في أول أسبوع مر على غزو الديكتاتور للكويت عام 1990 جلس (عراقي معارض لصدام) و(سياسي سعودي) و(كاتبة كويتية) يتناقشون في دوافع الغزو وأسبابه الحقيقية.

كان السعودي يميل الى التهدئة والوسطية، ولكن بمرارة المواطن العربي المسلم العاقل الذي يدرك أن القيادة الكويتية كانت قد انزلقت الى مواقف سياسية واقتصادية وعسكرية واستخباراتية (استفزازية) لا ضد صدام كحاكم، بل ضد العراق كوطن، ولكنه لا يريد أن يجرح مشاعر أشقائه الكويتيين، فوصفها بأنها (احترازية).

في حين وصفها العراقي بأنها انتقامية ضد الشعب العراقي كله، وليس على نظام الديكتاتور وحده. ومازح الكاتبة الكويتية قائلا: إن صدام فعلها بحمق وغوغائية ودون تهيئة الظروف الدولية والإقليمية لإنجاحها، لكن المعارضة العراقية، حين تتسلم السلطة، ستفعلها بطريقة أضبط وأصح، وأكثر حنكة وواقعية.

ورغم ما في هذه المزحة السمجة من مرارة وعنجهية فإن فيها أيضا ما يستحق الوقوف عنده، والبحث في واقعيته، واحتمال حدوثه. ربما ليس في المدى المنظور، ولكن في زمن قادم بعد أن تنضج فيه القدرة على الحدوث.

فاليوم، وبعد ما يقرب من عقدين من الزمن على أحقاد غزو الكويت، وسبع سنوات من رحيل زارعها الديكتاتور، تتجدد المهزلة وتهدد بزراعة أحقاد جديدة تمهد لمصائب جديدة آتية لا ريب فيها، إذا لم يغير الطرفان، الكويتي والعراقي معا، عقليتهما وأسلوب الحوار بينهما. والأسباب كثيرة، منها:

أولا: ما زال بعض العراقيين يؤمنون بأن الكويت جزء تاريخي من عراقهم، وقد انتزع بالقوة. ورغم أن هذا منطق مرفوض ومستهجن، إلا أنه موجود مع الأسف الشديد. فكيف يتمسك العراقيون بهذه العقلية المتخلفة في عالم جديد يقوم على لغة المصالح المتبادلة بين الأعداء والخصوم، ناهيك عن أشقاء؟. خصوصا وأن كثيرين من الكويتيين متحدرون من أصول عراقية، وأن أسرا عديدة في البلدين متشابكة بعلاقات مصاهرة ومقاربة لا مجال إلى الفكاك منه أو تجاهلها.

وثانيا: تراكمت الأحقاد العراقية على الكويتيين في سنوات الحصار التي أوجعت المواطن البريء في العراق، ولم توجع النظام إلا قليلا. ولو بقي الأمر مقتصرا على العقوبات الاقتصادية الأمريكية والعربية، ومنها التعويضات والديون المتراكمة على نظام صدام حسين، لتوارث أحفاد الديكتاتور السلطة جيلا بعد جيل. وهذا ما يقنع كثيرين من العراقيين بأن المقصود هو معاقبة جماعية للشعب العراقي تستهدف تمزيقه وإضعافه وإبقاءه في عوز دائم وتحت وصاية خارجية، أمريكية وإيرانية، على وجه التخصيص. ويذكر هؤلاء بإغداق الحكومة الكويتية على زعماء أحزاب وتنظيمات عراقية رجعية ظلامية طائفية، مع علمها بأنها تعمل أساسا على تمزيق وحدة العراق وتفتيته.

وثالثا: يحمل عراقيون عديدون حكومة الكويت وبعض مواطنيها، بالحق أو بالباطل، مسؤولية أغلب حوادث السرقة والتدمير التي استهدفت الوزارات والمنشآت الأساسية العراقية، خصوصا في الأسابيع القليلة التي تلت الغزو الأميركي للعراق في عام 2003.

ورابعا: عمقت غضب العراقيين على الكويت شطحات بعض الكتاب والسياسيين الكويتيين، اثناء الغزو وبعده، ممن دعوا الى هدم العراق حجرا على حجر، وشتموا العراقيين، كل العراقيين من دون استثناء، واعتبروهم، جميعا، مسؤولين عن غزو الكويت، وتحميلهم الثمن الباهض لذلك الغزو اللئيم.

ورغم أننا نقدر مرارة الغزو التي دفعت ببعض الصحفيين والكتاب والسيايين الكويتيين الى مثل تلك الشطحات الانفعالية المتخلفة التي لم تفرق بين جلادهم، وهو جلادنا أيضا، وبين مواطنين أبرياء لا ناقة لهم ولا جمل في كل ما فعله صدام وحكومة الكويت، بالتساوي، بالشعبين وبالبلدين، بسياساتهم القاصرة الحاقدة العمياء.

إلا أن أيا من الكتاب العقلاء ومن السياسيين المتنورين المتحضرين الكويتيين لم يكلف نفسه عناء الاعتذار للشعب العراقي بعد التحرير، لإزالة آثار تلك الشتائم على المزاج العام في العراق.

وأثناء جولة الأميركيين، في أعقاب التحرير، على الدول الدائنة لعراق صدام حسين، أملاً في إلغاء بعضها، وجدولة البعض الآخر، وإسقاط التعويضات، أصرت الكويت على استمرار حصولها على مئات الملايين من الدولارات كتعويضات، دون مراعاة لحاجة الشعب العراقي إلى إعادة بناء ما خربه صدام وحروبه المدمرة.

كما تردد مؤخرا في أجهزة الإعلام أن القيادة الكويتية ما زالت ترفض إسقاط الديون والتعويضات التي تعرف هي قبل غيرها أن العدل يقضي بعدم تحميل الشعب العراقي ما قدمته هي للديكتاتور من ديون وتسهيلات مصرفية، عن طيب خاطر، أو بناء على نصيحة الحلفاء، لدعمه في (حربه القومية) من أجل حماية البوابة الشرقية.

أنا لست خبيرا في العلاقات الدولية ولا أفهم في المفاوضات بين الدول وضرورة احتفاظ كل طرف بأوراق معينة للضغط وانتزاع المكاسب، ولكنني أفهم جيدا أن العلاقة بين الكويتيين والعراقييين، بعد كل تلك الكوارث التي أدمت كل بيت في البلدين، تحتاج الى إسقاط جميع الأوراق القديمة، واستحداث أوراق جديدة، لا علاقة لها بمخلفات الماضي الأليم.

وما زالت القيادة الكويتية تشترط لتطبيع العلاقات الكويتية العراقية، أن توقع القيادة الجديدة في بغداد على جميع المعاهدات والاتفاقات السابقة التي وافقت عليها أنظمة حكم عراقية لا يعترف أحد من العراقيين بشرعيتها، من أيام عبد الكريم قاسم وعلي صالح السعدي والبكر وصدام. وحتى تلك الاتفاقات والمعاهدات التي اضطر نظام الديكتاتور الى التوقيع عليها، ظنا منه بأنها قد تمنحه الحرية وتعيده الى المجتمع الدولي من جديد، هي بالذات الاتفاقات والمعاهدات التي كان ينبغي على القيادة الكويتية أن تسارع الى إهمالها وإسقاطها واعتبارها جزءا من حرب باردة سابقة بينها وبين أنظمة ديكتاتورية عراقية كانت مفروضة على أشقائهم، ومنها اتفاقية ترسيم الحدود العراقية ـ الكويتية واجتزاء قسم كبير من الميناء العراقي الوحيد.

مع التذكير بان تلك الاتفاقية صممت وأجيزت من قبل مجلس الأمن الدولي في غياب الممثل الشرعي للشعب العراقي.
فليس من المنتظر أن تطلب القيادة الكويتية من رئيس حكومة لا تمثل جميع العراقيين، ولا تملك حق التصرف المنفرد بقضايا جوهرية مصيرية من هذا النوع، ما ليس في استطاعته أن يعطيه.

هذا إذا أغفلنا أن طلبا من هذا النوع يعقد عمل الحكومة الحالية على لملمة الجراح وترويض الشعب العراقي على نسيان الماضي، والتوجه الى الغد لبناء وطن عاقل وعادل ومزدهر يجاهد لإشباع أهله، وليس لحماية بوابات شرقية أو غربية، ولا لتحرير فلسطين من البحر الى النهر، ذهابا وإياباأو غيرها قبل تحرير شعبه من الخوف والجوع ومن مفخخات الأشقاء والجيران.

لو كنت مكان القيادة العليا في الكويت لبدأت على الفور بتأسيس علاقات أخوية صادقة ونقية مع العراقيين، كمواطنين، وليس فقط مع رجال السلطة، ولتنازلت على الفور عن النصف المنتزع من أم قصر، ولأغلقت جميع ملفات التعويضات والديون، بل لأنفقت الكثير من المال في العراق، الآن وليس بعد أن يستعيد العراق عافيته ولا يعود بحاجة الى وقفة الشقيق، ولدفعت بأغلب أصحاب رؤوس الأموال الكويتيين الى التوجه الى العراق، باعتباره الوطن الثاني الحقيقي لهم، ومد أياديهم الى أشقائهم، وإعادة العلاقة الى سابق عهدها، مفتوحة، بلا قيود ولا شروط. هذا وحده ضمان أمن الكويت القوي والثابت والنهائي الذي سيمنع عراقيا أحمق قد يأتي في الغد - والعياذ بالله ـ على رأس السلطة في بغداد فيقتحم الكويت من جديد.

وفي تقديري فإن الضمانات الدولية والحماية الأجنبية التي تتمسك بها حكومة الكويت ليست هي الحارس المضمون لأمن أية دولة، لأن هذا الحارس ليس دائما، وإن دام فإن مصالحه تتغير بين يوم وآخر، وقد يصبح حليف اليوم عدو الغد، والأمثلة على ذلك على (قفا من يشيل) كما يقول المصريون.

إن المطلوب الآن من الساسة الكويتيين والعراقيين معا أن يعملوا بروح نقية خالصة من أجل حماية الأجيال المقبلة من أبناء شعبيهما من مصائب زرعها سياسيون سيطرت عليهم روح المكاسرة والانتقام، لا روح السمو والترفع عن الأحقاد العابرة، مع الأسف الشديد.

إبراهيم الزبيدي