ذات يوم ربيعي من أيام آذار (مارس) 1985، كانت شوارع بيروت مشتعلةً بالرصاص والقذائف. كنت يومها فتى لا يفقه في السياسة كثيرًا، أتسرب من الجامعة إلى حياة السلاح والمسلحين، وكان القرار: إنهاء حركة الناصريين المستقلين "المرابطون".

كانت حرب شوارع قاسية جدًا، وكانت أشد المعارك الجانبية كرهًا ومكرًا. فما كان هؤلاء الذين نقاتلهم اليوم رفاق سلاح وخنادق فحسب، بل كان بينهم من قاوم الدبابات الإسرائيلية التي دخلت بيروت في ختام عملية "سلامة الجليل". لماذا نقاتلهم وهم رفاق وطنيون؟ كان الجواب سهلًا حينها، ومبهمًا جدًا: "المطلوب تنظيف الساحة السنية اللبنانية من رواسب الحرب، تحضيرًا لحقبة رفيق الحريري".

في ذلك اليوم، كانت تلك المرة الأولى التي سمعت فيها باسم رفيق الحريري. وكرّت السبّحة وصار اسم رفيق الحريري على كل لسان: كان شيخًا سعوديًا، ورجلَ أعمال لبنانيًا، ومناضلًا عروبيًا سابقًا، وغير ذلك من الألقاب السابقة واللاحقة، انتهاءً باللقب الحالي، الشهيد رفيق الحريري.

بسقوط "المرابطون" في تلك المعركة أولًا، ثم في معركة لاحقة بعد أسابيع تعاون فيها دروز وليد جنبلاط وشيعة نبيه بري على توجيه الضربة القاضية لهذا التنظيم، بقيت الطائفة السنية في لبنان من دون ذراع عسكري خاص بها، علمًا أن الفلسطينيين مثلوا مكونًا أساس في هذا التنظيم العسكري الذي أسسه إبراهيم قليلات وأداره.

وقليلات هذا، كما يقول معاصرو الحركة الوطنية اللبنانية، كان صنيعة كمال جنبلاط، أحد أشهر زعماء اليسار اللبناني، ابتكره ليكون ندًا يساريًا لزعماء الطائفة السنية التقليديين من أمثال آل كرامي في الطرابلس وآل سلام في بيروت، وليكون سندًا لناصريي صيدا الذين فقدوا زعيمهم معروف سعد عشية حرب لبنان الأهلية.

إقرأ أيضاً: العراق: قصف أميركي والخطر يتفاقم!

بسقوط "المرابطون" في ذلك اليوم، صارت الساحة السنية عارية من يسارها، وملائمةً لتقبّل زعيم "ينهض بها"، بطريقة ما. اليوم، إذ يحيي لبنان، وأهل السنة فيه تحديدًا، الذكرى التاسعة عشرة لاغتيال رفيق الحريري، يمكن تذكر الكثير من مآثر هذا الرجل، ربما يكون أوّلها أنه استطاع، خلافًا لغيره من زعماء الطائفة التقليديين، أن يكون الزعيم السني الأوحد في لبنان، وأن يمدّ زعامته خارج حدود لبنان. ففي عهده، صار آل كرامي الطرابلسيين على هامش الحياة السياسية، ودخل تمام صائب سلام تحت جناحه، وذهبت السيادة السنية المحلية في صيدا الجنوبية إلى شقيقته بهية، التي رافقته كظله حتى يوم استشهاده.

تجمّع في دارة الحريري كل الشخصيات السنية من كل لبنان، فأسس لزعامة لبنانية غير مناطقية وغير محلية. وكذلك، رافقه زعماء طوائف أخرى أبرزهم الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ونسج صداقات حميمة مع زعماء الطوائف المسيحية، دينيين وزمنيين. ومن يتذكر مشهد التظاهرة المليونية في 14 آذار (مارس) 2005 في بيروت، بعد شهر من استشهاده، يتأكد من أن رفيق الحريري استطاع أن ينتج "وطنًا" واحدًا موحدًا حالمًا.

إقرأ أيضاً: إشكالية المعارضة في الشرق الأوسط

ما كان هذا الوطن الواحد الموحد الحالم يلائم دولًا عدة في المنطقة. فأن يسير لبنان على دروب التوحيد التي رسمها "مشروع" رفيق الحريري كان أمرًا يخيف كثيرين، فسارعوا إلى شيطنة هذا المشروع، وانتهوا بتصفيته جسديًا في انفجار السان جورج في 14 شباط (فبراير) 2005.

عادت الطائفة السنية في لبنان إلى وضع "الشرذمة"، وما عادت "جماعة". وتوترت علاقاتها بالطوائف الأخرى لأنها ما رضيت أن تكون من "جماعة" أحد. وهي تتحسّر اليوم على أيام كانت فيها الطائفة الجامعة لكل اللبنانيين.

ما أحوج لبنان اليوم إلى رفيق حريري آخر.