انّ اكبر إشكالية، تواجهنا في موضوعة كركوك الآن، كما نرى، هي عملية غسل الأدمغة. فالأطراف المتنازعة على كركوك، تحاول عبر سياسيها ومؤرخيها، وكتّابها ومنظّريها، ممارسة اكبر قدر ممكن من عملية غسل الأدمغة لمؤيديها. ونحن نرى بأن هذه العملية كانت ومازالت، محايثة ومجاورة في حركتها مع حركة التأريخ، طوال عمر البشرية، وذلك من اجل تجييش النفوس لدى المغسول ادمغتهم تأهباً لأي صراع يتجاوز الصراع السياسي.


إذاً، وقبل كل شئ، نحن امام لعبة ذهنية، معرفية، أرشيفية، تأريخية، ومصلحية، يحاول كل طرف من اطراف النزاع إتقانها بمهارة، للظفر بأكبر قدر ممكن من المكاسب فيها. ولكن، كيف علينا قراءة هذه اللعبة؟ هذا برأينا ما يجب ان نفكر به، لمواجهة السياسيين المتصارعين على كركوك الآن، الذين سيجرون البلاد الى مآزق كبيرة، قد لا تحمد عقباها، إن لم يعوا موضوعة كركوك بشكل سليم.

***

لو قمنا بتتبع تأريخ هذه المدينة العريقة بحيادية، وحسب المصادر التأريخية العالمية، سنرى، انها مدينة لا كردية، ولا تركمانية، ولا حتى عربية من حيث اصولها. ولكنها مدينة لكل هذه الاطراف حالياً بالأضافة الى سكانها الاشوريين الاصليين. بأختصار، كركوك، مدينة عراقية بالمفهوم الأصيل للعراقة. ولكن بسبب الفتوحات الاسلامية وبالاخص في العهدين الاموي والعباسي، نزحت اليها الكثير من العوائل التركية، بعد ان انضمت تركيا تحت لواء الاسلام. فصار سكان هذه المدينة خليط من الاشوريين والتركمان. ولكن بما ان الغالبية العظمى من سكانها الاصليين، استعربت بفعل الفتوحات الاسلامية، صارت نسبة الاشوريين الذين لم يستعربوا اقلية قياسا بسكانها التركمان. والشئ الذي رسخ هذا الامر، هو الاحتلال العثماني للعراق قبل 5 قرون تقريباً. فخلال هذا الاحتلال نزحت ايضا اليها الكثير من العوائل التركية، وكذلك نزحت اليها بعض العشائر العربية الاصلية. وبعد الاحتلال البريطاني للعراق في بداية القرن العشرين الذي طرد على اثره الاحتلال العثماني من العراق، نزحت اليها من كردستان، جموع غفيرة من الاكراد، طلباً لتحسين ظروفهم المعيشية والحياتية التي لم يعد يوفرها لهم موطنهم الأصلي، الا وهي الجبال ومايحيطها من سهول محدودة ( وهو شئ مشروع طبعاً ).


اما شعبها الاصيل من الاشور وبقية الاقليات، فقد نزح الكثير منهم الى مدن العراق الاخرى تدريجياً، بعد استعرابهم، مما صار لهذه المدينة امتداد كبير ينطلق منها الى بقية المدن العراقية، لهذا السبب، ولسبب اخر مهم، الا وهو تأريخها المشترك مع البابليين والاكديين، اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا وسياسيا. لذا، فأن كركوك، تعتبر مدينة عراقية عربية. لأن عراقيتها مستمدة من تكيّف التركمان والكرد فيها الى الحد الذي لم يستطيعوا ان يغيروا من هويتها العراقية. وعروبتها مستمدة من كون ان العراق تحول الى بلد عربي بعدما كان بلدا اشوريا وبابليا واكديا ( وعربياً الى حد ما )، لأن العراق كانت تتواجد فيه ايضا بعض القبائل العربية قبل الفتوحات الاسلامية، وهذا الامر سهل تعريب العراق، بالاضافة الى السبب الاخر المهم، المتمثل، بأن اللغات التي كانت يتكلمها الاشوريون والبابليون والاكديون والعرب تنتمي الى عائلة لغوية واحدة، الا وهي اللغة السامية.

***

أين عملية غسل الأدمغة من كل ما جرى لهذه المدينة العريقة؟
نحن نرى، بأن التواجد الكبير للكرد والتركمان فيها، لفترات طويلة، اعطاهم الحق بكل تأكيد الاحساس بالإنتماء اليها، وبإنتماء المدينة اليهم. ولكن الذي فات هؤلاء جميعاً، هو ان هذا الحق، لا يعطيهم الحق ابداً، بسلخ هذه المدينة عن جسد العراق، ومن ثم إلحاقها بالأجزاء التي ينتمون اليها في اماكن اخرى.


ولكن علينا، هنا ان نستبعد العرب من هذه المطالبة، لأنهم باختصار يؤمنون بعراقية المدينة، لذا هم لايسعون الى سلخ هذه المدينة من جسد العراق. وعلينا ان نستبعد التركمان الى حد ما، عنها، لأنهم احيانا كثيرة يؤمنون بعراقيتها، ولكنهم احيانا، يؤمنون بتركيتها، وهنا يقع احد مكامن الخطأ الذي جرّنا الى الأزمة الحالية حول كركوك.


فالساسة التركمان، كلما ضاقت عليهم الأزمة، ادعوا بأن المدينة تركية بالأصل، وذلك من خلال تبني نزوحهم اليها خلال العهد الاموي والعباسي والعثماني، وهذا شئ غير شرعي على الاطلاق كما اشرنا سابقاً. لأن احتلال مدينة ما من قبل قوى معينة مهما طال زمنها، لايحق لها ان تتبنى احقيتها بها. والاتراك كانوا محتلين لكركوك سابقا، ولم يكونوا بناة لها او لتأريخها او لحضارتها القديمة.


ولكننا نعتقد، ان سبب الادعاء التركماني هذا، لايتعلق بأسباب داخلية خاصة بهم كتركمان عراقيين مختلفين مع الاكراد على مصالحهم فقط، وانما يتعلق بسبب موقف السياسة التركية ازاء الاكراد بشكل عام. تلك السياسة التي تعاملت مع الاكراد بطريقة عنصرية، شوفينية، مريضة، قائمة على عدم الاعتراف بوجودهم كقومية، او كمجموعة بشرية، لها خصوصيتها تأريخياً، وثقافياً، واجتماعيا.
هذه السياسة التدميرية، خلقت عقدة كبيرة لدى الاكراد سياسيين وعامة، من الصعب تجاوزها، الا وهي عقدة الاضطهاد والتآمر عليها، بشكل مبالغ احياناً ( وهو شئ يجب ان يؤخذ بنظر الاعتبار ). بالأضافة الى انها خلقت عقدة اخرى، الا وهي عقدة عدم الثقة بالوعود والمواثيق المقطوعة اليهم من قبل الاطراف المتصارعة معها ( وهي بالاضافة الى الطرف السياسي التركي، الاطراف السياسية الايرانية، والسورية، والعراقية سابقا، قبل احداث 2003 ).


من هنا، نعتقد بأن البعض من الساسة التركمان، وللدفاع عن وجودهم في كركوك، لجأوا ( احياناً، وليس دائماً طبعاً ) الى عملية غسل ادمغة مؤيديهم، من خلال ترسيخهم للفكرة الخاطئة تأريخيا وثقافيا لديهم، الا وهي، أن كركوك، مدينة تركية بالأصل.

***

اما الطرف الآخر في المشكلة، والمتمثل بالأحزاب الكردية، فأننا نرى، انها ايضاً مارست لعبة غسيل الدماغ نفسه الذي حاول ممارسته الساسة التركمان مع ابناء قوميتها، وذلك من خلال الإدعاء بكردية كركوك، وذلك استناداً الى مفاهيم غريبة عجيبة، لانستطيع تفسير اسرارها، إلا من خلال عقدة الاضطهاد المتغلغلة فيهم منذ زمن بعيد، مما جعلهم ومن باب الدفاع عن النفس، ان يطلقوا الاتهامات التخوينية ضد كل من يختلف معهم بالرأي من جهة، وان يدعوا بأحقية الاكراد بكركوك تأريخياً من جهة اخرى.
ودليلهم على ذلك، هو انهم يمثلون الاغلبية من سكانها لعدة عقود منصرمة. وهذه الحجة، بالأضافة الى حجة احقيتهم بأقامة دولة مستقلة خاصة بهم، جعلت الكثير من السياسين الأكراد، يلجأون الى عملية غسل الادمغة لشعبها الكردي الطيب. وذلك من خلال ادعائهم بأن كركوك، هي مدينة كردية تأريخياً. وحينما تسألهم ما هو دليلكم التأريخي، لذلك، يظهرون لك خارطة كردستان الكبرى، المليئة بالمغالطات التأريخية.


فالساسة الأكراد، ضموا الى هذه الخارطة، كل مدينة، او قرية، او بقعة من الارض تحيط بكردستان الاصلية ( سليمانية، دهوك، اربيل، جزء من ايران، جزء كبير من تركيا، وجزء من سوريا )، تعيش فيها فئة معينة من الاكراد. وهم نسوا بذلك، ان هذه الفئات، عاشت في الكثير من المدن، سواء كانت كركوك او ديالى، او غيرها من المدن، طلباً للرزق.
ونسوا ايضاً، بأن الاكراد، لم يكونوا بناة لكركوك القديمة، ولم يكونوا بناة حضارتها وتأريخها العريق، بل هم قطنوا هذه المدينة، بعد تأسسيها بألاف السنين، ومن ثم ساهموا مع ابنائها الاصليين، في المحافظة عليها.


ونسوا ايضاً، شيئاً في غاية الأهمية، هو ان النازحين من الاكراد الى مدينة كركوك وعيشهم فيها، يعطيهم حق المواطنة طبعاً، ولكن لا يحق لهم حق سلخها وضمها الى كردستان، حتى لو كان الاشور والعرب يمثلون فيها اقلية الآن، او حتى لو كان الاكراد، يمثلون اغلبية كبيرة فيها. لأن اقلية الاشور والعرب فيها لاتعني عدم احقية العراق الحالي بمكوناته المعروفة فيها. هذه الاحقية القائمة على حقيقة يجب ان لايغفلها احد، الا وهي ان الاشور في كركوك وفي كل مكان هم امتداد لشعب العراق منذ نشوءه وحى الان، وليسوا امتداداً للاتراك او الاكراد في اي يوم من الأيام، لانهم ببساطة يمثلون جزءا من حضارة العراق القديم والحديث، وليس جزءا من تاريخ الاتراك، او الاكراد.


من جهة اخرى، أن سلخ كركوك عن جسد العراق باطل ايضاً، لسبب اخر، الا وهو ان هذا الفعل، يعد سلخاً لجزء مهم من تأريخ بلاد الرافدين العريق، وسلخاً لجزء كبير من ذاكرة شعب كبير له جذوره التاريخية العميقة، في هذه البلاد، وذلك لأن هذه المدينة لم تفقد نكهتها او طابعا العراقي على الاطلاق، على الرغم من نزوح الاكراد والتركمان اليها. فهي على العكس من مدينة اربيل، التي لم تكن كردية بالاصل، ولكن بمرور التأريخ وبفعل طول الفترة الزمنية من تواجد الاكراد فيها بشكل كبير جداً، سُلبت نكهتها وطابعها الاشوري الاصلي. ولهذا نحن نتغاضى عنها حينما يقال بأنها جزء من كردستان. ولكن، الامر لاينطبق على كركوك، لأنها كما اسلفنا مازالت عراقية الطابع قلبا وقالباً.

***

ان مشكلة الساسة الكرد، هو انهم يمارسون الآن نفس الخطأ التأريخي الكبير الذي وقع فيه القوميون العرب منذ ايام جمال عبد الناصر وحتى الآن. وهو خطأ قائم، على نزعة قومية ضيقة، انانية، ترى تأريخ المنطقة لم يقم ولم يستمر، ولم يتحرك إلاّ بها. لذا هم يحاولون مثلما، حاول من قبلهم القوميون العرب، بإرجاع الكثير من تأريخ المنطقة للأكراد. وهذا يمثل الجزء الاكبر من المشكلة الآن.

***

حتى على مستوى اللغة، فأننا نعلم جيداً، بأن اللغة الآشورية من اللغات السامية، بينما اللغة الكردية هي من اللغات الآرية. فكيف يستطيع الساسة الكرد، ان يتجاوزوا هذه المشكلة العويصة، اذا جوبهوا بسؤال حول تأريخية كركوك المتحدثة باللغة الاشورية؟

***

ولهذا السبب، لم يعد يرى الكثير من الساسة الاكراد وللأسف ( مع اعتزازنا الكبير بهم )، اي تصرف سياسي نابع من التركمان مختلفاً عنها، الا من خلال منظار المؤامرة التركية ضدها ( وهي حقيقة مبالغ بها جداً، لأن ليس جميع التركمان عملاء لتركيا ). ولم يعد يرون أي تصرف سياسي عربي عراقي مختلفاً عنها، إلا من خلال منظار المؤامرة البعثية العروبية ضدها ( وهذا شئ مبالغ به ايضاً ).

***

على جميع الاطراف المتنازعة على كركوك ان تعي حقيقة في غاية الأهمية، الا وهي ان اكثرية احد اطرافها في هذه المدينة لايعطيها الحق ابداً بسلخ هذه المدينة الاشورية العراقية الاصيلة عن جسد العراق، لأن ذلك يعني سلخ تأريخ وحضارة هذه المدينة التي ترابطت مع الحضارات العراقية القديمة البابلية والاكدية تحديداً، اقتصاديا، وثقافيا واجتماعيا وسياسيا والاهم من ذلك، لغوياً.
فمن يريد العيش في هذه المدينة مطمئنا على حقوقه الطبيعية، عليه ان يؤمن بمرجعيتها الى الحكومة المركزية القائمة في بغداد، وليس بمرجعيتها الى اية جهة كانت. ونحن نعتقد، بأن الحوار حول هذه المدينة يجب ان ينبع من هذه الحقيقة اولا واخيرا، ونعتقد، بأن جميع الاطراف ستأخذ حقوقها في المدينة بالتساوي، سواء كانوا من الاشوريين، او الاكراد او التركمان، او العرب، او غيرهم من الاقليات، اذا لجأوا الى الحوار الحضاري، وعلى المصارحة المستندة على حقيقة كركوك التأريخية. ونحن لدينا ايمان كبير بجميع الاطراف المتنازعة الآن، وبقدرتها على حل هذه المشكلة، مثلما استطاعوا خلال الخمس السنوات الماضية من حل الكثير من المشاكل التي كانت عصية على الحل في بداية نشوءها. لذا نتمنى ان يبتعد الجميع عن الخطاب الموتور المحتقن، وعن الخطاب التخويني لأي طرف كان، ويجب ان لاينسى الجميع بأن الاطراف السياسة المختلفة الآن، مهما كانت مؤشراتنا عليها، تمثل صناديق الاقتراع الشرعية، وتمثل الرغبة الحقيقية، في بناء عراق ما بعد 2003.

باسم الانصار
[email protected]