بيروت: كانت الانظار اللبنانية كلها متجهة اليوم الى الديمان حيث عقد المطارنة الموارنة اليوم اجتماعهم الشهري برئاسة البطريرك الماروني الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، واصدروا بيانهم الشهري الذي جاء فيه ان اسباب اليأس كثيرة منها الديون واستشراء الفساد والمحسوبية القاتلة وتناول الاحداث الاخيرة مؤكداً " التمني ان يقوم في لبنان حكام يجاهرون لسورية بالحقيقة لتستقيم العلاقات و" المصلحة المشتركة تقضي بأن تكون بين البلدين أصدق علاقات الاخوة والمودة ولا نريد ان نجاهر بالعداء لسوريا ولا نعتقد ان في لبنان من يضمر الشر لها"
وجاء في البيان:"يوم الاربعاء في الاول من ايلول ،2004 عقد اصحاب السيادة المطارنة الموارنة اجتماعهم الشهري في الديمان، برئاسة صاحب الغبطة والنيافة الكاردينال البطريرك مار نصر الله بطرس صفير الكلي الطوبى، وعرضوا الشؤون الكنسية والوطنية المحلية والاقليمية، وفي ختام الاجتماع اصدروا النداء الآتي:
هذا هو نداؤنا الخامس الذي نناشد فيه اخواننا وابناءنا اللبنانيين الا يستسلموا لليأس والقنوط، رغم كل الصعوبات التي تعترض سبيلهم، وتنغص عليهم حياتهم اليومية، وتحملهم على الكفر بوطنهم، واسباب الرجاء لا تزال كبيرة، رغم كل المظاهر المربكة، والاعمال السلطوية المنفرة، والممارسات الظالمة. وينبوع رجائنا انما هو ايماننا بالله اولا وبعدالة قضيتنا ثانيا، ووعي شعبنا وامثولات تاريخنا ثالثا، وبمثل من سبقنا على هذه الارض من اباء واجداد رابعا، وقد ارتضوا شظف العيش والفقر، ليعيشوا احرارا يأبون الضيم، ويضنون بالكرامة دون ان يطأطئوا الهامة الا لله وحده، تمجد اسمه.
اولا:اسباب اليأس كثيرة لا نريد ان نذكر منها الا بعضها:
1- انسداد الافق في وجه الشباب اللبناني الذي يخرج من الجامعات مزودا اعلى الشهادات الجامعية ويبحث عن عمل فلا يجده، فيضطر الكثيرون منهم الى الهجرة وبعضها لا تعقبه عودة، وهذا افقار للوطن من ادمغته ليحل مكانها من يفد عليه من طارئين.
2- الديون الباهظة التي تثقل كاهل المواطنين، وقد بلغت حدود الاربعين مليار دولار، وهي لا تزال تتنامى مع طلوع كل فجر، وكل المحاولات التي تقوم بها الدولة للتخفيف من اعبائها ترمي الى ارجائها وليس الى اطفائها، والانهيار لا يزال يهدد الوضع المالي بشهادة ارباب الخبرة في الشؤون المالية، ومن بينهم من يعملون في المؤسسات المالية الدولية، واحدهم يقول: "ان البنك الدولي اشار في تقرير له اصدره في تموز الفائت الى ان دينامية الدين ستظهر آجلا ام عاجلا عجز الحكومة عن ادارة خدمته، وان الانهيار آت لا محالة في آخر النفق، والحكومة ترهق الناس عبئا بالضرائب وتماطل المستحقين من افراد مؤسسات في الحصول على حقوقهم، الا بعد طول مراجعات وانتظار سنوات.
3- التجاذب القائم بين الجالسين على رأس الهرم في السلطة، وانعكاسه على من هم دونهم فيها، وقد ظهر ذلك في سلوك بعض المسؤولين الذين يحجمون عن تنفيذ مقررات مجلس الوزراء ويكيلون الانتقاد لممارسات رؤسائهم واقرانهم ويظلون حيثما هم، كأن شيئا لم يكن، وهذا افقد اهل السلطة ما يجب ان يكون لهم في اذهان الشعب من صدقية واحترام، وهو عائد في بعضه الى ما في اتفاق الطائف من نواقص وثغرات كانت تقضي بتطبيقه بحذافيره ليصار الى ابرازها واصلاحها عندما تصفو النيات وتصح الارادات على الخير.
4- انتشار الخوة في كل الدوائر الرسمية. وما من مواطن يجازف في طلب انجاز معاملة ادارية، فنية كانت، ام عقارية، ام خدماتية، الا يلقى الامرين في مراجعات قد تطول اشهرا وسنوات، وتبقى محجوزة في درج الموظف، ولا يفرج عنها الا بعد ان يتقاضى ما يحسب انه حق له، قبل حق الدولة، هذا اذا كان في مكتبه ولم يكن متأخرا عن ساعات عمله، او هو في اجازة او في سفر، وقد ترامى الينا ان دوائر الامن العام، خلافا لما هو شائع عندنا، قد اعتمدت المراسلة، شأن البلدان الراقية في انجاز المعاملات.
5- استشراء الفساد في صفوف بعض المسؤولين، ومن بينهم من يحتلون مناصب عالية، الذين يقاسمون الدولة على عائداتها فيثرون بطرق ملتوية، بين ليلة وضحاها، ولا رقيب ولا حسيب، ويتلاعبون بالقوانين ويستفيدون من جرم العارف ويتجاهلون ان للناس اعينا تراقب وألسنة تشهر، وقضية كازينو لبنان والكهرباء وبنك المدينة، ودوائر الجمارك وسواها، ماثلة للعيان.
6- المحسوبية القاتلة التي تحشر المحاسيب والازلام في دوائر ووظائف لا كفاية لهم، ولا مؤهلات ولا شهادات، تمكنهم من القايم بواجباتها، ويكتفون من كل عمل يقومون به بالاقامة في منازلهم، وبالذهاب في آخر الشهر الى صندوق المؤسسة الرسمية لتناول مرتبهم الشهري. ويقول احد المسؤولين مباشرة عن قطاع الموظفين ان هناك ما لا يقل عن تسعة الاف موظف لا عمل لهم في الدولة ويتقاضون رواتب شهرية، ومن بينهم مديرون عامون.
7- القضاء المسيس يرهق المواطنين ويمتهنهم ويضيع عليهم حقوقهم ويفسد النظام الديموقراطي، ويحول دون مجيء المغتربين وغير المغتربين للتوظيف في لبنان، وخلق فرص عمل، وهذا امر اصبح معروفا ويكفي ان يتوسط، ولو هاتفيا، من له الكلمة العليا في الشأن اللبناني، وهو ليس بلبناني، ليأمر باعتقال هذا والافراج عن ذلك وبتكوين ملف لهذا والامتناع عن اعتقال ذاك، ولو ارتكب اشنع الجرائم. وقد اصبحت تهمة الاتصال باسرائيل أهون التهم واقربها منالا، وبات القضاء موضع استخفاف لدى بعض كبار المسؤولين الذين تجاهلونه، حتى ولو طلب منهم المثول امامه لاداء شهادة.
8- الانماء المتوازن اقتصر على العاصمة بيروت، واهملت المناطق فهجر أهلوها بلداتهم وقراهم الى المدينة حيث يصبح بعضهم نكرات يهدرون كراماتهم ويتجرأون على الانغماس في الموبقات. والمطلوب تجهيز هذه البلدات والقرى بمدرسة ومستوصف ومصنع يؤمن لهم العمل في قراهم حيث تبلغ اكلاف العيش نصف ما تبلغه في المدن، وهذا سبب من اسباب امتناع المهجرين عن عودتهم الى قراهم وهم يشكون حتى اليوم الحرمان من التعويضات المتوجبة لهم على الدولة، فيما بعض المحتلين يتعللون بالاحتلال لينالوا ما ليس لهم حق فيه من تعويضات في المدينة وضواحيها.
9- الهدر الذي لا حد له، وخصوصا عندما يتواطأ المسؤول الرسمي مع المتعهد على مال الدولة فيتقاسمانه، ولا ينفق على المشروع قيد التنفيذ الا جزء من المبلغ المرصود، فيما القسم الاكبر يذهب الى جيب هذا او ذاك، وغالبا ما يتجاهل مكتب التلزيمات العامة، كما يتجاهل المجلس الاقتصادي، وحتى المجلس الدستوري فتنقضي مدة تعيين اعضائه ويبقى بقوة الاستمرار. وغالبا ما لا يؤخذ برأي التفتيش المركزي، فيصدر التقارير وتبقى حبرا على ورق، فضلا عن اختلاف الرواتب في بعض المؤسسات الرسمية ومنها ما يتقاضى من يعملون فيها عشرة اضعاف، ما يتقاضاه سواهم في غيرها من المؤسسات الرسمية.
10- الفقر المنتشر في معظم طبقات الشعب الضئيل الدخل والمثقل بالضرائب، ولجوء الكثيرين الى طلب المساعدات لتأمين حاجاتهم الضرورية، وقد دلت بعض الدراسات على ان 40 في المئة من العائلات اللبنانية تعيش تحت مستوى خط الفقر.
11 -الشكوى الاخيرة تتمحور حول الاستحقاق الرئاسي، وهي تعديل الدستور خلافا للدستور، وفرض هذا التعديل من خارج البلاد بخفة، وتسخير المؤسسات الدستورية لاقراره، واكراه الوزراء والنواب على اتخاذ مواقف لا يريدونها بقطع النظر عن الشخص، فيما يطلب من النواب في القريب العاجل ان يبدوا رأيهم بحرية، واضعين امام ضميرهم مستقبل اولادهم دون مبالاة بما يلقون من تهديد ووعيد بدت طلائعهما منذ اليوم في بعض المجالات. والانسياق مع التيار الجارف، ما كان يوما سبيلا للخلاص، والتزام جانب الاقتناع بالحقيقة هو سبيل الخلاص، رحم الله من قال:"الكثرة دون الحق قلة والقلة مع الحق كثرة".
ثانيا: لماذا وصلنا الى هذه الحالة
وان ما اوصلنا الى هذه الحالة المزرية افساد النظام الديموقراطي الذي يتميز به بلدنا. فالشعب لا يقوى على المجيء بمن يريده لتمثيله في المجلس النيابي، ولا يستطيع محاسبته او مساءلته اذا اساء الامانة، ومن جاهر برأي يخالف الرأي الرسمي لوحق، وألقي القبض عليه وناله ما يكره. والانقسامات باعدت بين الصفوف، وهناك من يعمل على احداثها وتعميقها بالترغيب والترهيب، وكلما تقارب فريق اسلامي من فريق مسيحي، او تلاقت جماعة مسيحية وجماعة اسلامية، جاء من يفرق بينها بالتهديد والوعيد، وقد اصبح ذلك امرا مشتهرا، ويمكن ايراد الاسماء والوقائع، وهذا ما يحول دون قيام مصالحة شاملة تعيد الناس بعضهم الى بعض وتضع حدا للمظالم التي لحقت ببعض اللبنانيين وفي مقدمهم الدكتور سمير جعجع والمنفيون والمعتقلون، لذلك يشعر فريق من اللبنانيين، بعد مضي ست عشرة سنة على اتفاق الطائف، انهم مهمشون وغير مرغوب فيهم في بلدهم، وكلما رفعوا الصوت بالمطالبة بما هو حق لهم من حرية واستقلال وسيادة اتهموا بالتمرد والعصيان والثورة وقوبلوا بالقمع والملاحقة القانونية والتوقيف والسجن، والذين دخلوه أخبروا عما وجدوا فيه من انواع التعذيب والاذلال، وهي اساليب تخالف ما نصت عليه القوانين وشرعة حقوق الانسان، وهذا نظام لا يتآلف والنظام الديموقراطي الذي يترك فسحة كبيرة من الحرية للمواطنين، ويلزمهم تحت طائلة العقاب التقيد بالقوانين المرعية.
ثالثا: من المسؤول
دخلت سوريا لبنان بجيشها منذ سنة 1976 اي منذ ثمان وعشرين سنة، ولا نريد ان نعود الى الماضي البعيد او القريب، وكان هناك فريق من اللبنانيين عليها فانقلب معها، والعكس صحيح، وكان اتفاق الطائف الذي نص في ما نص عليه، على خروج الجيش السوري من لبنان بعد مضي سنتين على توقيعه، وقد انقضت على توقيعه ست عشرة سنة، ولا تزال الامور على ما هي، وان طرأ عليها بعض التغيير، واصبح معلوما ان الكلمة الاخيرة في لبنان ليست اللبنانيين، بل للسوريين، مع ان لبنان بلد اعترفت الامم المتحدة، بعد خروجه من الانتداب الفرنسي، باستقلاله وسيادته، اللذين حصل عليهما قبل سوريا، وكانت هناك مصالح مشتركة تسببت بقطيعة في اول عهد الاستقلال، لعلها كانت ترجع الى الادعاء الباطل بان لبنان ما هو الا اقليم سوري. هذا اصبح من التاريخ ولا تفيد العودة اليه.
ونقولها ببساطة، تعتبر سوريا انها مسؤولة وحدها عن لبنان منذ دخولها اياه منذ سنة ،1976 وخصوصا بعد اتفاق الطائف، وكأنه اقليم سوري. وبالامس نشرت احدى الصحف السورية، في مجال الحديث عن الرئاسة الاولى في لبنان، فقالت ان سوريا هي الناخب الاكبر ان لم يكن الاوحد في لبنان، وكأنه قد خلا من مواطنين لهم رأيهم في ما يحدث من امور تتعلق بهم قبل غيرهم، وتحدد مصيرهم ومستقبل اولادهم. وهذا قول دلت عليه الاحداث الاخيرة فتحولت اللبننة الى سورنة صافية لا يداخلها اي رأي لبناني. وسوريا اذا كانت قد ساعدت لبنان في بعض المجالات، فقد ارهقته في مجالات اخرى، فهي تأمر وتنهي فيه وتعين الحكام، وتنظم الانتخابات النيابية وغير النيابية، وتأتي بمن تشاء وتبعد من تشاء وتدخل في جميع مرافق لبنان من ادارة وقضاء واقتصاد وخصوصا سياسة، عبر ممثلها فيه ومعاونيه، وتساوم على المصلحة اللبنانية في المحافل الدولية، وتحمي الفاسدين والمفسدين، ويتقاسم بعض الذين تنتدبهم من مواطنيها، وبعض المواطنين اللبنانيين النافذين المغانم والمتاجرة بالنفوذ. وهكذا كثرت الرشوات، وانتشرت ثقافة الفساد فيما الشعب اللبناني ولا سيما الشباب من ابنائه، يهاجر باعداد كبيرة، ويزداد ابناؤه المقيمون فيه فقر يوما بعد يوم، وبات لبنان يرزح تحت اثقال ديون باهظة تهدده بالانهيار. واذا انهار، فلن تسلم سوريا. وهذا ما لا نريده للبنان، ولا لسوريا.
ومعلوم ان سوريا عندما اقامت الوحدة مع مصر في عهد الرئيس عبد الناصر، رفضها الشعب السوري لاسباب معروفة لا تختلف كثيرا عن الاسباب التي عددناها، لكننا لا نريد ان نجاهر بالعداء لسوريا ولا ان ننفي اي مسؤولية عن اللبنانيين، بل نريد هنا ان نؤكد اننا لا نعتقد ان في لبنان من يضمر العداء لسوريا، وان المصلحة المشتركة تقضي بان تقوم بين البلدين اصدق علاقات الاخوة والمودة، ومن حق الاخ على اخيه ان يحترم خصوصياته فلا يتدخل في شؤونه الخاصة، ولا يعتبره قاصرا، وان له عليه حق الوصاية، بل ان يقوم بين الاخوين تنسيق وتعاون مخلص على كل الاصعدة، وهذا شعور مشترك بين اللبنانيين من مسيحيين ومسلمين. ونتمنى ان يقوم في لبنان حكام يجاهرون بهذه الحقيقة بوضوح للحكام في سوريا لتستقيم العلاقات.
ولا نريد ان نصدق ان سوريا تخشى النظام الديموقراطي في لبنان كما يحلو لبعضهم ان يدعي. فهي حرة في اختيار نظامها، ولبنان حر في اختيار نظامه، وهذا لا يفسد للود قضية. ولكن اذا ظلت الامور على ما هي من الحذر والتوتر، فلن يكون راحة للبلدين. وان ما يسيء الى لبنان يسيء حتما الى سوريا، وسيكون له انعكاساته السلبية على البلدين. ونحن لسنا طلاب عداء وخصام ونزاع، بل طلاب تعاون واخوة، ومودة. فعسى ان يحقق الله الآمال".
- آخر تحديث :
التعليقات