يا ترى ماذا يفعلون؟ ربما يلملمون أشلاء الموظفين الذين سقطوا من quot;برج المفنشينquot; في دبي؟ أو يكنسون ما تبقى من غبار quot;مدنية الأشباحquot; التي خلت من سكانها؟ أو يجمعون حطام quot;المتروquot; الذي هوى مع أحلام الشباب في المدينة؟ أو يهزون أجذع جزيرة النخلة علها تطرح بلحاً؟ في غالب الظن هم يلملمون جراح أعمدة quot;برج دبيquot; ناطحة السحاب التي سقطت بفعل زلزال الأزمة الاقتصادية العالمية بصفة المدينة مركز الزلزال التواق لوحدة قياس أخرى غير ريختر لرصد شدته وقوة دماره!

في جولة سريعة في السيارة في أرجاء المدينة وضواحيها، وعلى الأقل لو مررت في شارع quot;الشيخ زايدquot; الذي يخترق مدينة دبي ويصلها بالعاصمة أبوظبي لن تفصلك سوى لحظات قليلة بين مشاهدة لوحة تحذيرية وأخرى منتشرة على جانب الطريق تفرض عليك تخفيف السرعة وكأن المدينة بأكملها ورشة مفتوحة تشبه خلية نحل تضيء على مدار الساعة لتنبه السائقين أو تغير اتجاه سيرهم إلى تحويلات فرعية مزعجة ومزدحمة على الدوام.

وأشعر بفضول شديد لمعرفة ما إذا كان لدى بلدية دبي أو هيئة الطرق والمواصلات رقماً تقريبياً يحصي عدد ومواقع انتشار تلك اللوحات واللواحات والعصي المضيئة التي يلوح بها العمال على الطرق المشغولة إما بأعمال الحفر والتوسعة أو البناء والتشييد.
أتسائل يا ترى إن كانوا فعلاً أشباحاً غير موجودين؟ فلم يسبق لي وأن دخلت مدينة أشباح!

هذه المدينة الحالمة؛ جزءٌ من اقتصاد العالم، تتأثر به وتؤثر.... نعم هناك من فقدوا وظائفهم، ولكن ما هي نسبتهم بالنسبة للباقين على رأس عملهم؟ وما نسبتهم إذا ما قورنوا في البلدان الأجنبية التي بدأت فيها الأزمة وما زالت تحصد الملايين؟
نعم هناك مشاريع توقفت أو تأجلت؟ ولكن ماذا عن حجم المشاريع التي أنجزت واستمرت؟ وهل سيفقدها ذلك قدرتها على تحقيق أرباحها كاستثمار طويل الأجل؟

ألا تعتبر الشماتة بدبي شماتة بمن فقد عمله وقوت عياله؟ أليس من الأجدر أن نفكر سوية ببدائل خلاقة تسهم في إخراجه من محنته بدلاً من اللهاث وراء متعة اللوم وتعليق المسؤولية على شماعة دبي؟ أين كنا عندما منحته المدينة من خيرها وقدرت جهده وعلمه؟ أين أصحاب قلم النقد البناء الراغب في تقويم الأوضاع بدلاً من زيادة الأزمة النفسية الناجمة عن التراجع المالي العالمي؟

ألم يتعاضد العالم من أجل تصحيح وتقويم أوضاعه الاقتصادية وإعادة محاسبة ومراجعة مشاريعه وأعماله وطرق إدارتها، أم أن ذلك مقبول للغير ومحرم علينا؟ ألم يخطئ حتى أكبر مستشاري العالم الاقتصاديين وفشلوا في توقع الأزمة؟ لماذا تتحول 10 أو 20 ولنقل مائة سيارة في المطار إلى 3،000 آلاف؟ وفي موقع آخر 11،000 ألفاً!!! لماذا نكرر حديث المقاهي في الصحف ومواقع الإنترنت؟ أم أن البحث عن الإثارة والتشويق يطغى حتى على الأصل في تحري المصداقية؟

في علم إدارة المفاهيم والانطباعات، قيل إن الإشاعة تشبه كرة مطاطية حمراء منفوخة بالهواء على وجه موج هائج، تطفو تارة وتغطس تارة أخرى. ولكن المستغرب في الإشاعات التي أحاطت بالمدينة مع الزحف الطبيعي للأزمة المالية العالمية( ونذّكر هنا أنها الأزمة المالية العالمية وليست أزمة دبي المالية) أن الكرة تتطاير من بلد إلى آخر لتقطع مسافات ومحيطات ماؤها أجنبي غربي، وأحيانا عربي عكر.

أن يكون أجنبيا غربياً ليس بالأمر المستغرب، فهل يعقل أن يملك العرب مدينة عالمية في دولة خليجية وبقيادة عربية مسلمة تحتضن مركزاً مالياً ومعرفياً وإنسانياً أدر الخير على المنطقة والعالم بأسره؟ لا عجب أن يستكثره البعض علينا.

ولكن المستهجن والأشد ظلماً أن يكون ماءاً عربياً معكراً بأفكارٍ سطحيةٍ لا تستند للصحة ولا العقل ولا المنطق. كم يحزّ في النفس أن تشاهد مادة تلفزيونية أو تستمع لمادة إذاعية أو أن تقرأ مقالاً أو رسماً كاريكاتيرياً من شقيق عربي غيور على بلد احتضن وكرم وطور واستثمر في الإعلام والإعلاميين من أجل نهضة المهنة ورفعة دورها ونماء مسيرتها. ألم تزل أبجديات الخبر تحري الدقة والموضوعية لاكتمال عناصره؟

أستعير هنا فكرةً وكلماتٍ أعجبتني لكاتب سعودي معروف قال: quot;دبي لن تسقطquot; مفسراً ذلك بأن المدنية ليست مداً من الترسانة الخراسانية الجميلة فقط، ولا تنتظر الخير من حداثة بنيانها ووسع شوارعها وروعة شطآنها. وإنما هي فكرتها الفريدة كملتقىً للثقافات والحضارات، وأرضاً خصبةً لأحلام الشباب العربي والأجنبي المبدع والراغب بالتعلم والتطور في شتى الميادين.

ونتسائل في موقع آخر، ما الحكمة من تساؤل البعض وتكرار فكرة أن أبوظبي لن تتخلى عن دبي؟ قد يعطي التساؤل شعوراً بأن دبي مدينة في الصين وأبوظبي عاصمة استراليا؟ ألم يكمّلوا بعضهم لأكثر من 37 عاماً على وحدة دولة الإمارات؟

غداً يذوب الثلج، ليفاجئ كل من أساء التقدير بأن ما جاء ضد دبي كان لمصلحتها، فهو ورغم الفوضى واللغط ليس سوى حملة علاقات عامة مكثفة وضعها -وكما أرادها أهلها- في مصاف أرقى مدن العالم وليقولوا لكل مشكك مستعجل:quot; تمهل...! ما زال العمال يشتغلون!quot;.

صـادق جرار
[email protected]