يأخذ الأكراد على القادة العرب تغاضيهم إن لم تكن مباركتهم لسلسلة الجرائم التي إرتكبها صدام حسين ضد الشعب الكردي.. ففي أبشع جريمة إنسانية يرتكبها نظام حكم في القرن العشرين ضد شعبه، كانت جريمة القصف الكيمياوي لمدينة حلبحة العنوان الأبرز لجرائم العصر الشوفينية التي إقترفها النظام الفاشي السابق ضد الشعب الكردي، والتي باركها البعض من القادة العرب سواء تصريحا أو تلميحا، بينهم أحد القادة الذي تساءل بخبث ومكر تعليقا على ضرب المدينة بأكثر من 500 طن من الغازات السامة عام 1988 قائلا quot; ماذا ينتظر الأكراد، هل كانوا ينتظرون من صدام أن يمطرهم بالورود؟؟!!..
ورغم المواقف المشينة لبعض القادة العرب من جرائم صدام ضد الشعب الكردي طوال سنوات حكمه الدكتاتوري الأسود، فإن الأكراد أصبحوا اليوم حاملي هموم العراق على أكتافهم، وليست هموم دولة مزعومة ( شبه المستقلة) في إقليم كردستان، وغدوا أكثر الفئات العراقية حرصا على وحدته من خلال تحرك قادتهم لضمان مستقبل أفضل لإبنائه.
فبعد سنوات قليلة سيتحول إقليمهم الى الرافد الثالث للعراق من خلال الكثير من المؤسسات العلمية الأجنبية والمنظمات غير الحكومية العاملة في مختلف مجالات الحياة آخرها، الجامعة الأمريكية التي أرسي بنائها قبل يومين والتي ستسهم الى جانب القطاعات الأخرى الإقتصادية والتجارية والأكاديمية في الإقليم برفد العراق بكفاءات وخبرات عالية الجودة لقيادة المرحلة المقبلة من التاريخ السياسي لهذا البلد.
ومقدما، أنتظر من القراء العرب ممن لا زالوا مأسورين بالأفكار القومجية والإسلاموية، أو من النائمين منهم وأرجلهم في الشمس متغافلين عما يجري من حولنا في العالم من التقدم الإجتماعي والرفاه الإقتصادي،الكثير من اللوم والعتاب قد يمتزجان بالتخوين والعمالة، عندما أبدي بمثل هذه الصراحة زهوي وإفتخاري بوجود هذا الصرح العلمي في كردستان، الذي سيكون بحسب أهدافه المعلنة مركزا علميا متقدما يضخ العراق بدماء جديدة، ويرفده بقادة جدد في مجالات الإدارة والإقتصاد والسياسة والدبلوماسية، أنتظر منهم اللوم والعتاب والتخوين لمجرد كون هذا الصرح العلمي أمريكيا وليس يعربيا؟؟!!. ولكن ليقل لي هؤلاء ماذا قدم العرب للعراق الخارج لتوه من طوق الدكتاتورية المحكم على رقبته طوال أكثر من خمس وثلاثين سنة تحت ظل نظام شوفيني إجرامي حاقد، غير إرسال المفخخات وتصنيع العبوات الناسفة في بعض العواصم العربية والتخطيط فيها لتفجير المساجد والحسينيات وقتل الأطفال والنساء والشيوخ، وإغتيال الكفاءات العراقية العليا ودفع الكثيرين منها الى النزوح من العراق؟؟!!.
ماذا قدم العرب للعراق الجريح الذي ينزف كل يوم أنهارا من الدماء لتصفية حسابات بعض الأنظمة العربية على أرض العراق، وهي أنظمة تفعل مثلما تفعل أمريكا التي يدعون أنها تصفي حساباتها مع المنظمات الإرهابية داخل العراق لإبعاد شرورها من أراضيها، وها هم العرب أيضا يخوضون حربهم للحفاظ على كراسيهم المتداعية داخل أرض العراق أيضا، ولقد قال الحكيم العربي ( لا تنه عن خلق وتأتي بمثله، عار عليك إن فعلت عظيم )!!.
فهناك اليوم من يهدم العراق تحت شعار ( نحن نحب الموت كما تحبون أنتم الحياة)!. وتحت هذا الشعار المقيت، يغتالون براءة الأطفال ويحرمون عمال المساطر من أقوات عيالهم، ويفجرون أنفسهم في طابور المتقاعدين المراجعين لإستلام رواتبهم كل ثلاثة أشهر،وهناك بالمقابل قائد كردي يدعى برهم صالح الذي يجوب طاولات رجال المال والأعمال ومديري المنظمات الخيرية المدعوين لحفل وضع حجر الأساس للجامعة الأمريكية في العراق ليجمع التبرعات للجامعة التي ستكون مهمتها تخريج قادة جدد لعراق المستقبل، متسولا وهو إبن الأكابر في كردستانه من أجل ضمان غد أفضل لعراق متحرر فعليا من الأفكار الهدامة ومن القتل على الهوية والتناحر الطائفي والديني والعنصري..
لماذا لا ينبهر كاتب مثلي وهو يرى هذا الإخلاص الجميل من قائد كردي لم ير بعد متنزها من متنزهات بغداد، ولم يتجول براحته في شارع الرشيد أو ساحة التحرير، ولم يرتشف كوبا من الشاي في مقهى ( بيروت ) أو ( المربعة )، ولم يتناول وجبة غداء مريحة في مطعم ( السهل الأخضر) أو ( التكامل)، ولم يتعش وجبة سمك مسكوف في شارع أبو نؤاس على ضفاف دجلة الخير، لكنه أكثر إخلاصا ووفاء من عراقيين آخرين ممن شربوا مائه وتنسموا هوائه وهم يتناحرون اليوم ويتقاتلون بالفؤوس والبنادق والخناجر والسيوف والمفخخات ليفجروا مراقد الأئمة وينسفوا الجسور، ويهدموا صرح العراق بمساعدة الوافدين من تونس والجزائر والسودان والصومال وغيرها من المدفوعين بتنظيرات فقهاء الأمة ؟؟!!.
إن العراق النازع لتوه رداء الدكتاتورية السوداء بحاجة الى علماء وكوادر في هندسة البترول والإقتصاد والتكنولوجيا، والى العقول القادرة على إدارة المال والأعمال والدخول الى أسواق التجارة العالمية، وليس الى مجاهدي أبو الدحداح السوري أو مقاتلي فصيل أبو القتادة المصري أو إنتحاريي أبو شنب السوداني!..
العراق بحاجة الى جيل جديد متعلم، متشرب بقيم الديمقراطية والشفافية مستوعبا حقوق الإنسان والمجتمع، وليس الى جيل متخرج من مدارس الهدم والتدمير في دمشق أو طهران أو كهوف تورا بورا..
يقول برهم صالح في تصريح له الى جريدة ( الشرق الأوسط) اللندنية أثناء إفتتاح الجامعة الأمريكية في السليمانية التي ستكون سادس مدينة في الشرق الأوسط تفتتح فيها هذه الجامعةquot; أن الهدف من تأسيس هذه الجامعة، هو لإستيعاب الكفاءات العراقية بلا إستثناء أو تمييز بغية تطويرها وصقلها، وتحويلها الى نخبة تكون قادرة على بناء صرح عراق ديمقراطي متطور مزدهر ومسالمquot;. ( لاحظ التحديد يشمل كل العراقيين بلا إستثناء). ويعترف quot; لاشك أننا سنواجه مشكلة فيما يتعلق بإمكانيات دفع النفقات وأجور الجامعة التي لا نريد لها أن تكون محصورة أو مقتصرة على أبناء الطبقة الميسورة، لذلك سنعمل على توفير المنح الدراسية للطلبة المتفوقين الذين ستستوعبهم الجامعة بغض النظر عن إمكاناتهم الماديةquot; ( لاحظ التحديد هنا يشمل أبناء الفقراء أيضا وليس الميسورين فقط ).
وفي تصريح لنفس الجريدة يقول الدكتور فؤاد عجمي، الأستاذ في جامعة ( جون هوبكنز) الأميركية وأحد أمناء الجامعة الاميركية في السليمانية quot; أصبح منهاج التعليم العالي الاميركي يغزو كل العالم، حيث صار يدرس في الصين والهند وغيرها إدراكا من الدول بأن ذلك المنهج التعليمي هو الأفضل من نوعه في العالمquot; ويضيف فيما يتعلق بالاتهامات الموجهة للجامعة الأميركية بأنها مركز لنشر الافكار والسياسات الأميركية quot; هذا أمر طبيعي فهناك أناس مازالوا يتهمون الجامعة الاميركية في بيروت التي مضى على تأسيسها نحو 140 عاما، بأنها جزء من الهيمنة الحضارية والسياسية والعسكرية الأميركية على المنطقة، وهذه الإتهامات نابعة بطبيعة الحال من العقليات المؤمنة بنظرية المؤامرة دائما وفي كل شيء، وبإيجاز يمكن القول إن هذه الجامعة مشروع علمي لا علاقة له بالسياسة مطلقا، فالمنطقة صارت بحاجة الى جيل جديد من الشباب الواعي المتعلم، لأن الجيل القديم الذي يتبنى الأفكار القومجية والقمعية والتزييف والإزدواجية في الشخصية، قد أكل عليه الدهر وشربquot;.
في الختام فإني أتوقع أن يدرج البعض من الأخوة العرب هذه الخطوة الكبيرة من الأكراد في خانة السعي للإنفصال عن العراق، وهذا ديدن العرب دائما في الشك بكل خطوة أو جهد مخلص من الأكراد تجاه بلدهم العراق، ولكني أعتقد أن هذه الخطوة ستكون جهدا آخر من الأكراد لإنقاذ مستقبل العراق من خلال رفده بالكفاءات العلمية والنخب السياسية لبناء المستقبل المشرق الذي يصبو إليه جميع العراقيين بلا إستثناء للخروج من محنتهم الحالية، حيث التصارع والتناحر الطائفي والعنصري البغيض.. والبقاء للأصلح دائما وأبدا....

[email protected]