لا شك أنكم تؤمنون مثلي بأن فقهاً عقلانياً مستمداً من منابع الإسلام الحقيقية-قبل أن تعبث به يد العابثين والمغرضين السياسيين،عبر الأجيال والعصور،خاصة بالسنة النبوية،حيث دونت السنة بعد ما يقرب من مئتي سنة من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم- هذا الفقه العقلاني، هو الوحيد القادر على انتشالنا من السقطة الفكرية والحضارية التي يمر بها العالم العربي والإسلامي الآن. فقهاً يملك فقهائه الشجاعة الأدبية والعقلية والفكرية،فقهاء مزودين بقيم وعلوم عصرنا فيقومون بغربلة ثراثنا الإسلامي وفكر سلفنا الصالح-الذي كان صالحاً بمقاييس عصره- باقين منه على جوهره وجواهره، أي ما يفيد المسلمين في حاضرهم ومستقبلهم،انطلاقاً من فقه المصالح الذي نادي به كل من ابن القيم الجوزية والشاطبي،فحيث مصلحة المسلمين،فثم شرع الله،ناسخين منه مالم يعد متوافقاً مع روح عصرنا وحقبتنا،كما فعل أبوبكر، وعمر، وعلي، ومعاذ... وغيرهم من سلفنا الصالح،وكذلك كما فعل كل من شيخينا حسن الترابي وجمال البنا حالياً،وكما يفعل إخوتنا في حزبquot;العدالة والتنميةquot;الإسلامي التركي وفقهم الله لما يحبه ويرضاه،فقه يجيب ويستجيب لمطابنا وحاجاتنا الأساسية الآخذة بأعناقنا،فقه يرد على أسئلة شبابنا التي تحيرة ويخاف أن يطرحها حتى على نفسه حتى لا يتهم بالكفر، فقه يجد الشباب فيه نفسه لا أن يفقدها فيه،فقه يساعد الشباب على حب الحياة وإحياءغرائزها: حب الموسيقي،الغناء الرقص،النحت،الرسم....إلخ،بعيداً عن فقه النحر والانتحار،الذي يحيي فيهم غريزة الموت، الميتة والمميتة،فقه مبني على أنquot;الدين يسرquot; وعلىquot;يسروا ولا تعسرواquot;وأن quot;رحمة الله وسعت كل شيءquot; هل هذا كلامي أم كلام سيد الخلق أجمعين؟ فنحن نعيش وكأننا وحدنا الذين نعيش في هذا العالم،فهل يعرف المسلمون أن هناك أناس آخرون يعيشون معنا في هذا العالم يجب الإعتراف بهم، أم أن نرجسيتنا الدينية الفردية والجمعية تضخمت حتى أنستنا أن العالم أصبح بفضل الثورة الكتنولوجية الغير مسبوقة،قرية كونية صغيرة نؤثر ونتأثر فيها ببعضنا البعض،فقه يخاطب العقول بالحجج المنطقية،لا فقه أسطوري يعّيشنا في أضغاث الأحلام والخيالات والسراب الذي يحسبه الظمآن ماء فإذا جاءه لم يجده شيئاً،ويعيدنا إلى ظلام العصور الوسطى.


فالحداثة-للذين يقفون عائقاً في طريقها- تيار تاريخي لا يصد ولا يرد،وأنها دخلت بيوتنا شئنا أم أبينا،إن ما يفعله المتأسلمون الآن -بوقوفهم عائقاً في طريق الحداثة-هو تعطيل لسرعتها فقط لكنها آتية كالساعة لا ريب فيها،نحن بحاجة ماسة لفقهاء جدد يؤسسون لمبدأ العقلانية بفقه عقلاني جديد، من منطلق الإيمان المبني على العقل لا الخرافة، فعندنا مثل شعبي في مصر يقول quot;ربنا عرفوه بالعقلquot; لا بالخرافة والأسطورة والتخييل الفردي والجمعي، فقه يؤمن بالعقل كمرجع،وبالإنسان-أي إنسان- كقيمة،فلا مكان لنا اللآن وبهذه الصورة المزرية،من فتاوى نحر وانتحار،لقتل اليهوديات الحوامل،لفكر الجهاد إلى قيام الساعة،واضطهاد المرأة وغير المسلم (اليهودي والمسيحي)، إلا في متحف الحفريات، حيث يجب وضعنا فيه،ونكتب تحته بالبنط العريض: quot;هذه صورة الإنسان في القرون الوسطىquot;.


نحن بحاجة إلى رفع هالة القداسة عن فقهائنا القدامي والمحدثين، لأن تقديسهم هو العقبة الكأداء في طريق تقدمنا، إن خوفنا من معرفة الحقيقة هو الذي يجعلنا نصدق كل ما يقال دون ترو أو إعمال للعقل. وأضرب لكم مثلاً على ذلك،عندما قرأت-منذ سنين- في الجزء الثاني من كتابquot;الفتنة الكبرىquot; لطه حسين أن عبد الله ابن عابسquot;حبر الأمةquot;،قد سرق بيت مال المسلمين،عندما كان والياً على البصرة، واختبأ به في الحرم النبوي،في خلافة علي بن أبي طالب،كرم الله وجهه،وكتب إليه الإمام علي يطالبه بإعادة مال بيت مال المسلمين قائلاً له: quot;كيف ستلقى الله بأموال المسلمين؟quot; فرد عليه quot;حبر الأمةquot; بكل وقاحة:quot;لأن ألقى الله بأموال المسلمين خير لي من أن ألقاه بدمائهم مثلكquot;!!!. فكيف نلغي عقولنا أما هؤلاء السلف وغيرهم،فلهم عقول ولنا عقول أفضل من عقولهم بما قدمته لنا علوم الأديان،لنحلل و نفهم ديننا بعقلانية أكثر.


لم أستطع ليلتها النوم،لا لأن عبد الله ابن عباس قد سرق،لكن لأنه quot;حبر الأمةquot; فكانت له هالة من القداسة،وبعد إعمال عقلي سألت نفسي،هل ابن عباس رجل مثلي وبشر؟قلت نعم. إذن هو إنسان مثلي ومثلك يعتوره الضعف الإنساني،ومن منا لم يسرق ولو بيضه في حياته؟؟!! لكن مشكلتنا أننا quot;نؤمثلquot; الصحابة وعصرهم،حسبنا نظرة موضوعية لنري أن مجتمع الصحابة بل والصحابة أنفسهم بشر مثلنا بهم :الغيرة، والحسد، والكره، والحب والبغض... لكننا نحن الذين أمثلناهم،هم وعصرهم،ورأيناهم إناس غير عاديين في زمن غير عادي، في أقوالهم وأفعالهم،في حين أن الواقع والتاريخ يكذبان ذلك، فعندما قرأت كتاب خليل عبد الكريمquot;شدو الربابة بمعرفة أخبار الصحابةquot; وهو من ثلاثة أجزاء،كنت أتمني-والله- أن لاتنتهي هذه الأجزاء الثلاثة، وكنت أبطئ في القراءة خوفاً من إنهاءها بسرعة. لماذا كنت سعيداً بهذه الأجزاء الثلاثة؟ لأنها أرتني أننا بخير،وأن هناك أمل في الإصلاح، فنحن نلعن عصرنا ونشكو من الفساد وانعدام الأخلاق فيه،وأنا من خلال كتاب خليل عبد الكريم،رأيت عصر الصحابة،وهم الرعيل الأول للإسلام،ومن جالسوا النبي، وكتبوا عنه الوحي، كان مجتمعاً-رغم بساطته- به الصالح والطالح،الخير والشر، الأمانة والسرقة،العفة والزنا، والتنابذ بالألقاب. فقلت في نفسي: لقد كان -إذن- مجتمعاً كمجتمعنا،بل نحن نعتبر أقوى إيماناً منهم،على الأقل لأنهم عاشوا فترة التنزيل،وجالسوا النبي وناقشوه وتأثروا به،أما نحن فآمنا بالله وبرسوله،وصلينا وصمنا وزكينا مثلهم،على الرغم من عدم مشاهدتنا لذلك كله، وعلى الرغم من تعقد مجتمعاتنا في عصر متطور سريع بالتكنولوجيا والثورة المعلوماتية الغير مسبوقة،صحيح أن نسبة الفساد والجريمة-لأحق الحق-أكثر من عصرهم،إلا أن هناك نسبة وتناسب،فقد كان صحابة الرسول في غزة بدر 300 أما بلدي،مصر، وحدها الآن أكثر من 80 مليوناً.


المطلوب منا اليوم لننهض من جديد،بعد أن سقطنا في هوة الجمود الفكري والديني وعبادة الأسلاف،والإرهاب المتأسلم،وكراهية العقل والحداثة،هو أن نعطي لنصف المجتمع،المرأة،حقوقها كاملة غير منقوصة،لتتساى بنساء العالم،ونعترف لمواطنينا غير المسلمين بحقوقهم الكاملة في المواطنة،ونعطي لأبناءنا تعليماً دينياً عقلانياُ ليفهموا دينهم ودنياهم فهماً عقلانياً. لقد تخلينا عن العقل فسقطنا،فلنعد إليه لننهض من سقطتنا من جديد إن شاء الله.

أشرف عبد القادر

[email protected]