نحا الإخوان المسلمون، على الدوام، لإيجاد موطئ قدم له، مرة أخرى، على الأرض السورية، لاسيما منذ أن حرّم عليهم ذلك تنظيمياً وفق القانون 49 لعام 1980، وبعد أن كانوا قد خرجوا من المعادلة السياسية السورية إثر مواجهات الثمانينات الشهيرة مع النظام. وهذا الهاجس الإخواني الكبير هو ما يفسر انخراطهم المباشر في الحراك السياسي السوري، إن كان عبر إصدارهم لميثاق مشروعهم الحضاري، أو من خلال انضمامهم لما يسمى بإعلان دمشق المرحوم لوجهه تعالى، أو من ثم تحالفهم الشهير مع النائب المنشق، في وقت خـُيّل فيه لكثيرين أن النظام بدأ يترنح على وقع ضربات القرارات الدولية، وعلى صدى التهديدات السافرة الرعناء التي كان يطلقها نجوم المحافظين الجدد، ولاسيما أن هدير جنازير دبابات هؤلاء، التي ترابط على مبعدة مئات الأميال، كانت تسمع بوضوح عال في دمشق من بغداد.
وأولاً، وقبل كل شيء، وبالقراءة الواقعية البعيدة عن التشنج والانفعالات، تبدو خطوة الإخوان الأخيرة، وبشكل غير مباشر، تثميناً وتقديراً لمواقف وسياسات النظام، عدوهم اللدود حتى وقت قريب، واعترافاً، وتسليماً بدور وريادة في العمل الوطني أحرجت من خلالها الكثير من أوثق حلفائهم، وألغت هذه الخطوة تراثاً وخطاباً كاملاً باغضاً من التشنج وسيلاً من الاتهامات والتجنيات التي أنزل بها، ولم ينزل بها الله من سلطان. فهل سيعني هذا أي شيء للبعض، وهل يحفـّز بعضاً آخراً لإعادة النظر في سلسلة من المواقف المتشنجة أم يستمر في التمادي في سياسة التوريط الممنهج، وحجب الرؤية المتعمد، وأظلمة وإهلاك الذات المبرمج؟
صحيح أن السياسة فن الممكن المفتوح على احتمالات لا متناهية، ولكن، مع هذا، ثمة ضوابط وقوانين ومعايير عملية وواقعية محسوسة وملموسة تحكمها، أكثر مما تحكمها الأخلاقEthics والإيديولوجيات الجامدة الصماء. فمن كان ذا هامة إيديولوجية عالية خيلاء، عليه ألا يقترب من أبواب السياسة على الإطلاق، لإنها تتطلب قدراً من التنازل والانحناء من وقت لآخر. وهذا لا يعني أن السياسيين أناس غير أخلاقيين على الإطلاق، ولكن يجب أن يتحلوا بقدر كاف من الواقعية والبراغماتية التي تنفع في العمل السياسي أكثر مما تفيد الأخلاق والإيديولوجيات. وأكثر الناس فشلاً وانهزاماً وانكساراً في السياسة، تاريخياً، هم أصحاب العقائد، والأخلاقوية الـ Ethics الجامدة المتشنجة الصماء. النظام يشتغل سياسة، والمعارضة quot;تركبهاquot; الإيديولوجيات، وهذا ما يفسر تفوق النظام على الدوام.
وثمة بدهيات بسيطة لا يمكن تجاوزها في عالم السياسة، الذي تحكمه، وتتحكم به المصالح لا القيم أو الأخلاق ولا الأمزجة أو الأهواء والتمنيات والأحلام. ولعل البدهية السياسية القائلة ليس هناك عداوات دائمة ولا صداقات دائمة هي أفضل ما يفسر خطوة الإخوان. فأعداء الأمس هم أصدقاء اليوم، والعكس صحيح، أي أصدقاء الأمس هم أعداء اليوم في فضاء متحول على الدوام لا يكف ولا يكل ولا يمل من تأكيد حقائقه مع الزمان. ولو رجـّح الإخوان، اليوم، بعدهم العقائدي التراثي المدرك، فلن يمدوا يدهم يوماً للنظام العابر لحدود إيديولوجية الإخوان.
وعلى مسافة غير بعيدة، في هذا السياق، هناك خطوة quot;إخوانيةquot; أخرى خطاها باراك أوباما في خطابه الموجه إلى أعداء الأمس الإيرانيين، ولو ظاهرياً، مهنئاً إياهم، بعيد النيروز. إنها البراغماتيات المطلوبة في دنيا السياسة، يجسدها ها هنا الإخوان، وأوباما، بحرفية ومهنية عالية استنفرت دهشة، وأثارت حفيظة العقائديين والمؤدلجين المبرمجين واللا ساسة في غير مكان والذين ثابروا على ممارسة ذات المنهج العصابي الرافض الشكـّاك والقائم على سياسة التذمر والبكاء واللطم الشامل، وعدم الإعجاب والانسجام مع أي شيء لا من جهة النظام، ولا من جهة المعارضة على حد سواء.
وكما أننا لا نرى كبير فرق بين الإخوان، كفصيل معارض، وبين طيف كبير مما يسمى بالمعارضة السورية، وإن اختلفت المسميات، واللغة والمفردات، ولو كان هناك ثمة فرق، أحيانا، فهو، حتماً، بالدرجة وليس بالنوع، فالمنطلقات كانت شبه واحدة، تقريباً، على الدوام، فقد أتى ما يسمى إعلان دمشق ليبرهن على هذه الحال.
فحركة الإخوان الأخيرة هي وفقاً، لاعتبارات مصلحية بحتة، وسياسية محضة، وميلانات وتأرجحات براغماتية ودورانات محكمة مع عجلات القوى التي عاد بها النظام بقوة إلى الساحة إقليمياً، وعالمياً برفع راية التغيير المناقضة كلياً لسياسات بوش، وأثمر كل ذلك رؤية إخوانية جديدة خاصة، وقراءة عقلانية للواقع مختلفة عما مضى، ما حفز خطوتهم التي ربما لن تعطي ذات بال لقراءة الآخرين ورؤيتهم له. وحين تحرك الإخوان ذات زمن، وفي تلك السياقات الإقليمية الضاغطة المعروفة على النظام، كانوا يتحركون وفق معطيات محددة، وقراءة آنية، ووفقاً لذات شروط اللعبة وقوانين السياسة التي يتحركون من خلالها هذه الأيام.
وبغض النظر عن استجابة النظام أم لا، ومدى بطء وسرعة تلك الاستجابة وهذه تبقى لوحدها في إطار التكهنات، وإن كان من غير المحتمل أو المفترض أن تمر هكذا من دون استثمارها بشكل ما، فتبقى السياسة والمصلحة والبراغماتية الواقعية وحدها هي وراء خطوة الإخوان، وهذا ما لا يحاول أن يعيه بعض quot;الإخوانquot;، من غير الإخوان
نضال نعيسة
[email protected]
التعليقات