة، ثم سفيرا للسعودية في البحرين، ثم في بريطانيا، فعودةً مرةً أخرى لوزارة المياه والكهرباء، ثم وزيراً للعمل.

تنقلات عديدة ومناصب عليا تولاها القصيبي بهمة واقتدار، وكان هو ذاته الإداري الفذ والعبقري الذي لا يقل إبداعاً ونجوميةً عن غازي الشاعر والأديب.

‏كان الراحل غازي القصيبي يحمل عدة شخصيات مختلفة عن بعضها البعض، وكل شخصية تنافس الأخرى تجليّاً وتميزا.

لقد كان في صراعٍ شديد مع هذه الشخصيات؛ فغازي الشاعر ينافس غازي الأديب، والأديب ينافس المفكر، والمفكر فيه ينافس الدبلوماسي، والدبلوماسي ينافس الأكاديمي، وهكذا دواليك حتى تدور في دائرة لا تنتهي من شخصيات وعبقريات غازي القصيبي.

كان يحب عمله مفتونا به، ويحكى عنه أنه أخذ موقع موظف السنترال في شركة الكهرباء حين كان وزيراً للمياه والكهرباء، فاتصل عميل يشكو انقطاع كهرباء بيته، وكان العميل منزعجا يقول: «قل لوزيركم الشاعر أنه لو ترك شعره واهتم بعمله لما انقطعت الكهرباء»،

يقول غازي: «فقلت له ببساطة: شكراً وصلت الرسالة، فقال: ماذا تعني؟ قلت: أنا الوزير، قال: احلف بالله، فقلت: والله».

‏لقد كان رحمه الله سابقاً لعصره، وهذه الكلمة دوماً نسمعها تقال في وصف أناس كانوا بارعين في زمن كان يثبطهم أحيانا.. تقال مبالغة، وأحياناً تقال من قبيل المجاز لا أكثر،

وأما حين نتحدث عن غازي فنحن نعني حقّاً ما نقول، لقد كان سابقاً ليس لأبناء جيله، بل للعقل الجمعي في المنطقة آنذاك.

‏لقد كان رجلاً مذهلاً عبقريّا، وكل من عمل معه أدرك معنى عبقرية الإنجاز، والعمل بحب، ورأى كيف يتعامل القصيبي إداريّاً بفلسفة لم تعتد المنطقة عليها،

لقد كان مختلفاً جداً عن الناس، وعن طريقة العيش التقليدية..

‏كان رجلاً يُقَدِّس الوقت، ويحترم العمل، ولا يكاد يعترف بالمناسبات الاجتماعية.

‏كان رحمه الله ينظم وقته ومهامّه، ويعرف ماذا سيفعل بعد ستة شهور في يوم السبت الساعة السابعة مساءً، ومن سيُقابل، وماذا سيفعل.

لقد دفع غازي القصيبي فاتورةً باهظة الثمن حين اصطدمت عقيلته الفذة العبقرية بفئة من المجتمع تتحفظ على التقدم والتجديد والانفتاح على العالم مهما كان إيجابيّا، لكن ذلك لم يزجره عن المضي قُدُماً نحو ما يصبو إليه بمجتمعه وبأبناء جلدته.

‏حين نعود بالذاكرة إلى الوراء قليلاً نرى تجليات غازي الشاعر وسطوع نجوميته حتى بلغ هرم الشعر وسنامه إبان حرب الخليج، لقد كان رحمه الله بقلمه وزارةً للإعلام ما إن يخط به كلمة حتى تطاير بها الصحف، ويتلقفها الأعداء تحليلاً وتأويلا.

‏لعب دوراً محوريّاً في حرب الخليج،

وكان الرجل الدبلوماسي صاحب الرأي السديد والحنكة والدهاء، وكذلك الشاعر الفذ.

‏حين كان صدام حسين يتهجم على السعودية ودول الخليج ويسمي المملكة العربية السعودية بنجد والحجاز رد القصيبي عليه بقصيدة عظيمة خلدها التاريخ، وتغنى بها أبو نورة لتتقلدها الذاكرة درة لامعة أزمنة ممتدة:

أجل نحنُ الحجازُ ونحن نجدُ

‏هنا مجدٌ لنا وهناك مجدُ

‏ونحن جزيرة العُرْبِ افتداها

‏ويفديها غطارفةٌ وأُسدُ

‏ونحن شمالُنا كِبْرٌ أَشَمٌّ

‏ونحن جنوبُنا كِبْرٌ أَشَدُّ

‏ونحن عسيرُ مطلبُها عسيرٌ

‏ودونَ جبالِها برقٌ ورعدُ

‏ونحن الشاطئُ الشرقيُّ بحرٌ

‏وأصدافٌ وأسيافٌ وحشدُ

لقد برع الراحل في كتابة الراوية، وكانت له بصمات واضحة في عالم السرد، ولم يكن روائيّاً فحسب، بل كان مفكراً أديبا، وحين تقرأ عملاً له تدرك أنك أمام أطروحة عظيمة ممتلئة بالقيم والمثل والفضيلة حتى وهو يصور الإنسان كما هو بكل تجلياته وتناقضاته، بكل نبله وقبحه، بفضائله ورذائله.

كما برع رحمه الله في تصوير الإنسان كما هو، ولنا هنا وقفة مع شخصية من شخصياته التي أمتعنا بها، وعشنا معها تفاصيل ساحرة، إنها شخصية يعقوب العريان التي رافقتنا في ثلاثة أعمال مختلفة للقصيبي

بدءاً من رواية «رجل جاء وذهب» التي تجاوز فيها المقدمات، وافتتحها من المنتصف، وكأن القارئ قطع معه منتصف العمل، يقول:

«خبرٌ صغير في جريدة الشروق، يتوارى في صفحة من صفحاتها الداخلية، غياب الروائي المعروف يعقوب العريان.

‏ظريفة غياب، هذه! لا مبرر للقلق.. مجرد غياب.. في مصح خارج لندن.. على إثر صراع طويل مع مرض عضال.. الروائي المعروف! كم كان سيضحك لو قرأ هذا الوصف، هو الذي لم يأخذ رواياته مأخذ الجد».

بمثل هذه المقدمة يتحفز القارئ للاكتشاف والربط، ويتضرم فيه جمر التشوق والترقب، فيتابع بتركيز تام.

‏يدرك نقاد الرواية أن ابتداء العمل من المنتصف أو النهاية يحتاج إلى سارد من طراز خاص،

ولا سيما أن أعمق الدلالات لا تتضافر إلا في الاستباق الزمني الذي حفلت به بعض أعماله.

‏لقد سرد غازي قصة يعقوب العريان وقصة عشقه لروضة المرأة المتزوجة، نعم الأمر بشع، لكن غازي يسرد هنا تناقضات الإنسان، وأبوابه الخلفية المظلمة، ومن لم يقرأ العمل لن يتعاطف معه.

وفي روايته الأخرى «حكاية حب» سترى يعقوب العريان من قلب المشفى يسرد لك خبر عشقه الخالد!

‏يروي القصيبي هذه القصة وبها الكثير من الأسلاك الشائكة، ولكنه بحرفته الروائية يجعلك تسير معه في دورب متناهية الضيق، رحبة الخيال.

ثم في النهاية يأتي القصيبي بيعقوب العريان في رواية «ألزهايمر» في سرد ساحر فلسفي يدور حول الكائن البشري وضبابية أخلاقه وهو يتحول إلى بطاطا بشرية كما يصفها القصيبي،

ثم يصاب يعقوب بألزهايمر،ويبدأ المجتمع والناس والأقربون بالتنكر له ليسرد الراوي بعد ذلك تفاصيل بطله في مشفى بها الكثير من المرضى

‏ربما أراد القصيبي إيصال رسالة أن لا خلاص لضمير يعقوب العريان،وما اقترفه في حياته سوى بالنسيان،لا النسيان المؤقت ولا القصير،بل النسيان طويلاً وإلى الأبد

وبعد عمر حافل بالتميز والعطاء توفي رحمه الله عن عمر يناهز السبعين عاما يوم الأحد في 5/ 9/ 1431هـ الموافق 15/ 8/ 2010م في الرياض بعد معاناة طويلة مع المرض.

‏رحل وله عشرات المؤلفات الرصينة،

وكتبت عنه عشرات الدراسات الأكاديمية الثقيلة، وما زالت أعماله بين أيدي الدارسين العرب يسبرون أغوارها، ويتتبعون أطوارها، ويجدون فيها كل مخبوء وجديد.

وإن ساغ لي أن اقترح فسأقترح تتويج إحدى مؤسساتنا الثقافية والفكرية والأدبية باسمه، فهذا أقل ما نجزي به رموزنا الخالدة.

‏قفلة:

‏الرجل الأعجوبة لا تنفك عنه ولا منهُ الأعاجيب.

‏رحمك الله يا غازي رحمةً واسعة ، ودام أثرك حيّاً لا يموت.

قفلة أخيرة :

‏كان غازي القصيبي يرحمه الله قبيل بدء حرب الخليج الأولى وبعد أن شعر بازدياد التشدد الديني ومحاولة رموزه حينذاك تصدر المشهد أصدر كتابه الشهير (حتى لا تكون فتنة) هوجم على إثره هجومًا عنيفاً وأخرجوه من الملّة ولكنه رحمه الله كان يرى بعين البصير ماستؤول إليه الأمور لاحقًا.