يحكى أن لصاً محترفاً أعلن توبته على كِبَرٍ،وكان له أربعة أولادٍ قد احترفوا صنعته من بعده،غير إنهم كانوا يواجهون مشاكل كثيرة.. طالما سَخِرَ منها واستخفّ بها- ذلك الأب الحاج للتو- مستلقياً على قفاه من شدّة الضحك، قائلاً: آه.. لو أني لمْ أعلن توبتي،وكنت مكانكم الآن،لفعلت كذا.. وكذا.وكان في قوله ذاك خير الناصحين لهم بطرق عجيبة،ومكائد غريبة، تسهلّ عليهم مهمتهم، وتعينهم في سرقتهم كلّ مرّة.

ذكرني بحكاية المثل -الذي يضرب ولا يقاس عن الحاج التائب المتعفف- هذا،مقال لكاتب يمجد فيه الموقف السياسي للصحفي منتظر الزيدي،صاحب الحذاء الشهير،الذي أصبح رمزاً سياسياً،يمكن خلاله تجاوز أعراف المهنية في لحظة ما،حسب وجهة نظر الكاتب الدكتور عبد الحسين شعبان-متفاعلاً مع القضية من بابها السياسي والمهني والأخلاقي ndash;quot;لا يطيح الحذاء بالاحتلال ولن يعيد الكرامة، ولا رمي الحذاء دليل عمل جبان أو عدم احترام للضيف أو تعبيراً عن عدم التحضر. فالتحضّر بالمدنية واحترام المرأة ومساواتها مع الرجل واحترام حقوق الأقليات والسير في درب الحداثة وتحقيق التحرر الوطني والاجتماعي وبالتخلص من الاحتلال والهيمنة!quot;.مقطع واحد من المقال الطويل..أتوقف عنده بألم جمّ،لحظة يريد لنا الكاتب ان نصبح سياسيين عند الضرورة،وحتى بتخلّينا عن المهنية،فما دام لا احترام للمرأة علينا ان نصنع مساواتها ndash;كصحفيين أو أصحاب قلم- باستخدام الأحذية،وكذا ستأتي حقوق الأقليات،وسنسير على هذا الحال في دروب الحداثة.ولكن مهلاً..فكيف نسير في تلك الدروب ونحن حفاة،رافعين الأحذية،بيارقاً لتحقيق التحرر الوطني والاجتماعي؟!.

وليسمح لي القارئ الكريم بوضع مقطع آخر من مقال الدكتور شعبان،وهو يتحدث عن اليأس الشخصي والعام،كدافع لإنتاج فعل الزيدي،الخارج من المهنية الى السياسة،حسب ما يبيحه الكاتب في الضرورات السياسية،مبرّراً:quot; يضاف إلى ذلك أن شاباً يسارياً حالماً ومجروحاً على المستويين الشخصي والعام، أراد أن يصنع أسطورته بعد إجهاض أسطورة التغيير الذي ظل منتظر ينتظره، وهكذا ضاع حلمه وتبدد الأمل من بين أصابعه، وهنا امتزج العام بالخاص، فأنتج ردة فعل أرادها على طريقته الخاصة، باستقبال ضيف ثقيل لم يحترم أصول الضيافة، وهنا اعتملت في نفسه ازدواجية مشاعر الوطني والمهني، فحاول أن يؤرخ اللحظة حسب ألبير كامو!! ولكن بطريقة سياسية، لكنها غير مهنية!quot;.
ماذا أراد الكاتب بهذا مثلا؟. سؤال أتوقف عنده باحتجاجين شديدين:اولهما،احتجاج على بعض التفاصيل،المبثوثة (..في العسل)،منها تنسيب الزيدي الى اليسار العراقي،ولعلّل التاريخ يعيد نفسه،حين يريد لنا الكاتب ان نعتبر الفاعل يساري الجناية،ليقول لنا هذه آخر أدوات اليسار،أو ليؤجج على اليسار ناراً،ما أشبهها بالنار التي قال النازيون ان يسارياً (هو الشاب الهولندي فان لبه)أحرق بمثلها الرايخستاغ (البرلمان الألماني)،لتقوم القيامة على اليساريين،فيبادوا شرّ ابادة.الحادث الذي افتعله النازيون، لتشتعل وبعود ثقاب شرارة الحرب العالمية الثانية. حتى أختلف أهل اليسار،على حقيقة الأمر،فمنهم من مجّد إندفاع (كبش الفداء)، وأيّد فعلاً، أنكرت حدوثه الأغلبية.

والكلام بتوارد الحدثين يطول،وأترك لليسار وأهله أن يقولوا قولهم في ما ورد،فلست يسارياً، إلا بقدر ما يتعلق الأمر بالحقيقة،وهي أعز من ماركس و إنجلز بالتأكيد!.

وقبل أن أحتج احتجاجي الثاني،أنبه الى ما ورد من كلمات للكاتب في تفسيره لمعنى الضيافة،واتركها أيضا لتفسير الساسة،فلست سياسياً،إلا بقدر استغرابي من حليّة فعل الزيدي(سياسياً) لدى الكاتب عبد الحسين شعبان،وتطابق تلك الحليّة في مستوى فني(سياسي) لدى المغني شعبان عبد الرحيم في أغنية يخاطب فيها الضيف قائلاًquot;بصراحة مقدرش أغشك.. وأقول زعلت عليك..ياريتها جت في وشك.. وخزأت عينيك!!quot;.

والكلام بتوارد الحليّتين يطول أيضا..ولست من أهل المغنى،إلا بقدر تعلق المعنى في قول الرائع أنسي الحاج عن فيروز والغناء الأجمل quot;كلّ غناء هو سيطرةٌ على الزمن وغلبةٌ على الوحشيةquot;.

وعند حدود هذه الوحشية ستأخذني الكلمات الى الأدب،فأعلن احتجاجي الثاني، لحظة أجد الكاتب شعبان(وليس المغني) يضع الزيدي في فسحة التبريرquot;أن يؤرخ اللحظة حسب ألبير كامو!! ولكن بطريقة سياسية، لكنها غير مهنية!quot;.واحتجاجي هنا ليس على اللحظة الزيدية، السياسية او المهنية،ولكن على ان نضع البير كامو،الكاتب الكبير، في تاريخيةِ لحظةٍ مثل تلك،رغم وجود مفارقة طريفة في القضية،تشبه النكتة السوداء،ففي نهاية السنة الماضية اطلعت على ترجمة قيّمة من تحف(صالح علماني)،للكاتب الأراغويي إدواردو غاليانو،في كتاب ممتع عن كرة القدم وبأسلوب رائع،يروي فيه حكاية الكاتب الكبير البير كامو،والذي كان نجماً كروياً بامتياز،وحارساً لمرمى فريق كرة قدم جامعة الجزائر،قبل ان يكون كاتباً مبدعاً،وهي حكاية ربما تكون معروفة للكثيرين عن البير كامو (الجزائري المولد والفرنسي الثقافة)،لكن الكاتب الأراغويي في كتابه الشيّق،يروي جديداً، فيقول: اعتاد كامو اللعبَ كحارس مرمى منذ طفولته، لأنه المكان الذي يكون فيه إستهلاك الحذاء أقل، فألبير كامو، ابن الأسرة الفقيرة لم يكن قادراً على ممارسة ترف الركضِ في الملعب، وكل ليلة كانت الجدة تتفحص نعلَ حذائه وتضربه إذا ماوجدته متآكلاً.

والكلام باختلاف الرَجلين يطول،فبين رامٍ للحذاء،وبين حارس مرمى حريص على حذائه،فارق بين من يتعلم من تجربة الحذاء في نهاية الأمر.

وفارق كبير،ان تسلخ القضية عنوة من أخلاقنا ومهنيتنا بدافع سياسي.أ فنغسل للسياسي أخطائه بأخطائنا الأكبر؟!.

علينا ان نتعلم من هذا الخطأ الفادح،ان نقرّ بأن رمي الحذاء دليل عمل طائش وغريب ومستهجن، وأن تكون غرابته محطّ توقف للسؤال الأخلاقي،قبل أن يكون سؤالاً عن إيجاد تنصيص دستوري عليه،أو قرار دولي،من عدمه،فالأخلاق قبل السياسة،وهي أصل المهنية.والأخلاق شجاعة باتجاه الوطن،والرأي قبل شجاعة الشجعان،وهو أول وهي المحل الثاني.

وعلينا أن نقرّ ان هذا الفعل جاءنا من الجهة التي لا نتوقعها.
لحظتها، سنتعلم من ألبير كامو،لاعباً لكرة القدم، قبل ان يكون كاتباً كبيراً،إذ يقول:quot; تعلمتُ أن الكرة لا تأتي مطلقاً نحو أحدنا من الجهةِ التي ينتظرها منها. ساعدني ذلك كثيراً في الحياة خصوصاً في المدن الكبيرة حيث لا يكون الناس مستقيمين عادةquot;.

ألبير كامو فَشِل في كرة القدم،لكنه تعلم منها،ليقولquot;إنا مدين إلى كرة القدم بكل ما أعرفه عن الأخلاقquot;..فهل سنكون مدينين(بأخلاقنا مستقبلاً) الى رمية الحذاء تلك؟!.وهل سنجد quot;تأريخيةquot; ما للحظة الزيدي، تتطابق والتعريف القاموسي للأخلاق: كشكل من أشكال الوعي الإنساني القائم على ضبط وتنظيم سلوك الإنسان في كافة مجالات الحياة الاجتماعية،وبدون استثناء، في المنزل، مع الأسرة، وفي التعامل مع الناس، في الأمكنة العامة،في العمل، وفي السياسة؟.

أسئلة لا يمكن فيها التفريق بين عمل منتظر الزيدي المهني والصحافي من جهة وبين رأيه السياسي من جهة أخرى.الرأي الذي وجد تأييداً في بعده السياسي لدى الكاتب عبد الحسين شعبان.معترفاً -بوضوح معلن-فحسب وجهة نظره كأول متحدث عن قضية الزيدي في فضائية الجزيرة..هذا الفعل مبرّرٌ كاحتجاج سياسي-الرأي الذي أكده أيضا في مقاله الأخير-بالقول quot;يمكن التفريق بين عمل منتظر الزيدي المهني والصحافي من جهة وبين رأيه السياسي اليساري الوطني من جهة أخرى، وهو ما عبّرتُ عنه بوضوح كأول متحدث عن قضية الزيدي في تلفزيون laquo;الجزيرةraquo;، فقد كان ما قام به جزءاً من احتجاجquot;.

وأخلص الى القول ان الكاتب يؤيد في المنطق السياسي ما قام به الزيدي،وإن كان على حساب المهنية..أقول قولي هذا وأنا أتأمل خبراً نشرته وكالة أصوات العراق بتاريخ 17/2/2009 :..quot;كرمت نقابة الصحفيين العراقيين المفكر والحقوقي عبد الحسين شعبان بدرع الصحافة لدوره quot;الخلاقquot; في نشر الوعي الإعلامي والقانوني، كما ذكر بيان للنقابةquot;.

فهل يحق لي يا ترى(ووفق البعد السياسي) أن أعنون مقالي؛ درع الصحافة العراقية لمؤيدي منتظر الزيدي؟.

علي شايع