هو الوصف الأكثر دقة لما يمكن أن يوصف به ما آل إليه مصير الشعب الكوردي وقضيته العادلة في عراق ما بعد سقوط الصنم الدكتاتوري صدام، وما أوصلته إليه القيادة السياسية الكردية الحالية التي أصبحت عاجزة كليا عن قيادة نضال هذا الشعب والاضطلاع بمهام تأمين مستقبل واعد وحياة آمنة ومستقرة ومزدهرة لهذا الشعب الأبي في هذه المرحلة الحساسة من تاريخه النضالي قياسا وبما يتوازى مع عظم تضحياته وكبر المآسي التي مرّ بها في تأريخه المعاصر تحديدا،رغم ان هذا الشعب قد وضع كل ثقته وآماله وتطلعاته على عاتقها ووضع جلّ امكانياته بل وحتى دماء خيرة أبناءه رهن إشارتها، ولكن دون جدوى...،إذا ما أخذنا بنظر الاعتبار وضع الشعب الكوردي ومسلسل المظالم التي تعرض لها ولا يزال في جنوبي كوردستان حصرا (كون ما يعاني منه شعبنا في باقي أجزاء كوردستان أكثر إيلاما وقسوة)، نجد أن كل ما سجل في أبجديات الظلم والقهر والاضطهاد التي مرت على شعوب العالم قاطبة لهي مسجلة ومكررة في صفحات تاريخ شعبنا وبصورة مضاعفة.
شعب مظلوم
الظلم الأول:
الذي جاءنا من إفرازات التاريخ الحديث وصراعاته الدولية ومعاهداته الجائرة والتي كان حصة شعبنا فيها الإجحاف والنكران والتقسيم، معاهدات سايكس بيكو وغيرها تلكم الخرائط والحدود المبتدعة والمشؤومة التي تمخضت عنها التي تم بموجبها تفتيت ارض وشعب، بل تاريخ و جغرافية كوردستان وتوزيعها بين أربعة دول مصطنعة وتركها عرضة لمخالبهم ومآربهم الشريرة،وقد أدى هذا الفعل الشنيع والمستديم إلى يومنا هذا إلى حرمان هذا الشعب المناضل من دولته القومية ووحدة أراضيه أسوة بكل شعوب المنطقة والعالم (عدا استثناءات قليلة، وحصرا ما يعانيه الشعب الأمازيغي الصديق من نفس الداء المماثل )، وكان هذا الفعل الاستعماري العدائي تجاه شعبنا وآماله وتطلعاته المشروعة والعادلة، موطن ومبعث كل المصائب التي ابتلى بها شعبنا بعدئذ، والذي جذّر المشكلة وجعلتها تتفاقم يوما بعد يوم، إن الدول التي تم توزيع شعب وارض كوردستان عليها تعتبر من اشّد الدول عنصرية وتخلفا، ولسلطاتها الحاكمة تاريخ طويل في قهر واستلاب الشعوب والأمم المجاورة، تحت مسميات الدين أو القومية أو المذهب( عربا وفرسا وتركا).
الظلم الثاني:
وهذا شمل ذلك الجزء من الشعب الكوردي الذي يعيش في جنوبي كوردستان تحديدا،و بدأ مع تأسيس الدولة العراقية الحديثة واكتشاف النفط اللعين في منطقة بابا كوركور في كركوك... ومعه ابتدأت جحافل الغزو العربي من الوسط والجنوب بالتوجه صوب كركوك تحت يافطة التوظيف أو إعادة توطين البدو، في عملية استيطانية أشبه بالمستعمرات الصهيونية في فلسطين و الاستيطان الفرنسي والايطالي في الجزائر وليبيا،حيث تم توظيف المئات والآلاف من العمال من وسط العراق حصرا في شركة نفط العراق،ومعها بدأ أيضا الاستيطان العشائري لعرب العبيد والجبور في مشروع ري الملحة(الحويجة لاحقا) وتم توزيع الأراضي الزراعية عليهم بسخاء، و التي تم بعدئذ استصلاحها وتوفير احدث قنوات الري لها وفق ما يسمى في هندسة الري(نظام كاليفورنيا)، تلك الاراضي التي كانت قبلها ملكا صرفا للكورد(تابعة للأغوات من الكورد من أمثال المرحوم احمد خانقاه )، وبالمقابل تم ترحيل ساكني القرى الكوردية تحت تهديد السلاح من هذه القرى ودفعها باتجاه منطقة قراج في سهل اربيل وذلك في الثلاثينات من القرن الماضي وبالتحديد اثناء تولي ياسين الهاشمي لرئاسة الوزارة العراقية والمعروف عنه توجهاته القومية وتنسيقه وتشاوره حتى مع الساسة الاتراك في مضمار تعريب هذه المناطق وتقليل التواجد الكوردي فيها...... ولاحقا تحت حكم البعث الفاشي(الأول والثاني) بدأ ت عملية التعريب تأخذ منحى واسعا ومنظما شمل مئات الآلاف ممن درج على تسميتهم (بعرب العشرة آلاف) تغزو كركوك وضواحيها،مستغلة الامتيازات الخيالية التي وفرتها لهم الحكم الفاشي ألبعثي من قطع أراضي أو بيوت أو منح مالية كبيرة ووظائف جاهزة،وبالمقابل تم ترحيل الكورد من المدينة وضواحيها بأسلوب إرهابي همجي وتحت جنح الظلام، وبحجج واهية لا تستند إلى أي عُرف أو قانون سوى عٌرف الغاب وسلطة القوي على الضعيف، إضافة إلى المخطط الجهنمي في تفتيت كيان المحافظة وسلخها من كل الأقضية والنواحي الكوردية التي كانت تتبعها، والإبقاء على القضاء (العربي) الوحيد (الحويجة)،في عملية شيطانية ماكرة للقضاء على الوجود الكوردي في المحافظة وتقليلها إلى ابعد حد ّ ممكن.
الظلم الثالث:
تهجير مئات الآلاف من الكورد الفيليين بأسلوب نازي قاسي، والحجز على كل ممتلكاتهم وتجريدهم من وثائقهم الثبوتية وقذفهم إلى خارج الحدود عبر حقول الألغام وحجز الآلاف من شبابهم وسوقهم إلى مخابر التجارب الكيمائية وحقول الألغام في جبهات القتال، ولا تزال الأغلبية من كوردنا الفيلية إما مشردين في المنافي أو مهجرين في معسكرات اللاجئين البائسة في إيران، ومن حاول منهم العودة إلى العراق لم يستطع لحد اللحظة من إعادة أي جزء من ممتلكاته او حتى وظيفته وحقوقه المدنية، ولا تزال كل القوانين الجائرة منذ عهد صدام سارية المفعول بحقهم في عراق ما بعد صدام، وفي دولة رئيس وزراءه من نفس الطائفة الشيعية والمذهب الذي يدين به كوردنا الفيلية!!!!
الظلم الرابع
حينما تم إلحاق ولاية الموصل بالعراق عام 1925 فيما عرف في وثائق عصبة الأمم بمسألة الموصل كانت هناك توصية واضحة بمنح شعب كوردستان المزيد من حقوقه الإدارية والثقافية،وقد تنصلت الحكومات العراقية (العربية السّنية) الواحدة تلو الآخر من هذه الحقوق رغم الثورات المتكررة لشعب كوردستان إبان عهد الانتداب البريطاني والحكمين الملكي والجمهوري، وبقيت عقلية الاستحواذ و الهيمنة والتسلط القومي على حالها رغم تبدل الوجوه والازمنة والظروف، وقد اختار شعب كوردستان (بعد انتفاضة عام 1991 ) النظام الفيدرالي ضمن العراق في قرار شعبي عارم عام 1992،وقد تم تثبيت هذا الحق في الدستور العراقي، ولكن لحد اللحظة لا توجد آلية واقعية في تفعيل الفيدرالية وتثبيت حدودها وصلاحياتها وعلاقاتها الواضحة مع المركز، بل وتخلو خطابات كل السياسيين( من غير الكورد) حتى من لفظة الفيدرالية وتعالت في الفترة الأخيرة أصوات من داخل الحكومة والبرلمان بإعادة النظر في الفيدرالية تمهيدا لإلغائها نهائيا (بعد أن تثبت أركان الدولة العراقية وتتقوى أكثر فأكثر)،والاكتفاء بتشريع مماثل ( للحكم الذاتي) الذي وافق عليه صدام في سبعينيات القرن الماضي كحد أعلى.
الظلم الخامس
لم يتعرض أي شعب في التاريخ المعاصر إلى القصف الكيماوي من قبل الدولة التي يعيش ضمنها غير الشعب الكوردي، فمأساة حلبجة تعتبر بحق اكبر تراجيديا إنسانية بعد القنبلة الذرية على هيروشيما،أن يٌقتل أكثر من خمسة آلاف إنسان برئ بهذا الأسلوب الوحشي، ويتم بعدئذ حتى التشكيك في مصداقية هذه الابادة الجماعية والتنكر لها (بالضبط كما يحلو للبعض التنكر للمحرقة اليهودية بدوافع عنصرية) إنما هي ممارسة لا تليق إلا بالشعوب المتوحشة والحكام الظالمين في التاريخ، والدولة العراقية بدلا من أن تعتذر للشعب الكوردي مما اقترفته نظام صدام بحق هذا الشعب ليكون ذلك عبرة للآخرين وتقوم بتعويض أهالي الضحايا و الباقيين على قيد الحياة منهم، نرى اليوم أصواتا نشاز ومن داخل البرلمان العراقي المنتخب، وهي بالتأكيد لا تفرق كثيرا عن أصوات وأفكار مرتكبي مجزرة حلبجة الأصليين يشككون في هذه المجزرة وذهب بعض الساقطين منهم إلى اعتبار أنها كانت فبركة إعلامية وان الأطفال المخنوقين بالغاز السام ما هم إلا دمى!!!!
الظلم السادس:
مأساة الأنفال،إذا كان هناك جريمة فاحشة وظلم بالغ قد ارتكب بحق أي شعب (عدا الشعب اليهودي على أيدي النازية الألمانية)، فهو جريمة الأنفال، تلك الجريمة التي حفرت جرحا في قلب ووجدان كل كردي لا يمكن ان يندمل ابد الدهر،والجريمة سواء بحجمها (182 ألفا من الضحايا الأبرياء) أو بأسلوب ارتكابها (التخلص من الضحايا بدفنهم أحياءا في صحارى الجنوب العراقي)، لهي اكبر لطخة عار في جباه كل من يعادي الكورد بل حتى من سكت او تغافل عنها ولا يزال يعمل من اجل حجب الحرية والحقوق المشروعة من الشعب الكوردي، وهي كذلك تستحق ان تعتبر عملية ابادة جماعية بحق شعب آمن وعلى الدولة العراقية ان تعوض ضحاياها كما تقتضيه القوانين الدولية السارية.
قيادة عاجزة
لا شك إن القيادة التي لا تستطيع أن تحقق أهداف شعبها الإستراتيجية ولا تستطيع أن تقدم الخدمات الضرورية والبسيطة لأبناء شعبها لهي فعلا قيادة عاجزة وعجوزة ومترهلة وهي فاشلة بكل المقاييس وتتجلى عوامل فشلها :
اولا : الفشل في توحيد الصف الكوردي
بعد كل المظالم التي سردتها آنفا وسلسلة المآسي التي مرت على شعبنا الكوردي، كان يفترض على القيادة السياسية الكوردية ان تتوحد في مواجهة التحديات الجمّة التي تواجه شعبهما وخاصة بعد بروز ظرف جديد لم يكن احد يحلم بها ألا وهو نية أمريكا و إصرارها على إسقاط نظام صدام الدموي،كان عليها أن تضع كل خلافاتها جانبا وتتوجه صوب الظرف الجديد تخطيطا وبرنامجا وتنفيذا، ولاسيما إن ما حدث في العراق كانت فرصة لن تكررها التاريخ مرة ثانية، وكانت كل البشائر تشير إلى ضعف وانتهاء سيطرة أعداء الكورد من النظام السابق وأعوانه واستجد ظهور لاعب جديد في المعادلة العراقية واعني به الولايات المتحدة الأمريكية وهي دولة عظمى و معروفة بعدائها المستحكم ضد اثنين من الأنظمة المحتلة لكوردستان وطالما وصفتهما بمحاور الشيطان(إيران وسوريا ) وبدأت تخطط فعليا بإسقاط النظام الثالث(العراق)، إضافة إلى عقوق وامتناع المحتل الرابع (تركيا) في إبداء المساعدة للقوات الأمريكية على فتح الجبهة الشمالية وإجبارها بسحب قواتها منها والتوجه إلى الجبهة الجنوبية حصرا رغم إرباك خططها وتحملها للمخاطر الناجمة عن ذلك، رغم كل هذه المعطيات فقد تورط الحزبان الكورديان في حرب اقتتال داخلية ظروس اودى بحياة الالاف من خيرة شباب الكورد اضافة الى جرح وتعويق اعداد اكثر وتشريد وتهجير اعداد مضاعفة،وكانت نتيجة ذلك التنافس المحموم والتي اتضح بانه كان بسبب الحصول على مكاسب مالية اكثر من كونها تنافسا عقائديا او مبدئيا، الامر الذي جعل شعبنا يدفع اثمانها باهظة وفق كل المقاييس، ليس فقط من جانبه البشري والمعنوي بل ان صورة الكورد كشعب يسعى لنيل حريته واستعادة كرامته المهدورة قد تشوه الى حد بعيد وفسح المجال الرحب لمختلف الاطراف الكوردية والعراقية والاقليمية ان تتلقى دعوات سخية من هذا الطرف او الاخر للدخول في حلبة الصراع الكوردي الكوردي ممكا شكل قسم من هذه التدخلات وصمة عار في تاريخ الكورد لا يمكن ان يمحى من الذاكرة بسهولة، وان تطبع الوضع الكوردي بآثارها السلبية الى يومنا هذا (تدخل قوات صدام في احتلال اربيل،دعوة قوات الايرانية لتصفية المعارضة الايرانية الكوردية، اعطاء دور مميز لتركيا وللجبهة التركمانية المعروفة الولاء لتكون لها موطئ قدم في كوردستان تحت يافطة( قوات كي فور)، اعطاء دور مميز لخونة الشعب الكوردي من رؤساء الحجوش المعروفين بالانظمام الى هذا الطرف او ذاك )، وحتى بعد عملية المصالحة التي اجبرت فيها القيادة الامريكية الطرفين على قبول التفاوض وانهاء الخلاف فانهما قد فشلتا والى عهد قريب الى توحيد الادارتين والحكومتين في تشكيلة واحدة ولم يتفقا مبدئيا الى على كيفية تقاسم الموارد المالية الضخمة التي انهالت على الاقليم باسلوب توافقي بعيد عن اية شفافية واصبحت تصب بالدرجة الاساس في مصلحة القيادات المتنفذة من الحزبين بشكل مشاريع استهلاكية استعراضية بعيدة عن روح التنمية الحقيقية التي كوردستان بامس الحاجة لها اضافة الى تقليد سمج لبعض مظاهر الثراء الذي يعم دول الخليج تحت يافطة (كوردستان دبي ثانية ) !!!
الجزء القادم: الفشل في تحقيق شعار كركوك قدس وقلب كوردستان
صفوت جلال جباري
التعليقات