زادت في العقود الأخيرة حاجة الحكومات وصناع السياسية إلي خبراء من خارج الأجهزة التابعة لهم والمؤتمرة بأمرهم، لكي يوفروا لهم المعلومات التي تدعم سياساتهم ومن يوفر لهم رؤية واقعية للاحتمالات المرتقبة لنتائج قراراتهم، وإلي ومن يضع يدهم علي السياسات البديلة ويحدد لهم مقدار تكلفتها المادية والمعنوية وعواقب الأخذ بها لو اضطرتهم الظروف إلي ذلك..


غالباً ما تسعي مؤسسات الفكر والرأي Think Tanks التي تقوم بأنشطة بحثية سياسية واقتصادية وأمنية بهدف التثقيف والتنوير، إلي توفير مساحة أوسع من الرأي والفكر البديل أمام صانع القرار في العديد من القضايا ذات الأهمية علي المستويين الداخلي والخارجي من خلال: البحوث والدراسات والدوريات والمنشورات، دون أن يكون من وراء ذلك منفعة أو مكسب شخصي كما تفعل جماعات الضغط Lobby ذات المصلحة الخاصة الضيقة..


مؤسسات الفكر والرأي تطمح عادة للمشاركة في بحوث التنمية البشرية والتحديث ومتطلبات الشرائح الاجتماعية الحالية والمستقبلية، وميادين السياسة الخارجية وعلاقات الجوار والتوازنات الإقليمية والدولية، واستثمارات الموارد الطبيعية وبحوث البيئة.. بل ويسعي بعضها للمشاركة في بحوث تطوير أساليب الدفاع القتالية وتحديث العمليات العسكرية ومتابعة الظواهر العالمية الإنسانية والبيئية الطبيعية وتوفير رؤية لكيفية التعامل معها..


ساهم في تحقيق طموحات العديد من هذه المؤسسات قناعة أنظمة الحكم بحاجتها لأسلوب عقلاني مبتكر يأخذ في اعتباره المعطيات الثابتة والمستجدة لمواجهة الأزمات التي توالي التوالد في ساحتها الداخلية أو الخارجية في لحظة فارقة، أو التي شاءت نظرتها المستقبلية أن تستعد لها قبل أن تصطدم بها.. وبعضها كان في حاجة إليها لتحقيق مصداقية سياسية داخلية أو خارجية تُكسبه ثقة الجماهير وتخرجه من ورطة كان علي وشك الوقوع فيها..


الحاجة إلي المعلومة في الوقت المناسب بشكل يساهم في الاستفادة منها وتطويعها لتحقيق حاجة صانع القرار، تُعد من أهم التحديات التي تواجه مؤسسات الفكر والرأي.. تحدي كيفية توفيرها بشكل إيجابي حتى قبل الحاجة إليها لدعم تحرك سياسي يخدم قوي سياسية واجتماعية ذات وزن أو للتحكم في بوادر أزمة قبل أن تتفاقم، لذلك لا نتجاوز الوقع حين نؤكد أن العوز المعلوماتي هو الذي ساهم بشكل أو بآخر في توالد العديد من مؤسسات الفكر ذات الشهرة العالمية المنتشرة اليوم في كل مكان لتلبية النهم المعرفي للسياسيين و المسئولين..


التحدي الثاني هو علاقاتها بمنظمات المجتمع المدني سريعة الحركة والمُبادِرة للاستجابة علي حساب بيروقراطية الأجهزة الحكومية المتكلسة بطيئة الحركة، فمؤسسات الفكر والرأي مُطالبة بحكم قدراتها وإمكانياتها بتلبية حاجة الطرفين ( الأجهزة الحكومية وغير الحكومية ) لخدماتها، الأمر الذي يَفرض عليها ضرورة التعامل بشفافية مع كلا الطرفين لتحقيق التغييرات التي تتناسب بمصداقية مع احتياجات المجتمع والتي تتوافق مع تطلعات كل منهما خاصة إذا كانت تلك التطلعات نابعة من مصلحة مجتمعية حقيقية نابعة من الهدف الذي ينظر إليه كل طرف من زاوية قد تكون متعارضة علي السطح فقط..


التحدي الثالث هو التمويل الذي يظل طوال الوقت هاجساً مقلقاً في ظل التنافس الشديد في سوق المعلومات والتكنولوجيا، وفي ضوء محدودية الفهم لدورها لدي أصحاب رأس المال ومنظمات الدعم الثقافي ومراكز التنمية من ناحية ولدي أنظمة الحكم من ناحية ثانية ولدي أفراد المجتمع من ناحية ثالثة.. ويزداد هذا العامل تأثيراً إذا كانت المؤسسة تتبني برامج إصلاح سياسية واقتصادية وتُروج لمفاهيم الحرية والديموقراطية لأن برنامجها هذا يتيح لنظام الحكم ولمنظمات المجتمع المدني أن يتجاذبانها بشدة وعنف طوال الوقت، وربما ادعي أحدهما أو كليهما أنها تفتقد للرؤية الوطنية الأصيلة..


أما المؤسسات التي تحصل علي تمويل من مصادر خارج بيئتها المحلية، فهي في أزمة طوال الوقت بسبب عدم شفافية أنشطتها وتدني مصداقية أهدافها والشك المجتمعي في معطيات بحوثها ونتائج توصياتها، خاصة إذا كُشف الستار ndash; لسبب أو لآخر - عن توائمها مع نوازع غير أمينة في نظرتها للمجتمع وتطلعاته المستقبلية.. ناهيك عن علاقات مثل هذا التمويل في بعض الأحيان بالبرامج المعلوماتية المتناسقة مع متطلبات العولمة !!..


يُعد تحدي شك المواطن فيما تقدمة مؤسسات الفكر والرأي لصانع القرار من أصعب التحديات التي يواجهها القائمون علي أمرها، خاصة في المجتمعات النامية الساعية لتحقيق معدل مناسب ومتدرج من الإصلاح السياسي والاقتصادي.. لأن المجتمع لا يُصَدق أبداً أنها تعمل لمصلحته، في نفس الوقت الذي تعمل هي ضمن أطر تحرص علي شفافية المعلومة ونتائج التنبؤ التي تفسح الطريق أمام نظام الحكم لكي يحقق خططه الإصلاحية خدمة للمجتمع الذي يشك في مساعيها وتوجهاتها وينظر إليها من منظور التواطؤ مع هذا النظام علية..


أما تحديات الحاجة الماسة لتطوير الأساليب البحثية وطرق العرض والمواظبة علي التأثير بايجابية والحرص علي تعميق التخصص وسرعة تقديم النتائج، لضمان القدرة علي المنافسة والتواجد في الميدان فتأتي في مرحلة تالية..
مؤسسات الفكر والرأي لم تَعد ترفاً يمكن للحكومات أن تستغني عنه لأنها توفر لها من المعلومات والمقترحات والبدائل ما لن تجده عند أجهزتها البيروقراطية المتطابقة معها في الرؤية.. ولم تعد وصمة عار في جبين المجتمع لأنها تتعاون مع أجهزة الدولة لتحقيق مشاريعها الإصلاحية والتنموية ضمن رؤية تجمع بين الطرفين.. ولم تعد مصدراً للقلق الأمني الداخلي بسبب تقديمها لخبرتها في بعض الأحيان لقوى معارضة داخلية أو لأطراف خارجية ذات صلة وثيقة المجتمع الذي تعيش فيه، لأنها تعمل وتنتج وتنشر وتعرض رؤيتها وتوصياتها علي الملأ..


المهم أن تعمل هذه المؤسسات في دائرة الضوء وأن تتواءم مع ظروف المجتمع وأعرافه وتقاليده وأطره القانونية وعلاقاته المجتمعية، حتى وإن كانت تخطط لتطويرها وتحديثها ثقافيا واجتماعيا.. وأن تنتهج الشفافية التي تسمح للمعلومة أن تكون في متناول من يريد الإطلاع عليها.. وأن تقدم رؤيتها بمصداقية وان تعلن باستمرار عن مصادر تمويلها..
bull;من كتاب عقل أمريكا.. مؤسسات صناعة الرؤية والفكر في الولايات المتحدة الأمريكية / للكاتب

الدكتور حسن عبد ربه المصري
bull;* استشاري إعلامي مقيم في بريطانيا

[email protected]