مثلُ خائفٍ من الظلامِ، فيغمضُ عينيه..وكمن يلجأُ إلى حضن أم رؤوم،أغمض عيني عن كل شيء خارج تلك اللحظة،متكوراً في حضن أم أخرى-على مضض-فهي أمٌ،أهجرها طويلاً، وأعود إلى ذاتي فيها،لأسميها الأرملة السوداء،و لي في الاسم ما أعنيه سواداً.غير مبالٍ أن يشابه هذا الاسم لقباً لأنثى عنكبوت خطرة، تسمى بالأرملة السوداء، لأنها تقتل زوجها بعد ليلة زفافها.فأمي السوداء أرملة أب سومري قديم خطّ أول أحرف كتابته،على رقم طينية ذابت مع المطر..وذاب معها الأب في المطر العراقي:
(( مطر..مطر..مطر
...
كأنّ طفلاً باتَ يهذي قبلَ أنْ ينام
بأنّ أمّه - التي أفاقَ منذ عام
فلم يجدْها، ثم حين لجَّ في السؤال
قالوا له: quot;بعد غدٍ تعودquot; -
لا بدّ أنْ تعود
وإنْ تهامسَ الرفاقُ أنّها هناك
في جانبِ التلِ تنامُ نومةَ اللحود،
تسفُّ من ترابها وتشربُ المطر)).
مطر..مطر..مطر
مطر غنى له السياب،وكان في امتداد الآباء والأجداد،خير فتى، ممن ارتموا في أحضان تلك الأرملة السوداء..وهي على سوادها هذا، ففي غالب حالها الأول كانت تأخذ لون وجودها من بقايا الفحم،فهو الأقرب لمن يريد أن يكتب-في كل مكان وزمان-ومن لا حيلة له بوفرة لون آخر.وهي سوداء أيضاً ؛لأنها الأقرب إلى ما تحصده نار الكاتب،فالفحم أرث النار،والنار تُضْمِرُ جمر كاتب سيكره ما كَتَب،منتهياً للتو في السؤال عن جدوى كتابته،فالكتابة امتداد أزلي،كظلام الأبدية السحيق،لا تنتهي.أما الكاتب فحين ينهي حروفه،سيشعر بأسى التوقف.فالسكون موت.والسكون ظلام يطوق المبدع.والحركة ولودٌ،يتبع سوادها صاحب القلم.
الأم السوداء هي الكتابة إذن..
وما يدفعني الى أحضانها اللحظة، إحساس باللجوء إلى سوادٍ،أو لأقل؛ ظلام قريب،مثل خائف من الظلام يغمض عينيه..
أغمض عين في نفسي،وعين ثانية أطبقها وبين أجفانها نص آخر للسياب.ولا أدري عن سبب حضور السياب،غريباً على الخليج؟..:
((بالأمسِ حين مررت بالمقهى
سمعتك يا عراق
..rlm;وكنت دورة أسطوانة rlm;هي دورة الأفلاك
من عمري، تكور لي زمانه
في لحظتين من الزمان
وان تكن فقدت مكانه
هي وجه أمي في الظلام
وصوتها، يتزلقان مع الرؤى حتى أنام..)).
وها هي الكتابةquot;هي وجه أمي في الظلامquot;،وها أنا أغمض عيوني كلها،ما خفي منها وما ظهر،ليرفعني قارئ أمين إلى نور قلبه..شاكياً ما ألمّ بي..وليتها تنفع الشكوى..
ولن استثني في شكواي كلّ من أسهم ألماً،وسأبدأ بي..وعلى طريقة الشاعر ديك الجن،هاجياً نفسه:
أنا لا أسلم من نفسي فمن يسلم مِنّي
ومن أهجوه في أحضان الأم السوداء، إعلامي أعرفه،كان يقرأ بعض الأخبار،فأستَمِعُ له ولا أشاهد صورته..فالخبر يظهر مكتوباً لحين ظهورالمذيع مجدداً على الشاشة..
خبر أول..
خبر ثانٍ..
خبر ثالث....*العراق يبيع اليورانيوم المركّز لشركة كندية
خبر رابع.. *قروض للأرامل والمطلقات وفاقدات الأزواج
وسيسمع ملايين المشاهدين لهذه القناة الفضائية ذات الشعبية،ضحكة المذيع..الضحكة التي ستتدحرج في فمه وهو يواصل قراءة أخبار أخرى..
ولحين ظهوره على الشاشة، ليكون مفاجأة؛ قوله: quot;يبدو إن لدينا هنا من يهمه خبر الأرامل هذاquot;..
سأقف مصعوقاً لأقول ليته سكت،ليته ترك ضحكته الأولى لتفسير المشاهد..فربما سيقول من يسمع تلك الكركرات المستترة،ان مذيعاً عراقياً سمع بخبر حكومي عن الاهتمام بالأرامل،فأضحكه الخبر..لكنه حين علّق بعدها وقال قوله الفاجع ذاك،أشار إلى إن أحدهم أوحى له بما أوحى..فضحك..
وسيبقى في نفسي شيء من سؤال،عمن أوحى إليه،ولم أشار سريعاً إلى إن ضحكته تلك كانت بفعلة فاعل غيره؟..ربما يكون مخرج البرنامج نفسه!..
ما المضحك في الأرملة؟.. سوادها؟!..
ما المضـــحك فـي الأرمــلـة؟.. ســوادها؟!..
ما المضـــــــــحك فــي الأرمــــلة؟.. ســـــوادها؟!..
إذا كان هذا،فسيكون سواد كلماتي الآن مضحكاً أكثر.
لست أبن أرملة لأحزن،لكني أيها القارئ ndash;ولتشفع لي كلماتي هذه وهي تقبل عينيك- أنا أبن حزن كلّ أرامل العراق..
أبن أرض السواد..
هل كانوا يعنون حقاً سواد الظلال لكثرة النخيل فيه؟..فها هي كلمات سعيد بن العاص (والي عثمان على ارض السواد) وهو يقف على مشارف العراق ليصرخ بنشوة: (إنما هذا السواد بستان قريش)..ها هي إلى الآن تتردّد في آفاق هذا البلد.
فأي سواد كان يعنيه القائل؟..هل كان يعني سواد الأرض من كثرة النخل؟..أم سواد الأرض من الكتابة؟..أم سواد الأمهات؟..
سواد الأرامل، وهن يتبرقعن بالعباءة(الكفن الأسود..كما يتألم شاعر عراقي لوصفها)..
وقلت لأقف عند حدود هذا السواد..لأعيد إلى أسماع من أُحب..كلمات راحل سابق من أبناء الأرملة السوداء ذاتها..
وها أنا أقف الآن غريباً في سواد الكلمات..أترجى من يقرأ معي للشاعر معروف الرصافي قصيدته، وهو ينحني عند أقدام quot;الأرملة المرضعةquot;....متشّرفاً بقولها له عن عطفه؛
لَو عَمَّ في النَّاسِ حِسٌّ مِثْل حِسِّكَ لِي *** مَا تَاهَ في فَلَوَاتِ الفَقرِ مَن تَاهَـا
أَو كَانَ في النَّاسِ إِنصافٌ وَمَرحَمَةٌ *** لَم تَشكُ أَرمَلَةٌ ضَنكَاً بِدُنيَاهَـا
قلت لأقف عند حدود هذا السواد..لأقف عند حدود هذا الحزن..لأقف-دون حتى مراجعة لما كتبته أعلاه- وأتذكر في وقوفي قولاً أثيراً لصديق راحل هو المبدع أمير الدراجي،وأنا أعاتبه عن ورد أخطاء في مقالة له،سبق وأن وردت كثيراً، كلماتها،و بشكلها الصحيح، في مقالات سابقة له،فيقول ضاحكاً quot;هذا لا يعنيني كثيراً،ما يعنيني حين أكتب،أن لا أعود إلى كتابتي للتصحيح،لأني ربما لا أمتلك جرأة الكتابة الأولى،ربما سأفقد شجاعتي ولن أنشر ما كتبتquot;.. أتذكره الآن،وأستمد من سواد رحيله تلك الشجاعة في المضي..
وقلت لأقف عند حدود هذا السواد..وأتذكر كلمات الشاعر الصديق الراحل كمال سبتي: quot;الكتابة ملجأي الوحيد للثأرquot;..
وقلت لأقف عند حدود هذا السواد..متذكراً شاعر راحل آخر هو سركون بولص..متحسراً:quot;أين تذهب الكلمات التي لا يسمعها أحد؟quot;.
علي شايع
التعليقات