يقول قائل: إن من يمكنه الآن في هذه الظروف المعيشية شديدة الصعوبة أن يتحدث بالوطنية، هو الذي يجلس تحت سقف دافئ، آمن، ويستطيع أن يأخذ بأسباب حياته وحياة عائلته من مأكل ملبس وطبابة وتعليم. ويقول أيضاً لعل أي جهة تدعو لجمع المرتزقة مهما كان موضوعها سوف تلقى آذاناً صاغية وتجد من يتجاوب معها، وهذا ما يفسر رحلات المقاتلين المأجورين الذي جندتهم تركيا وروسيا وغيرها للذهاب والقتال في أماكن لا علاقة لنا بها لا من قريب ولا من بعيد إلا من رضي أن يبيع نفسه بأبخس الأثمان من أجل فائدة مالية عابرة.

لقد عبثت الانقسامات السياسية وصراع النفوذ والاستثمار في الفوضى والتبعيات العابرة للحدود على أسس دينية أو عرقية أو قومية بأهم مقومات الكرامة الإنسانية وهي فكرة الانتماء.

بعد الجوائح الأخيرة التي عصفت بالمنطقة في آخر عشرين سنة، ابتداءً من حمَّامات الدم التي خلفتها حروب الإبادة، إلى أزمات اللاجئين، مروراً بأزمة كورونا، وبعدها جائحة الفقر، بقيت شعلة الانتماء الوطني مقتصرة على نسبة مئوية قليلة من البشر، وحتى هذه النسبة التي سوف أسميها هنا النخب الوطنية، فإن أزمة الهوية والانتماء تنخر فيها ولم تتمكن من الخروج من عشائريتها وانغلاقها على نفسها وعطبها الذاتي هي الأخرى حتى تشكل مرجعية فكرية وطنية لمن أنهكهم اليأس.

يختبئ الجميع وراء شعارات عريضة، وعندما يجلسون إلى طاولات الحوار لبناء تعاون والخروج بأوراق عمل مشتركة، يخرجون وقد انقسموا أكثر وخلطوا الأوراق وضيعوا البوصلة المشتركة.

إن ما يبعث الأمل، الذي صار يُعتبر نوعاً من التخدير إلا أنه ربما ضرورة لا بد منها، خصوصاً لأكثر المتشائمين، فما بالك بمن أصابه مرض التفاؤل العضال، هو أمرين أساسيين:

الأول: أن فاتورة الدم الكبيرة التي دفعها شعبنا والتضحيات الهائلة والأسباب التي أدت إلى تضحيات المعتقلين وسجناء الرأي والنشطاء والاستحقاق الذي لم يكتمل بعد، يشكل جميعه ضماناً حتى لو طال الزمن؛ حيث أن حكم التاريخ لا بد أن ينصف هذه الدماء، أي أنَّ قوة هذه الثورة في سخاء ما قدمه شعبها من تضحيات بالرغم من كل ما واجهته لاحقاً من انقسامات.

الثاني: أن هنالك جيلاً سورياً جديداً، خصوصاً من أولئك الذين ولدوا في أوائل الألفية الثالثة، قد حدث بينهم وبين الماضي وأساليب عمله طلاق بائن بينونة كبرى، وإن ملامح أدواتهم وطرق عملهم والأسس التي سيطورون فيها تعاونهم وتحالفاتهم في ظل المتغيرات الدولية الجذرية التي حصلت في العقود الأخيرة لم تزل في طور التكوين ولم تتضح بشكل نهائي، وتحتاج إلى وقت حتى تنضج وتأخذ طريقها الذي تختلف مسالكه بالتأكيد عما سبق.

إقرأ أيضاً: اتجاهات التكنولوجيا الواجب متابعتها في عام 2024

من جهة أخرى، فإنَّ الأصوات الكثيرة التي تقول: لم نعد نملك من أمرنا شيئاً، وأن المسألة السورية لا يمكن أن تُحل إلا إذا توافقت الدول الكبيرة فيما بينها على ما يخص سوريا؛ هذا الكلام يقوله العديد ممن لا يريدون أو لا يعرفون ما الذي يجب عمله.

لأنه، برأيي، وبالرغم من الاحتلالات متعددة الأقطاب التي تخضع لها سوريا بسبب انعدام وطنية النظام السوري الذي يستعين بالشياطين للبقاء في الحكم ولا يهمه من أمر الوطنية السورية إلا حكم العائلة التي كان يعتقد أنها سوف تستمر إلى أبد الآبدين، من هو الذي سوف يحرك هذه التوافقات الدولية الآنفة الذكر إلا جهود السوريين أنفسهم؟ هل سوف يتصل القادة الدوليين ببعضهم بعضاً ويقولون تعالوا نتوافق حول المسألة السورية في غياب جهة سورية يمكن التنسيق معها؟

إقرأ أيضاً: ماذا ينتظر المجتمع الدولي بعد اعترافات الحرس ومحاكمة نوري؟

تسربت في الآونة الأخيرة بعض "التوافقات" التي تقول إنَّ روسيا ودول الخليج اتفقوا على إخراج إيران من المعادلة السورية، وأنه يتم التنسيق مع سوريين بهذا الخصوص من جميع الأقطاب، وأن تلك الجهات السورية ربما لا تكون نظيفة وطنياً، والله أعلم، إذ أنني لست مطلعة إلا على ما ورد في وسائل الإعلام، ولكنني أتحدث بشكل عام حتى أصل إلى الفكرة التالية:

مهما تمكنت الأجندات الدولية من إحداث اختراقات في السوريين، بل وللأسف جعلهم يخوضون حرباً بالوكالة عنها، إلا أنَّ الحل السوري لا يمكن أن يمر، حتى لو بالتدريج، إلا من خلال السوريين أنفسهم. هذا التوافق الدولي يحتاج إلى أجندة وطنية سورية مشتركة يطرحها سوريون يحملون ما تبقى من الانتماء الوطني.