إذا ماإستثنينا المطولات من كتب التفسير نجد أن الحديث عن يوم القيامة لايتجاوز بضعة أسطر في تفسير الآيات التي أشارت إلى أهوال ذلك اليوم، وعندما نفتح أبواباً أخرى لنطل من خلالها على المحدثين من المتكلمين والكتاب المعاصرين نرى أن الأمر يأخذ بالإنحدار إلى الأسفل شيئاً فشيئاً حتى يتلاشى.

ولكل مفسر وكاتب في هذا المجال رؤيته الخاصة وأعذاره المختلفة عن غيره وقد تجتمع جلها في الغالب على تشابه الأسباب التي يتوقف أهمها حسب نظرتهم على أن الحديث في يوم كيوم القيامة لايعتبر من الواقع المعاش، ولايضيف إلى الحياة المعاصرة شيئاً جديداً سوى المتاعب النفسية التي يمكن أن يتجنبها الإنسان إذا أراد الإبتعاد عن الخوض في فلسفة من هذا النوع.

فالأولى بنا أن نتكلم عن معالجة القضايا الإجتماعية ونسلط الضوء على الفساد الإداري ومعالجته، وإيجاد الحلول المناسبة التي تفتح الطرق أمام القضايا التي يعاني منها الجيل، كتأخير الزواج بسبب غلاء المهور وحقوق المرأة وأسباب الطلاق والتعامل بالربا، إضافة إلى الأحكام العامة من المسائل الفقهية التي تُؤخذ جاهزة من الفقهاء الذين هم أيضاً أخذوا بالإبتعاد عن الحديث الذي يربط الإنسان بيوم القيامة، أو مايعبر عنه في متفرقات القرآن الكريم باليوم الآخر، أو بعض الإطلاقات الأخرى المختلفة، والتي يشير كل منها إلى مرحلة من مراحل ذلك اليوم الطويل والعسير بنفس الوقت.

إلا أن هذا التفكير يعد من السذاجة التي تجعل الإنسان يتناسى المهمة التي خلق من أجلها، حيث أن حضور هذا اليوم وملازمته له في جميع مراحل حياته وتصرفاته يعتبر الضابط الرئيسي الذي تبنى عليه إستقامة الإنسان وحفاظه على أهله وذويه كما قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لايعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يأمرون) التحريم 6.

أما في حالة عدم الإيمان بهذا اليوم فإن الأهداف الأخرى التي كتب فيها الكتاب وألف فيها المؤلفون تبقى كالجسد الذي لارأس له، فعدم الإيمان باليوم الآخر يجعل الإنسان يعيش في الطور الذي أطلق عليه الحق تبارك وتعالى [أسفل سافلين] حتى يصبح يعد الأيام عداً تنازلياً وإن كان لايشعر بذلك لأن التفكير الذي يسيطر على سلوكه يضطره إلى الإيمان الطردي بين الحياة ونهاية الجسد المادي، الذي يعتقد بزواله دون رجعة ودون حساب.

وإذا ساد هذا الإعتقاد فما الذي يمنع الناس عن السير في السبل المتفرقة التي لاتلتقي في صراط رب العالمين، وإذا ماسار الإنسان في تلك السبل فلابد أن تفتح له كل الإتجاهات التي تدعوه إلى الفاحشة والجريمة وعمل الكبائر وتغيير خلق الله تعالى إلى مايناسب الحياة المؤقتة التي إرتضاها الناس الذين جل همهم الدنيا الفانية.

فإن قيل: وماذا عن الناس الذين يمتنعون عن إرتكاب الفواحش والكبائر رغم أنهم لايؤمنون بيوم القيامة؟ أقول: هذا هو الأصل الذي فطر عليه الإنسان والذي أقرته جميع الشرائع وجعلت له ضوابط إلا أن إنحلال تلك الضوابط يُفقد الإنسان إلتزامه بالمسؤولية التي يجب أن يكون عليها، أما في حالة وجود الرادع الذي يشعر الإنسان بملازمته له في كل لحظة وتصرف يقوم به، فإن هذا الشعور يقطع جميع السبل التي تؤدي إلى إنحراف الإنسان.

فإذا علم الإنسان من أن مصيره يكون إلى يوم القيامة وسيثاب على أعماله الحسنة ويعاقب على التجاوزات ومخالفة شرع الله تعالى، فهنا يحصل على المنظم الفاعل الذي يجعل حياته تسير في الإتجاه الصحيح الذي شرعه الله تعالى، والذي من خلاله يحصل على السعادة الدائمة.

والمثير للغرابة أن الإنسان الذي لايؤمن بالله تعالى كيف يطمئن إلى حياة تعد بالأيام أو قياس وجودها إلى العدم يعتبر بمثابة القطرة في البحر بل أنه قياس مع الفارق. فإن لم يكن هناك يوماً ينتصر فيه الله تعالى للمظلوم من الظالم ويؤتى كل ذي حق حقه، فما الفائدة من هذه الأيام المعدودة التي سوف يزول نعيمها شاء الإنسان أم أبى.

فالإيمان باليوم الآخر يعتبر من أهم أصول الدين التي في حالة عدم الإيمان بها يصبح المؤمن والكافر سواء، وقد صور لنا القرآن الكريم هذا اليوم في أروع صوره التي تُحدث الإنقلاب النهائي المسبب لزوال الدنيا وتبديل أرضها بأرض أخرى كما قال جل شأنه: (يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات وبرزوا لله الواحد القهار) إبراهيم 48. ثم أخذ بتصوير إنشقاق السماء، وتكوير الشمس، ثم تطرق إلى إنكدار النجوم وتسيير الجبال، إضافة إلى تعطيل العشار وحشر الوحوش وتسجير البحار، ثم تأتي مرحلة نسف الجبال كما وصفها القرآن الكريم في أروع وصف في قوله تعالى: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً***فيذرها قاعاً صفصفاً***لاترى فيها عوجاً ولا أمتاً) طه 105-107.

وهنالك الكثير من المراحل التي تطرق لها القرآن الكريم والتي لايمكن حصرها في مقال واحد والتي تبدأ بالزلزلة العظيمة التي قال فيها تعالى: (يا أيها الناس إتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم***يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وماهم بسكارى ولكن عذاب الله شديد) الحج 1-2.

فإن قيل: كيف الجمع يوم القيامة بين قوله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون) الصافات 24. وقوله: (فيومئذ لايسأل عن ذنبه إنس ولاجان) الرحمن 39. أقول: إن يوم القيامة يوم طويل وفيه الكثير من المراحل التي يترقى فيها الناس من الأسهل إلى الأصعب، فأول تلك المراحل هي مرحلة الجدال، أي أن الله تعالى يأذن للناس بأن يجادلوا عن أنفسهم كما في قوله: (يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ماعملت وهم لايظلمون) النحل 111.

ثم تأتي مرحلة السؤال، حيث يُسأل الإنسان عن جميع أعماله حتى تلك الأعمال التي يظن أن ليس لها وزناً أوقيمة ولذلك يقول تعالى عن هذا الموقف: (ووضع الكتاب فترى المجرمين مشفقين مما فيه ويقولون ياويلتنا مال هذا الكتاب لايغادر صغيرة ولاكبيرة إلا أحصاها ووجدوا ماعملوا حاضراً ولايظلم ربك أحداً) الكهف 49.

ثم تأتي المرحلة التي تتوقف فيها الأسئلة المباشرة وعندها يُؤذن لأعضاء البدن بالنطق لتكون شاهدة على الإنسان الذي تمتع بها في أيام حياته الدنيا، كما في قوله تعالى: (اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون) يس 65.

وعند حشر أعداء الله إلى النار يشهد عليهم سمعهم وأبصارهم وجلودهم بما كانوا يعملون، وفي هذا الموقف العسير يسأل أعداء الله جلودهم عن السبب الذي جعلها تشهد عليهم، فلا تجيبهم عن سؤالهم بل يكون جوابها كما في قوله تعالى: (وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون) فصلت 21.

فإن قيل: لم ذكر تعالى شهادة بعض الحواس دون البعض الآخر؟ أقول: قال الفخر الرازي: إن الحواس خمسة السمع والبصر والشم والذوق واللمس، ولا شك أن آلة اللمس هي الجلد، فالله تعالى ذكر ههنا من الحواس وهي السمع والبصر واللمس، وأهمل ذكر نوعين وهما الذوق والشم، لأن الذوق داخل في اللمس من بعض الوجوه، لأن إدراك الذوق إنما يتأتى بأن تصير جلدة اللسان والحنك مماسة لجرم الطعام، فكان هذا داخلاً فيه، فبقي حس الشم وهو حس ضعيف في الإنسان، وليس لله فيه تكليف ولا أمر ولا نهي.

إذا عرفت هذا فنقول قال ابن عباس المراد من شهادة الجلود شهادة الفروج، قال وهذا من باب الكنايات كما في قوله تعالى: (ولكن لا تواعدوهن سراً) البقرة 235. وأراد النكاح، وقال: (أو جاء أحد منكم من الغائط) النساء 43. والمراد قضاء الحاجة. إنتهى. أقول: ماذكره الفخر الرازي عن طريق ابن عباس يعتبر من الصغرى.

عبدالله بدر إسكندر المالكي
[email protected]