ربما إن الكثير من المتفائلين كانوا يعتقدون أن النظام السابق هو مجرد ترويكة قيادية لا يتجاوز عددها المئات من الكوادر السياسية العليا والعسكرية والخاصة وبسقوطها وهزيمتها انتهت حقبة من تاريخ العراق السياسي والاجتماعي، ولم يلتفت أو ينتبه الكثير إلى نوع الثقافة التي أنتجتها هذه الأنظمة عبر عشرات السنين لدى قطاعات واسعة من الأهالي بل وكيفية توظيفها لتراكمات من العادات والتقاليد البدوية والقروية البالية واستخدام مفردات الشد العشائري والقيم القبلية التي اندثرت لدى الكثير من دول العالم حتى الشرقية والإسلامية منها، وإعادة تصنيعها وزركشتها وتقديمها كسلوكيات أصيلة في مجتمعات ما زالت تبحث عن هويتها الوطنية ولم يكتمل بنائها المدني المتحضر لحد هذا اليوم، فهناك نسب كارثية في ألامية والتخلف الحضاري والفقر المدقع والولاء للفرد والقبيلة والمنطقة، بما يؤشر انعدام مبدأ المواطنة وانحساره لصالح الانتماء إلى العشيرة أو القرية والمنطقة، حتى يبدو للكثير ذلك الانتماء أكثر قدسية من الانتماء للشعب أو الدولة والوطن.


لقد عملوا منذ الساعات الأولى لانقلابهم وسيطرتهم على مقاليد السلطة والمال في البلاد على إقامة جمهورية القرية بكل ما تعنيه هذه المفردة من معانيها وتفاصيل ما يرتبط بثقافة القرية وعاداتها الايجابية منها والسلبية، بل وأنجزوا في مراحل متقدمة من حكمهم مؤسسات ادارية في اعلى مستويات الدولة تحت تسميات دوائر العشائر والانساب ومن ثم انتاج شيوخ العشائر بمواصفات واصناف ودرجات ( أ، ب، ج ) للمستويات، ثم استحداث رؤساء الافخاذ ضمن العشيرة الواحدة، وكل ذلك يتم تغطيته برواتب ومخصصات شهرية وواجبات خاصة يقوم بها هؤلاء الاشخاص خدمة للنظام ورئيسه.


إن نظاما حكم العراق قرابة أربعين عاما وأشاع ثقافة الحزب الواحد والعرق الواحد والمبدأ الأوحد والرئيس الضرورة والأب القائد ومبدأ نفذ ثم ناقش ومئات الآلاف من الأميين الذين استقدمهم من القرى والأرياف كعناصر لقوى الأمن والاستخبارات والمخابرات وأسكنهم في مراكز المدن وأطرافها بكل عاداتهم وتقاليدهم وسلوكياتهم والالاف من الشيوخ الذين انتجتهم دوائره، لا يمكن التخلص من آثاره بمجرد إسقاط هيكله الإداري وأدواته في عدة أشهر أو سنوات.


لقد مارس خلال اربعة عقود عمليات اشاعة وزرع مفاهيم شمولية وعسكرية وعنصرية لدى قطاعات واسعة من الأهالي وبالذات القروية والنازحة من القرى والأرياف إلى حافات المدن ومن ثم إلى مراكزها في العيش والقرار، وعسكرة تلك القطاعات وشحنها بمفاهيم مغلقة لا تمت إلى العصر أو الحضارة بأي صلة كانت بل على العكس كانت وما تزال تتغني بأمجاد الغزو والعشيرة والبداوة وتشوه التاريخ وحقائقه بما يتناسب وانتماءاتها الطائفية والعرقية ويعمل على إلغاء أو تهميش الآخرين لحساب مفهوم الشيخ والاغا وسلوكيات القطيع.


لقد أشاعت الأنظمة السياسية العربية في معظم بلدان الشرق الأوسط ثقافة القرية والبداوة، لا بتلك القيم المشرقة فيها بل بتلك الثقافة المغلقة والبدائية في تعاطيها مع مفردات التطور الاجتماعي والاقتصادي في المدن ومجتمعاتها المعاصرة، وحينما نتحدث عن القرية فإننا نتحدث عن القرية في دولنا من العراق وحتى المغرب، المغمورة بالأمية والبدائية والفقر المدقع والتحسب بل والخوف من المدن والتخلف في معظم مضامير الحياة إلا ما كان استثناء لا يخضع للقياس العام، بل واستبعدت ثقافة المدينة والطبقة المتوسطة تماما في كثير من بلدان الشرق الأوسط وعملت على تدمير هذه الطبقة وإنهاء وجودها وتشويه طبيعة وهوية المدن بعمليات النقل العشوائي لسكان القرى إليها، خصوصا في النصف الثاني من القرن الماضي وبداية عصر الانقلابات العسكرية والدكتاتوريات الجمهورية المؤدلجة بنظرية الحزب الواحد وملحقاته. هذه الثقافة التي لا تعترف بالآخر وتنظر إليه بمنظار التبعية الدونية كونها سلطة منفردة ومخولة دائما من السماء ومن الشعب كما تشتهي هي لنفسها، حيث تراكمت لديها معارف القرية ومجالسها المغلقة وقيمها القبلية ونظامها الاقتصادي البدائي المعروف في مناطقنا بالشرق الأوسط عموما منطلقة من الترابط في النسب ومن مبدأ شيخ العشيرة ( الأب الكبير ) الآمر والناهي دونما نقاش أو اعتراض.


هذه الثقافة المحصورة في أعماق التكوينات النفسية للفرد والمشبعة بالخوف والتحسب البدائي من الآخر والولاء للأسرة والعشيرة في الانكماش والتعاطي المقرون بالعدائية لكل ما هو خارج مفهوم الأسرة والعشيرة نتيجة تراكمات فكرة الغزو المتوارثة عبر مئات السنين أو ربما أكثر، وقد كرست معظم الأنظمة السياسية العربية هذه الثقافة وأمدتها تارة بوسيلة الدين وتأويلاتها وتفسيراتها القروية السوداوية لنصوصه ( تأثيرات ملالي القرى والكتاتيب التربوية ) وذلك لإشاعة الكراهية وفكرة الواحد في كل شيء امتدادا من ذلك البدوي الذي كان يمتطي حصانه في أعماق الصحراء ولا يرى غيره في تلك الأرض المترامية الأطراف وصولا إلى فكرة الرئيس القائد والأوحد، والرأي المقدس الغير قابل للنقاش أو الاعتراض وإسقاط هذه المفاهيم على علاقة الفرد بالشيخ أو الرئيس، وتارة أخرى بالضرورة التاريخية لوجودها ووجود نظام الفارس والقائد والملهم والذي لا مثيل له بين البشر، حتى تحولت مجتمعاتنا إلى ما يشبه نظام القطيع في السلوك والتعاطي مع المافوق دائما وفي معظم تفاصيل الحياة حتى ما كان منها بعيد عن السياسة أو الإدارة ليس في شخص الرئيس أو الملك بل نزولا إلى اصغر حلقات الإدارة وانتقال السلطنة من أعلى الهرم إلى أسفله في السلوك والتعاطي مع الآخرين، ومن ثم انتشار ظواهر التملق والتدليس والنفاق الاجتماعي وانحسار حرية الرأي وجرأة التعبير بل وانعدامها كليا لصالح شخصية المدير والشيخ ومن ثم القائد والحزب أو النظام المهيمن، وبذلك تم تسخير ومن ثم تأويل وتفسير أكثر النصوص قدسية في الكتب الدينية وأحاديث الأنبياء والرسل والأئمة والأولياء لخدمة نظام الواحد الأحد المتمثل بشيخ العشيرة ومن ثم الأمير أو الملك المفدى وأخيراً الرئيس أو القائد الضرورة في معظم جمهوريات الشرق الأوسط ومن تبعه وماثله جغرافيا واجتماعيا إلى يوم الدين وتحويلها تدريجيا إلى جمهوريات وممالك قروية في أحدث عمليات ترييف المدن والدول!؟

كفاح محمود كريم