أولاً أعيد نفس الفقرة التي كتبتها في مقدمة مقالي الأول:
rsquo;rsquo;ليس هناك شيء أصعب من أن تكتب عن الأقربين وإنه عمل شاق لا يتصوره العقل.فقد يظن البعض أنه نوع من من النفخ في الذات وعبادة quot;الأناquot; المرضية والبشعة والممجوجة. إلا أنني أضطررت لذلك نظراً لما يجري من التجني على التاريخ وشخوصه. وترددت كثيراً وتساءلت هل أترك ذلك للمستقبل وأنا تجاوزت الستبن من العمر؟ أرجو حلمكم.
في المقال السابق تطرقت الى الأوضاع التي كانت سائدة عند تشكل الدولة السورية وبشكل خاص منطقة الجزيرة. حدود الدولة السورية الحالية أخذت شكلها النهائي في عام 1933 [الوثائق الفرنسية ــ د.خالد عيسى ].وكنت قد ذكرت أن حاجو كان يطمح الى تشكيل دولة كردية مستقلة.
هذه فقرة من كتاب الشاعرالكردي جكرخوين النسخة العربية ص 263 {إصطحبني حاجو آغا الى الكابتن [الفرنسي في الحسكة]وقال له: لأن فرنسا دخلت الحرب، نحن أيضاً نريد أن نقدم عشرة آلاف مقاتل، فقط عليكم تقديم السلاح والضباط لنا. دوٌن الكابتن ما قاله الآغا له، وردّ قائلاً: أشكركم سأرسل طلبكم الى القيادةالفرنسية.}
بعدها يطلب حاجو من الشاعرالكبيرنقل نفس الرسالة الى كابتن القامشلي شخصياً حيث كان الرد{لو وافقت فرنسا على تسليح عشرة آلاف كردي غير مدرب، فستكتسب بذلك عداء الجنود[جيوش] الاتراك والايرانيين والعراقيين والسوريين. لا....مصلحة فرنسا فوق كل إعتبار.........عدت مرة أخرى الى الآغا وسردت له كل ما جرى معي.عض حاجو على شفتيه وقطب حاجبيه قائلاً:.....والله إنه الوحيد الذي يقول الحقيقة. وتنهد وأردف....ماذا سنفعل يا جكرخوين؟}.
الكرد لم يكتفوا بمحاولة كسب الفرنسيين فقط الى جانبهم، بل حاولوا ذلك مع الإنكليزعندما تطلبت الظروف المستجدة ذلك. لنتصفح ما كتبه الشاعر في نفس الكتاب النسخة العربية ص 294 {دخل الجيش الإنكليزي الجزيرة عن طريق الموصل. في تلك الفترة جاء قدري بك جميل باشا الى القامشلي وقال: يجب أن يذهب وفد كردي لإستقبال قائد القوات الإنكليزية ليخبروه بمطاليب الأكراد. تشكل وفد بقيادة جميل حاجو آغا كنتُ ضمنه. إلتقينا الجنرال في منطقة تل علو....الخ}.الجنرال قال مامعناه، أنه عسكري وينفذ أوامر السياسيين وأبدى سروره باللقاء، ولكن دون نتيجة.
وهكذا لم يترك حاجو وأنجاله{ ومعهم المتنورين من الكرد، وكان للشاعر الكبير جكرخوين مكانة خاصة لدى حاجو} باباً إلا وطرقوه في سبيل الحصول على كيان كردي مستقل. ولكن مصالح وظروف الآخرين كانت دوماً جداراً في وجه مطامح الكرد، ورأينا كيف أن الفرنسيين رجحوا تفادي عداوة جيوش العرب والفرس والاتراك quot;جيوش مجهزة و مدربةquot; على مساعدة ودعم الكرد لهم بعشرة آلاف مقاتل quot;غير مجهزين وغير مدربينquot;.
في تلك المرحلة كان هناك صراع على النفوذ بين الكرد والعرب في الجزيرة.الكرد بقيادة حاجو و العرب بقيادة المرحوم الشيخ دهام الهادي زعيم عشيرة الشمر[كتاب الشاعر جكرخون ــ حياتي ــ النسخة الكردية ص 242 ].في نفس الوقت كانت هناك عشائرعربية ك (الجوالة) متحالفة مع حاجو، وفي المقابل عشائر كردية متحالفة مع الشيخ دهام الهادي.الشيخ دهام يدافع عن القومية العربية، وحاجو آغا يدافع عن القومية الكردية بشكل صريح وعلى الملأ جهاراً نهاراً.كل واحد منهم يعمل لقوميته وشعبه. لقد كان صراعاً شريفاً نزيهاً ومكشوفاً لا دسائس ولا مؤامرات خسيسة. كان صراع رجال مخلصين لشعوبهم تحكمه الأخلاق النبيلة السامية حتى وإن سالت الدماء أحياناً، هذا معروف لجميع من عاصر تلك الفترة. وفي هذا السياق أود أن أذّكر بالموقف الوطني الشريف للشيخ حميدي دهام الهادي إزاء أخوته الكرد وتأثيره الكبير على السلم الأهلي في السنوات الأخيرة في الجزيرة وإفشال الدسائس المبيتة لخلق فتنة عنصرية..
مع إندلاع الحرب العالمية الثانية وإبتلاء القارة الأوربية بكوارث الحرب بدأت الأوضاع تتبدل وتبين أن الطموح الكردي بدولة مستقلة صار مستحيلاً وكذلك تحقيق الحلم العربي بإنشاء دولة عربية واحدة أصبح سراباً بسبب مصالح الأجنبي الآنية في ظروف الحرب. إقتنع العرب والكرد أن جغرافية جديدة صارت تجمعهم جنباً الى جنب وأن عليهم إيجاد صيغة للعيش المشترك، وهكذا توجه الجميع عرباً وكرداً وسرياناً وعلويين وموحدين وبقية الأطياف السوربة الأخرى الى الإنضواء تحت مبدأ quot;الوطنية السوريةquot; كمبدأ أساسي للعيش المشترك داخل الوطن السوري الواحد والإتفاق على نظام ديمقراطي برلماني حر يشارك فيه كل السوريين..
ومنذ أن إتخذ الكرد مبدأ quot;الوطنبة السوريةquot; عملوا بإخلاص لهذا الوطن. بعد وفاة حاجو 1940 إستلم نجله حسن حاجو مكانه في الزعامة وحسب ما يقوله الشاعر الكبير جكرخون في كتابه(حياتي) النسخة الكردية ما معناه{لم يجتمع الكرد السوريون ــ وليس كرد الجزيرة فقط ــ ويوحدوا كلمتهم في تاريخهم كله كما حصل تحت زعامة حسن حاجو في ذلك الوقت}، وهذا الزخم هو الذي فسح المجال أمامه ليلعب دوره الوطني المؤثر بإسم الكرد السوريين. كان الراحل حسن حاجو قومياً كردياً ووطنياً سورياً في آن معاً، وكان من رموز حزب الكتلة الوطنية ومن أقرب المقربين الى الرئيس القوتلي، وفي النسخة العربية ص 293 لنفس الكتاب نقرأ ما يلي {كان شكري بيك يثق كثيراً بكبار الكرد، حيث حسن حاجو اليد اليمنى لرئيس الجمهورية وعضو في البرلمان}.
الدستور والنظام الديمقراطي البرلماني كانا الضمان لمشاركة جميع مكونات الشعب السوري تحت قبة البرلمان و كان الأساس في إتفاق جميع الأطياف على العيش تحت سماء هذه الدولة الفتية، وهذا ما حدث بالفعل حتى مجيء الإنقلابيين ومن بعدهم العنصريين بناة الدولة المخابراتية وأعداء الديمقراطية ويسمونها quot;سورية الحديثةquot;..
تزوير حقائق التاريخ تضر بقضايانا وتدفعنا الى الإنفصام والإزدواجية في شخصياتنا بعكس الرعيل الاول الذي كان صادقاً مع نفسه ومع الخصم وفي أحلك الظروف. وضع التاريخ بحقيقته بين أيدي الأجيال الجديدة يجعل التفاهم والتواصل بينهم أسهل وعلى اسس أشد متانة. حقيقة واحدة أهم من ألف عبارة عاطفية مليئة بالتملق والرياء..
وحتى الآن لا زال الطموح بدولة كردية مستقلة حلم كل فرد كردي. والشعب الكردي شأنه شأن أي شعب آخر له كل الحق في كيان مستقل، ولكن الطموح شيء والواقع شيء آخر..
هذه الدولة التي ساهمنا في بنائها جميعاً تتعرض اليوم الى الإنهيار على يد النظام الحاكم. حاول النظام إشعال الفتنة بين الكرد والعرب بعد حوادث القامشلي( 12 آذار 2004)، إلا أن السكان الأصليين من عرب الجزيرة ــ أكرر السكان الأصليين من عرب الجزيرة الشرفاءـ وبالرغم من وجود قلة قليلة شاذة، فقد رفضوا رفع السلاح في وجه إخوتهم الكرد ليردوا الخائبين على أعقابهم..
لنحمي ما بناه الأجداد في هذه الجغرافية التي تجمعنا ونطور الآليات والأسس التي ترسخ العيش المشترك وخاصة إعطاء الكرد حقوقهم القومية المشروعة كثاني قومية في الوطن السوري..
نعم عمل حاجو لتحقيق حلمه وحلم الكرد بدولة مستقلة عندما لم يكن هناك وجود لدولة سورية، ولم يكن يرى الفرنسيين كإستعمار في حينه. هذه هي الحقيقة المجردة.
الأوطان تأسست ليس لتكون أصناماً نعبدها، ولكنها تشكلت ليكون الفرد فيها عزيزاً كريماً ومرفوع الرأس على أرضه.
وهنا لا بد لي إلا أن أعيد مرة أخرى ما كتبته في الجزء الأول: لا يمكن لأي كان ولا في أي زمان أن يقيّم الماضي ويحكم عليه بمقاييس وقواعد الحاضر وإذا كذبنا على أنفسنا وعلى الآخرين اليوم، فإن الوثائق ستفضحنا غداً....
بنكي حاجو
طبيب كردي سوري
Bengi [email protected]
التعليقات