يتفاخر القادة العراقيون منذ تشكيل الدولة العراقية زورا وبهتانا بالنسيج الفسيفسائي للمجتمع العراقي، وطالما تباهوا بالوحدة الوطنية بين المكونات العرقية والدينية والمذهبية في العراق، فلم يتحرج الكثير منهم بإسناد فضيلة تحقيق الوحدة الوطنية داخل المجتمع العراقي الى أنفسهم، مع أن تلك الوحدة الوطنية المنشودة لم تتحقق على أرض الواقع مطلقا ومنذ تشكيل تلك الدولة العراقية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، فالوحدة الوطنية بين المكونات العراقية كانت ومازالت مجرد وهم وشعار زائف يستخدمه حكام العراق لإضفاء الشرعية على سلطانهم، وكانت مشكلة الإقليات القومية والدينية والمذهبية هي الخنجر في خاصرة جميع الحكومات المتعاقبة على حكم العراق، وستبقى كذلك ما بقي الشعب العراقي حبيسا لذلك الصراع الأزلي الذي ورثه من عهد الخلفاء الراشدين الى يومنا هذا.

إذا عدنا بذاكرتنا الى التاريخ القريب سنجد أن الثورات والإنقلابات التي حدثت في العراق كانت تركز بالدرجة الأساس على شعار الوحدة الوطنية، مع أن تلك الثورات والإنقلابات سرعان ما كانت تتنكر لذلك الشعار وتبدأ حالما تتسلم السلطة بمصادرة حقوق الإقليات؟؟!.
ففي عهد أول ثورة في العراق وهي ثورة 14 تموز ثار الشعب الكردي ضد السلطة عندما تنكر زعيم الثورة عبدالكريم قاسم للحقوق القومية المشروعة للشعب الكردي، ولم ينفع النص الدستوري بشراكة العرب والكرد في العراق بتحقيق تلك الشراكة الوهمية البعيدة المنال، فوقع الصدام المسلح لتتبعه قطيعة بين أهم مكونين رئيسيين في العراق وهما العرب والأكراد، ومازال الشعبان يعانيان من آثار تلك القطيعة الى اليوم..
وفي العهد العارفي الأول كان رئيسه السيء الذكر عبدالسلام عارف يوصم بالسلوك الطائفي في الحكم، وإن لم يقصر في ممارسات سياساته العنصرية ضد الشعب الكردي. تلاه العهد الثاني برئاسة الطيب الذكر عبدالرحمن عارف الذي وصف عهده بأنه أهدأ عهود الحكم في تاريخ العراق، وكاد رئيس وزرائه الراحل العظيم عبدالرحمن البزاز أن ينهي القضية الكردية سلميا من خلال مبادرته المعروفة ببيان 29 حزيران، لولا أن عاجله حزب البعث بإنقلاب دموي ثان أدخل العراق بعده الى دوامة شديدة من العنف والقتال الدموي والإرهاب الشوفيني طاول جميع المكونات العرقية والمذهبية في جميع أرجاء العراق.

لقد كانت مشكلة القوميات والطوائف هي أهم المشكلات السياسية التي واجهت وما زالت تواجه أنظمة الحكم في العراق، فلم يستطع الدستور العراقي الجديد و العملية الديمقراطية التي أعقبت سقوط النظام السابق من تجاوز هذه المشكلة التي أخذت في السنوات الخمس الأخيرة أبعادا أكثر خطورة عندما بدأت بعض القوى السياسية المرتكزة على الموروث الديني أو تلك الوافدة من خارج العراق بإستخدام السلاح والعنف الدموي لحسم المشاكل العرقية والدينية والطائفية في العراق.

إذا أخذنا القضية الكردية نموذجا بهذ الصدد، سنجد بأن هذه القضية كانت سببا رئيسيا في سقوط معظم الحكومات العراقية، ولعل سقوط حكم البعث الذي طال لأكثر من خمسة وثلاثين سنة تجربة حية في هذا المجال.. فلو لم يتنازل صدام حسين عن أراضي ومياه عراقية لشاه إيران وفقا لإتفاقية الجزائر الموقعة عام 1975، لما حاول إستعادة تلك الأراضي والمياه بتمزيق الإتفاقية بعد سقوط الشاه ليدخل البلاد الى أتون حرب مدمرة كبلته بديون تفوق 300 مليار دولار، ولولا تلك الديون وما نتج عن تلك الحرب الطويلة من آثار مدمرة على الإقتصاد العراقي وعلى نسيجه الإجتماعي لما إضطر صدام الى إحتلال الكويت أملا في إنهاء تلك الديون،ليتعرض الى حرب ثانية مع أمريكا وحلفائها ويقيد العراق بعقوبات دولية قاسية أصبحت كالطوق الخانق حول رقبة صدام،تلك العقوبات التي دفعت صداما الى التحرش بأمريكا من جديد وتهديدها بأسلحة الدمار الشامل التي تحولت الى ذريعة بيد أمريكا لإسقاط حكمه الى الأبد في العراق.


ولايعتقد أحد بأن القضية الكردية قد إنتهت مع سقوط النظام السابق ودخول العراق الى مرحلة الديمقراطية والتعايش بين مكوناته، فالقضية ما زالت قائمة، ولعل الخلافات العقيمة حول أسلوب إدارة الحكم ومطالب الكرد بإقرار الفدرالية وبحق إقليم كردستان في إدارة شؤونه بنفسه تكفي كدليل على أن القضية لم تنته بمجرد مشاركة بعض القيادات الكردية في إدارة الحكم ببغداد،وأقول يقينا بأنه لولا تلك الحصة الضخمة لإقليم كردستان من ميزانية الدولة العراقية والتي تفوق 8 مليارات دولار سنويا، لما كلفت القيادات الكردية نفسها بالإنضمام الى العملية السياسية في العراق، ولتركت العراق الى حاله كما تركته خلال سنوات التسعينات بالإحتماء تحت الحماية الأمريكية، فالعلاقة quot; المصيرية quot; التي طالما تغنى بها القادة الكرد و العراقيون زورا وبهتانا متوقفة عمليا على مجرد شعرة تشبه شعرة معاوية لا يريد الطرفان أن تنقطع حرصا على مصالحهما الذاتية وليس لمصلحة الإنتماء الى الوطن الواحد؟؟!!.
التركمان لم يكن لهم طوال تاريخ العراق مشكلة مع الحكومات العراقية،وكانت مطالبهم القومية تتركز أساسا حول بعض الحقوق الضئيلة في التعليم بلغة الأم ونشر الثقافة التركمانية، فلم يكن لديهم طموح كبير للمشاركة في السلطة أو الإستقلال بإدارة ذاتية لهم، وأعتقد بأن السبب الأساسي لذلك هو إفتقادهم الى العامل الجغرافي المساعد للحصول على حق الإدارة الذاتية وهو سبب مازال قائما ويحول دون تمتعهم بهذا الحق في منطقة جغرافية معينة، ولكنهم بعد سقوط النظام السابق أطلقوا العنان لأحلامهم وذلك بالإستقواء بتركيا للمطالبة بحق إدارة كركوك كإقليم خاص بهم، ولا أدري ماذا سيكون مصير بقية التركمان الموزعين على طول الخط الواصل من تلعفر مرورا بأربيل ثم كركوك وطوز خورماتو وديالى؟!.


المسيحيون بدورهم كانوا ومازالوا شعبا مسالما يعيش في العراق من دون أية مشاكل مع حكوماته، وقد برزت قضيتهم القومية كذلك بعد سقوط النظام السابق، ومما ساعد في بروزها خصوصا في السنوات الأخيرة هي العمليات الإرهابية التي إستهدفتهم في بغداد و الموصل مؤخرا.
بالإضافة الى هؤلاء هناك أيضا مشكلة الصابئة المندائيين المنتشرين في أجزاء من العراق، كما هناك اليزيديون، وأضيف إليها مشكلة أخرى برزت أيضا في السنوات الاخيرة،وهي مشكلة الشبك الذين لم نكن نسمع بهم في العهود السابقة لخفوت صوتهم.
هذه القوميات والأقليات العرقية والدينية والطائفية لها مشاكل حقيقية مع الحكومات العراقية، ينبغي أن نجد لها حلا واقعيا لكي تتحقق فعلا الوحدة الوطنية المنشودة في العراق الجديد..

كان صدام حسين يمارس طيلة فترة حكمه سياسة عنصرية شوفينية طائفية قائمة على إضطهاد القوميات والأقليات خارج إطار قومية وطائفة السلطة.. وقد وزع قمعه الدموي بالتساوي على جميع المكونات العراقية من دون إستثناء، وإنتهج أساليب عنصرية حاقدة ضد الشعبين الكردي والتركماني من خلال عمليات التعريب والتهجير والتشريد من كركوك ونقلهم الى مناطق أخرى أو حتى بطردهم خارج العراق كما فعل مع الفيليين في السبعينات والثمانيات من القرن الماضي.وكان هدف صدام من تلك السياسة هو تغيير الواقع الديموغرافي للقوميات في العراق. كما أنه أقام حزاما طائفيا حول بغداد بممارسة نفس تلك السياسة، عندما إستقدم مئات العوائل السنية وأسكنها على أطراف بغداد ليكونوا سورا واقيا لها ضد التمدد الشيعي.
هكذا أراد صدام التعامل مع مشكلة القوميات بطريقته الخاصة بالترهيب والتهجير والتشريد!!.
والسؤال الذي يطرح نفسه أمامي الآن هو، إذا كان صدام يتعامل مع مشكلة القوميات بالترهيب ويحاول حلها بطريقته الدموية، لماذا لا تسعى الحكومة الحالية الى حل مشكلة القوميات بطريقة معاكسة تقوم على أساس الترغيب وليس الترهيب؟؟.
إن هذا السؤال الذي يراود ذهني يتحول الى فكرة تتمحور حول تجميع تلك الإقليات القومية في منطقة جغرافية معينة يمكن أن تتحول وفق القانون والدستور الى إقليم أو محافظة خاصة بهذه الإقلية تتمتع فيها بحق الحكم الذاتي لإدارة شؤونها بنفسها. وهذا الأمر ليس مستعصيا بإعتقادي لأن هناك تجارب سابقة مرت بنا في هذا المجال، ففي العهد السابق تم إستحداث محافظتي دهوك والنجف، والقانون لا يعارض إستحداث محافظات جديدة في العراق إذا تطلبت الحاجة ذلك، فعلى سبيل المثال من الممكن أن يحول قضاء الحمدانية أو برطلة التابعة لمحافظة الموصل وهما ذات أغلبية مسيحية الى محافظة جديدة ويرغب أبناء الطائفة المسيحية بالهجرة الطواعية إليها،على أن تضمن الحكومة العراقية التسهيلات اللازمة لذلك بهدف تجميع أبناء الطائفة في منطقة جغرافية محددة يتمتعوا فيها بجميع حقوقهم القانونية والدستورية في إدارة شؤونهم بأنفسهم، ويستطيعون كذلك أن يحموا أنفسهم بشكل أفضل، بالإضافة الى حصولهم على حق التمثيل السياسي في المركز سواء داخل البرلمان أو المجالس السياسية العليا أو في مؤسسات الحكم المركزية، فتفرقهم الحالي يضعفهم ويجعلهم دائما تحت رحمة الآخرين.
وكذا الحال بالنسبة للتركمان فهم عندما يتجمعون داخل محافظة محددة سيكون بإمكانهم أن يستقلوا بإقليمهم الخاص بعيدا عن مشاكل كركوك التي لا يلوح في الأفق أية حلول واقعية لها بسبب تكالب مكوناتها على إدارتها،وقد يناسب قضاء طوز خورماتو لإنشاء ذلك الإقليم،على أن تتحول كركوك رويدا رويدا الى عاصمة إقتصادية للعراق على سبيل المثال.

هذه الفكرة لا تستند على نظرة أو منطق عنصري بقدر ما هي محاولة مخلصة لحل مشكلة القوميات المزمنة في العراق، وأعود لأكرر مجددا بأن صدام حسين كان يحاول حل مشكلة القوميات بسياسات البطش والقتل الجماعي، ويمكن للعراق الجديد أن يحلها بطريقة مغايرة تقوم على أساس المصلحة العامة وتحقيق التعايش السلمي بين الجميع..
وفي المحصلة فهي فكرة إجتهدت فيها، فإن أصبت فأطمح في الأجرين وإلا فحسبي بالأجر الواحد..
والله عليم بذات الصدور..

شيرزاد شيخاني

[email protected]