عندما يكون المخاطب يجهل نوع الخطاب الموجه إليه فهذا يعطي المبرر لصـاحب الخطاب أن يتكلم بما شاء ويحـلل الأوليات قبيل الدخول إلى نتائجها، إضافة إلى هذا فـإن الرقيب الذي في نفسه لا يساعد على وضع الحقائق في نصابها لأن الحق والباطل أصبحا سيان بالنسبة له.

وهناك بعض العلماء قادرون على قول الحقيقة إلا أنهم آثروا تزييفها بإرادتهم إتفاقاً مع الإجماع، وصنف آخر إرتضى السكوت على البت بالحقيقة أو خلافها وهؤلاء مرجون لأمر الله إما يعذبهم وإما يتوب عليهم لأن الحقيقة التي لا يريدون التصريح بها ليست من الأمور التي يحسن السكوت عليها بل أن الأمر جلل ويترتب عليه ضياع الناس الذين يعتقدون ويسيرون خلف هؤلاء الذين يكتمون الحقائق بل ويظهرون ما يزين الشيطان لهم وكأن الأمر أصبح من المسلمات أو الخطوط الحمراء التي لا يمكن إجتيازها.

وبناءً على هذا نجد أن فكرة المهدي المنتظر قد إختلط سقيمها بصحيحها وغثها بسمينها بسبب الترويج اللا مشروع لها عن طريق أناس لا يعتمد على آرائهم ولا يعتد بها، ولو حاولنا التوفيق بينها وبين القرآن الكريم نجدها لا تصلح ولا يمكن الأخذ بها، ومن جانب آخر فإن العقل لا يتقبلها، فأول ما روجه العلماء إزاء هذه الفكرة من أن الوقت الذي يظهر فيه المهدي المنتظر تكون الأرض قد أصابها البلاء بجميع أشكاله ومظاهره، إضافة إلى حصول الهرج والمرج وكأن علامات الساعة قد إنتقلت وأصبحت من علامات الظهور.

وعند تكامل تلك العلامات يصبح ظهور المنتظر هو المخلص لكثير من الحروب والفتن التي ستغطي الأرض حسب إدعاء أصحاب هذه الفكرة، ثم بعد التمكن له في الأرض وإنتصاره على من يخرج لحربه تكون الأرض قد ملئت قسطاً وعدلاً كما كانت قبل هذا الوقت المزعوم مليئة ظلماً وجوراً.

ثم يعم السلام والأمان جميع أرجاء الأرض بحيث يعيش الذئب مع الغنم والقط مع الفأر وجميع الحيوانات المفترسة تصبح أليفة بفضل بركة الإمام المهدي، لدرجة أن الأطفال يلعبون مع الأفاعي والعقارب دون أن يصابوا بأذىً منها، وهذا الإدعاء عكس الفطرة تماماً التي فطر الله الخلائق عليها، ومن يعتقد بهذا الأمر كأنما وضع حداً لنهاية مفعول قوله تعالى: (ولأضلنهم ولأمنينهم ولآمرنهم فليبتكن آذان الأنعام ولآمرنهم فليغيرن خلق الله ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً) النساء 119.

لأن هذا الإدعاء يعتبر تبديل لخلق الله تعالى حيث أن لدغ الأفعى للإنسان أو لسع العقرب له لا يعني أن هناك عـداءً بين الإنسان والأفعى أو العقرب وإنما اللدغ واللسع طبيعة راسخة في هذه المخلوقات وفطرة فيها، كما قال الشاعر:
لسع العقارب لم يكن لخصومة******لكن لأمر تقتضيه طباعها.

لذا فإن من يعتقد أن هذه المخلوقات سوف تروض في يوم ما فهذا قد وضع قانوناً مخالفاً للقانون الفطري الذي وضعه الله تعالى، ومن ناحية أخرى يذهب أصحاب هذه الفكرة إلى أن إبليس سينتهي حال خروج المهدي المنتظر ودليلهم على ذلك قوله تعالى: (قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون***قال فإنك من المنظرين***إلى يوم الوقت المعلوم) الحجر 36-38.

وفسر يوم الوقت المعلوم على أنه يوم ظهور المنتظر علماً أن ليس هناك توافق بين نهاية إبليس وظهور المهدي وما يناقض هذا بعض الروايات التي روجت إلى أن النبي (ص) سيخرج بعد المهدي وهو من يقتل الشيطان، ثم أن الروايات جميعها تتفق على أن المهدي المنتظر سيقتل في آخر المطاف والسؤال الذي يطرح نفسه كيف يقتل المهدي وتعود الحياة إلى الفساد مرة أخرى والشيطان قد قتل من قبل.

أضف إلى ذلك أن الآيات التي يظنون أو يوهمون الآخرين بأنها تشير إلى الظهور المزعوم نجدها بعيدة كل البعد عن هذا الموضوع كقوله تعالى: (ونريد أن نمن على الذين أستضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) القصص 5. ولو تأملنا السياق الذي وردت فيه هذه الآية نجد الحديث فيه عن موسى وعلاقته بفرعون وهامان فهي لا تنطبق بشكل من الأشكال على موضوع آخر.

وقد ورد في [معاني الأخبار] بإسناده عن محمد بن سنان عن المفضل بن عمر قال سمعت أبا عبدالله (ع) يقول: إن رسول الله (ص) نظر إلى الحسن والحسين فبكى وقال أنتم المستضعفون بعدي، قال المفضل فقلت له ما معنى ذلك؟ قال معناه أنتم الأئمة بعدي إن الله عز وجل يقول: ( ونريد أن نمن.........الآية) فهذه الآية جارية فينا إلى يوم القيامة. إنتهى. وأنت خبير بأن هذا تخصيص من دون مخصص وإخراج للآية عن سياقها وقد علمت فساده.

وأيضاً تمسك بعضهم بقوله تعالى: (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما إستخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي إرتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمناً يعبدونني لا يشركون بي شيئاً ومن كفر بعد ذلك فأؤلئك هم الفاسقون) النور 55. وقالوا إن هذه الآية من الحجج التي تؤكد ظهور المهدي المنتظر، والغريب أن ذيل الآية لا يناسب العصمة التي ينسبونها لأهل البيت لأن قوله: [ومن كفر بعد ذلك فأؤلئك هم الفاسقون] يؤكد أن المجتمع المستخلف في الأرض لم يسلب منه إختيار الكفر والفسوق.

وإضافة إلى الأدلة التي ذكرتها فإن معنى الخليفة ليس المراد منه المصلح في جميع متفرقات القرآن الكريم، وقد قال تعالى في عاد وثمود: (إذ جعلكم خلفاء من بعد نوح) الأعراف 69. وقال: (إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد) الأعراف 74. وقد خاطب الكفار بقوله: (وهو الذي جعلكم خلائف الأرض) الأنعام 165. وأكثر من هذا بياناً قوله تعالى: (هو الذي جعلكم خلائف في الأرض فمن كفر فعليه كفره) فاطر 39.

والأمر المثير للغرابة في هذا الزيف قولهم إن الصناعات والتكنولوجيا الحديثة ستتوقف بما في ذلك السيارات والطائرات وكل ما له صلة بالثورة الصناعية وسيعـود الإنسان إلى سالف عهده يحارب بالسيف ويعتمد الحيوانات للتنقل، وهذا الإدعاء الباطل نجده يتلاشى أمام القرآن الكريم الذي يثبت أن الأرض ستكون مزخرفة إلى آخر لحظة من عمرها قبيل حدوث أمر الساعة وقبل النفخة الأولى، كما في قوله: (حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغن بالأمس) يونس 24. فإن قيل: ما المقصود من هذا الطرح وهل فيه فؤائد يمكن الأخذ بها؟ أقول: المقصود من هذا الطرح هو عدم التفريق بين أبناء الأمة بجميع طوائفها واتجاهاتها حتى يتم إعتمادها على النفس كما هو الحال في باقي الأمم دون الإعتماد على الأوهام الباطلة، حيث أن الإعتماد على فكرة المخلص يفضي بنا إلى التقاعس في جميع أعمالنا مما يؤدي إلى ترك العمل الذي يتسبب بعدم اللحاق في ركب الحضارة الإنسانية، فلا يمكن أن تحرر الأراضي المغتصبة، ولا يمكن أن نصلح ما أفسدته الأجيال السابقة إذا كان همنا إنتظار الفرج المزعوم، ولا يمكننا كذلك تصحيح الأخطاء التي إمتدت عبر تأريخ الأمة، فجميع هذه التراكمات إذا تركناها للزمن دون تحريكها، وكان همنا إنتظار الحـل السحري نكـون قد فقـدنا توازننا كأمة لها تـأريخ وحضارة ولها كيانها المستقل، لأن تأجيل الأعمال يفقدنا فرصة الحياة الكريمة التي وهبها الله تعالى لنا.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]