المتابع للشأن العراقي ولما يجري في كواليسه وحلباته السياسية العلنية منها والسرية، سواء بين الأفرقاء العراقيين أنفسهم، أو بينهم وبين البعض من جيرانهم، سيلحظ أن غياب صدام عن عراق اليوم، لا يعني البتة غياب السلوكيات الصدامية، في الحياة السياسية للعراقيين الجدد، سنةً وشيعةً وأكراداً.

ففضلاً عن ابتلاء المجتمع العراقي بالتناقض الكبير بين quot;البداوة والحضارةquot; الذي يؤدي بالتالي، حسب عالم الإجتماع العراقي إلى quot;إزدواج حتمي في الشحصيةquot;، فهو على مستوى السياسة أيضاً، مبتلٌ بالتناقض الكبير بين الديكتاتورية والديمقراطية، وبين صدام وعكوسه.

الهجوم الذي أطلقه النواب العراقيون على الكويت، بعد مناقشة ملف التعويضات في جلسة أمس الإثنين، يشكل نموذجاً لعكس السلوكيات الصدامية، التي يريد أصحابها الإنتقام لصدام(هم) الغائب، من الكويت، بالعراق الحاضر.

الهجوميون على quot;محافظتهم التاسعة عشرةquot;، كما كان يحسبها سلفهم صدام، حمّلوا الكويت استخدام القوات الدولية لأراضيها، إثر دخولها(أو تحريرها) للعراق سنة 2003، كما طالبوا بمحاسبتها على تسليمها مئات المعارضين العراقيين لنظام الديكتاتور السابق صدام حسين، خلال عامي 1980ـ1988، الذين أُعدموا عن بكرة أبيهم، بحسب النائب عزت الشابندر.

جاء هذا quot;الهجوم البرلمانيquot;، كردة فعل على رفض الكويت إغلاق ملف التعويضات، الذي يفرض على العراق تسديد 5% من عائداته النفطية لها. وهو الأمر الذي دفع بالبعض من البرلمانيين العراقيين، إلى الإحتكام لشريعة الجد العراقي الأكبر حمورابي: quot;العين بالعين والسن بالسنquot;، مطالبين وفقاً لسنته، quot;تعويضات بتعويضاتquot;!

فيما يتعلق بتعويض العراقيين عن إعدام من سلمتهم الكويت إلى عراق صدام، لا شك أنها لقضية حقوقية عادلة، يمكن النظر والبحث فيها لإحقاق حقوق هؤلاء الضحايا المغدورين، وليست الكويت هي المتورطة الوحيدة في هذا المقام، وإنما هناك دول عربية أخرى شاركتها، وكان لها اليد الطولى في عقد صفقات من هذا القبيل مع نظام صدام.

أما قضية مطالبة البرلمانيين العراقيين الهجوميين الكويت بدفع تعويضات عن quot;الغزوquot;، الذي قامت به القوات الدولية إنطلاقاً من أراضيها، فهي ليست إلا عبارة عن عملية quot;خلط أوراقquot;، ولعبة سياسية مكشوفة لضرب quot;تعويضات هي حقquot; بquot;تعويضات ما هي إلا حق يراد بها باطلquot;.

حسناً فعلت الدول الأوروبية ودول النادي الباريسي، التي أسقطت ديون العراق، كبادرة حسن نية، مراعاةً لمأساة شعوبه التي تعيشها وترزح تحت وطأتها، منذ أكثر من حوالي أربعة عقودٍ عجاف، وحبذا لو احتذت الكويت حذو هذه الدول، بمحض إرادتها. ولكن سواء أن فعلت الكويت أو لم تفعل، فحقها في التعويضات، يبقى حقاً تستحقه، وفقاً للقوانين والأعراف الدولية المتعارف عليها في النادي الأممي.

من الحري بهؤلاء، قبل أن يحاسبوا الكويت على سماحها للقوات الدولية بإستخدام أراضيها لدخول عراقهم، أن يحاسبوا أنفسهم والقائمين على فوق حكومتهم في بغداد، الذين دخلوها على ظهر الدبابات الأمريكية والبريطانية.
فقبل محاسبة الكويت والكويتيين، عليهم أن يحاسبوا برلمانهم الذي يجلسون على كراسيه الوثيرة، وأن يستجوبوا حكومتهم ورئاستهم الثلاث، التي ما كان لها ولكل مؤسسات عراق اليوم، أن تكون، دون مشيئة أمريكا وحلفائها المدبرين المخططين والمنفذين لذاك الغزو.

وإذا كان هناك من بعض حقٍ للعراقيين على الكويت بدفع تعويضاتٍ عن quot;فتحquot; أمريكا للعراق ومساعدتهم للقوات الدولية، عبر السماح لها بإستخدام أراضيها، فإنّ أول من يجب عليهم دفع هذه التعويضات، هو فوق العراق الجديد، وعراقيوه من الحكام الجدد(بمن فيهم هؤلاء المقيمين في نعمة البرلمان)، الداخلين مع فاتحيهم الأمريكيين، في اتفاقيات أمنية استراتيجية طويلة الأمد، وافق عليها البرلمان العراقي بأغلبية ساحقة وquot;نعمquot; كبيرة.

فكيف بهؤلاء محاسبة الكويت على غزوٍ استخدِمت فيه أراضيها، ليس هؤلاء إلا نتيجة من نتائجه، وبالتالي مشتقاً من مشتقاته؟
عليه، فلولا أمريكا السبب، والكويت الوسيلة(مع دول أخرى مجاورة)، لما كان عراق اليوم المحرّر من قبضة صدام، برلماناً وحكومةً ومؤسسات، الذي هو في المنتهى، النتيجة الطبيعية والمحصلة النهائية لذاك quot;الغزو الصديقquot;.

صحيح ليس للشعب العراقي أي ذنب فيما اقترفه صدام من جرائم بحق شعوب العراق والشعوب الأخرى الجارة، ولكن القانون الدولي في هذا الشأن، كما يشهد تاريخ بعض الدول التي اقترفت جرائم إبادة ضد الإنساينة بحق دول وشعوب أخرى، لا يفصل بين الشعوب وحكوماتها.

وأسطع وأكبر مثال على ذلك، في التاريخ الحديث للدول، هو مثال ألمانيا ما بعد النازية التي لا تزال تدفع فواتير وضرائب جرائم هتلر وحروبه، التي اهلك بها شعبه الذي لم يكن له حول ولا قوة، في كل ما صنعته آلة الحرب والجريمة الهتلرية.
فبعد سقوط المانيا الهتلرية، لم تتم محاكمة مرتكبي الجرائم النازيين الذين عاشوا بعد الحرب في محاكم نورنبرغ التاريخة المشهورة سنة 1947 فحسب، وإنما ساهمت هذه المحاكم أيضاً في خلق الأرضية الحقوقية والتمهيد لصك الكثير من المعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان كالإعلان العالمي لحقوق الإنسان، ومعاهدة مناهضة الإبادة الجماعية، وإنشاء المحاكم الجنائية الدولية. هذا فضلاً عن وضع ألمانيا لما يعرف بquot;قوانين تعويض ضحايا الإضطهاد النازيquot; المعروفة سنة 1953، والتي تلزم ألمانيا ما بعد هتلر بموجبها، دفع تعويضات لإسرائيل والجماعات اليهودية الأخرى الممثلة لحقوق ضحايا الهولوكست، من جيوب الشعب الألماني، الذي لم يجنِ سوى الخراب والقتل والدمار، من حروب هتلر وسياساته الجنونية.

لكن الغريب في أمر هؤلاء البرلمانيين المحتذين الجدد حذو quot;شريعة صدامquot;، هو أنهم بدلاً من الإعتذار للكويتيين وفتح صفحة جديدة في علاقات حسن الجوار بين الدولتين والشعبين الجارين، وحل مشكلاتهم مع الكويت بالطرق الديبلوماسية والحوار الهادئ، بعيداً عن عقدة quot;الأخ الكبيرquot;، هو ركوبهم على رأسهم، لضرب العراق بجيرانه، في محاولةٍ مكشوفةٍ منهم للعودة إلى ذات الإسطوانة المشروخة التي كان يرددها صدام، عندما كان يتحدث عن الكويت، بإعتبارها quot;محافظةً عراقيةquot;، وجزءاً لا يتجزأ من quot;عراقه العظيمquot;!

ما جاء على لسان النائب العراقي جابر حبيب جابر، الذي وصف موقف الكويت بquot;السلبيquot; من التغير الذي حصل في العراق بعد 2003، يؤكد النية المبيتة لدى البعض غير القليل من أقطاب العراق الجديد، إزاء الكويت التي quot;يجب أن يعاد النظر في حدودها مع العراقquot;، حسب هؤلاء.

إن إثارة البعض لإعادة فتح ملفات الحدود مع الكويت مجدداً، من جانب بعض البرلمانيين العراقيين مؤخراً، يعكس بصورة غير مباشرة تمسك هؤلاء بquot;الحق التاريخيquot; للعراق في الكويت، وهو الأمر الذي يعني تهديداً مباشراً للكويت، إذا لم تنصاع حكومتها لمطالب البرلمانيين العراقيين، المؤخرة بإسقاطها لحقها في دفع تعويضات الغزو.

والجدير ذكره، ههنا، هو أن قائمة الحدباء برئاسة محافظ الموصل الجديد أثيل النجيفي، كانت قد استخدمت في الإنتخابات المحلية التي جرت مؤخراً، وذلك في سياق الوجبة الأولى من دعايتها الإنتخابية، ملصقات ظهرت فيها الكويت جزءاً من خارطة العراق، ما أدى إلى إثارة حفيظة الكويتيين، وبالتالي تقديم النجيفي لإعتذار رسمي إلى السفير الكويتي في بغداد، على هذا quot;الخطأ المطبعيquot; الحاصل، على حد قوله.

صدام الديكتاتور مات، ولكن سلوكه على طول العراق وعرضه، كما يظهر من سياسات العراقيين الجدد الأكثر من مزدوجة، لا يزال حياً يرزق!
صدام غاب..لكن عراق الديكتاتور لا يزال يحضر!
فهل صدق من قال: أنّ لا حياة للعراق من دون صدامٍ يحكمه؟


هوشنك بروكا


[email protected]