مما لاشك فيه ان المتابع للوضع في العراق مع الأعلان الرسمي والعملي للأنسحاب الأمريكي من العراق يلفت نظره اعتقاد الكثير من الجهات انها كانت السبب وراء هذا الأنسحاب..وفي مقدمتها الجماعات المسلحة مختلفة الأنتماءات الحزبية والمذهبية والتي تعتقد انها كبدت القوات الأمريكية مايكفي من خسائر لدرجة انها انسحبت مهزومة!
بل ان هنالك جماعات اكتفت طيلة السنوات الماضية من عمر الأحتلال بأصدار البيانات حتى تحولت الى مجرد مطبعة لأصدار البيانات وهذه الجماعات اغلبها جالس على التل أي يقيم اصحابها في خارج العراق في فنادق فخمة وفي فيلل ورفاهية ويصدرون بيانات يشتمون فيها ليل نهار الأمريكان والحكومة العراقية بل يشتمون أي احد ليس منهم ويحرضون على مزيد من الأقتتال الدامي..ويظنون ببراءة متناهية ان بياناتهم قد كانت هي السبب وهي التي ارعدت مفاصل الأمريكان فلاذوا بالفرار..
وبالطبع ينسى ويتناسى هؤلاء واولئك الأستراتيجية الأمريكية في العراق والمنطقة..ويصرفون النظر تماما عن توجهات الديموقراطيين في حكم الولايات المتحدة المتمثلة في وفاء الرئيس اوباما لوعوده الأنتخابية بسحب القوات..ولأن امام الأمريكان ساحات ومواقع اخرى مشتعلة او مضطربة في العالم.
في وسط هذا تعلن بعض الجماعات المسلحة في العراق مبايعتها للشيخ حارث الضاري رئيس هيئة علماء المسلمين السنة ممثلا لها..وقد صحب هذا الأعلان من لدن هؤلاء ترحيبا وتهليلا وسعادة بالغة من طرف الشيخ حارث الضاري نفسه الذي سرعان مااعلن موافقته وعبر وسائل الأعلام المختلفة وفي مقدمتها بالطبع قناة الجزيرة التي عبرت في برامجها عن اهتمام بالغ بالموضوع وكررته مرات ومرات في نشراتها الأخبارية والعديد من برامجها ومنها المشهد العراقي و ماوراء الخبر وغيرها..
تساؤلات دون اجابات
لكن اسئلة ملحة سرعان مابرزت مباشرة و لم تطرحها الجزيرة ابدا بل اثارها اقطاب آخرون ومراقبون وحتى من الجماعات المسلحة الأخرى نفسها ومن اهم هذه الأسئلة مايأتي :
هل اتضحت تماما المهام التي اوكلت للشيخ الضاري بهذا التكليف؟..
وهل اصبح الضاري بموجب هذا التكليف القائد العسكري الميداني لمواصلة ضرب الحكومة العراقية وجيشها وشرطتها والقواعد العسكرية الأمريكية في العراق؟
وهل هذا يعني ان الشيخ حارث الضاري سيتخلى عن منافيه في الأردن ومصر وسوريا وغيرها التي يتنقل فيما بينها ليعود الى العراق ليقود المهام المسلحة؟
وهل سيعود علنا ام بالخفية على اساس انه مطلوب في المحاكم العراقية على ذمة قضايا جنائية؟ هذه اسئلة لاتعرف اجاباتها..
ولهذا يتساءل الكثيرون: انه لاتوجد (مقاومة ) مسلحة بلا استراتيجية واضحة الأهداف والمعالم..ولكن يبدو ان دخول رجال الدين الذين لايفقهون لافي السياسة ولا في الحرب شيئا هو السبب وراء هذا التخبط والفوضى.
واذا ذهبنا الى ماهو ابعد من ذلك الى مواصفات زعيم هذه التيارات المفترض كما يحددها الشيخ الضاري في احدى مقابلاته فأن الزعيم المفترض quot; اي الخليفة يجب ان يكون معروفاً باسمه وسيرته، وبصلاحيته الجسمية والعقلية، وبإخلاصه للمبادئ التي تقوم عليها الدولة، ولا بد من عرض اسمه على أهل المنطقة ليبايعوه إذا توفرت فيه الشروطquot; كما جاء في مقابلة للشيخ مع مجلة (المسلم )..وبذلك يطرح الشيخ الضاري نفسه خليفة ويتوسم كافة الصفات في نفسه.
اعتراض الجماعات المسلحة على الشيخ الضاري..لماذا؟
ولكن من المهم هنا هو انه ماان اعلن عن تكليف الضاري حتى اعلنت العديد من الجماعات المسلحة اعتراضاتها على ذلك ولهذه الجماعات اسبابها الواقعية والعملية التي منها ابرزها :
اولا: ان هنالك الكثير من التساؤلات حول برنامج هيئة علماء المسلمين السنة في العراق واولها هو التناقض في كثير من مواقفها ومواقف الشيخ الضاري بين ماتعلنه وبين ما تقوم بها.
ثانيا : ان اول هذه التناقضات هي ان الشيخ الضاري وهيئته لم تكن فصيلا من فصائل المسلحين بل كانت تتخذ لنفسها حيزا مسالما في العلن و هذا ما دعى نغروبونتي السفير الأمريكي الأسبق في العراق الى أن يطلب أكثر من مرة مقابلة الشيخ الضاري.. فلو كانت الهيئة تمثل أحدا من الجماعات المسلحة أو لو كان الأمريكان يعتبرونها ممثلة حقيقية للمسلحين لما طلب نغروبونتي مقابلة أمينها العام في نظر هؤلاء.
ثالثا: ان المشكلة التي تعترض مسار عمل الهيئة اليوم و بعد ست سنوات من الاحتلال هي أنه لم يحدث أي تطور في مشروعها لما يسمى ا لمقاومة السلمية أو في طرحها الذي بداءته من اليوم الأول.. فقد جدول الامريكان انسحابهم و لكن ليس رضوخا لطلب الهيئة وهوماتجمع عليه اغلب الجماعات المسلحة.
رابعا: واستمرارا للتناقضات التي تميز مواقف الشيخ الضاري وهيئته انه بالرغم من رفض الهيئة لأن يمارس الآخرون السياسة وفق اجتهادهم نجد أن الهيئة تمارس السياسة بطريقة أخرى.. و خاصة الخارجية منها مع حلفاء أمريكا..فهي ترفض التعامل مع من جاء به الأمريكان ليحكم العراق و لكنها تتعامل مع من جاء به الأمريكان ليحكم بلدا عربيا أو إسلاميا آخر...على حد قول تلك الجماعات في بياناتها المعلنة.
خامسا: ومن التناقضات الأخرى للشيخ الضاري وهيئته أن يظهر ابن الشيخ حارث : مثنى ليقول ان القاعدة هي التي قتلت أحد أبناء أعمامه ((و اسمه حارث الضاري أيضا.. و كان دليله في ذلك أن القتلة كانوا ملثمين.... ! و أن القبيلة تقول أن القلتة هم من القاعدة.في حين يصرح الشيخ حارث الضاري على الطرف الآخر عام 2007أن القاعدة منا و نحن منها !!!
سادسا: ومن تناقضات الشيخ الضاري وهيئته ايضا عندما صرح محمد عياش الكبيسي مدير مكتب هيئة علماء المسلمين السنة ومثل الشيخ الضاري في قطر أن على أهل السنة للمشاركة في الانتخابات بينما لم تنف الهيئة ذلك و قالت أنه أمر خاص بكل شخص و هي لا تدعوا لا الى المشاركة و لا الى عدمها. رغم أن الشيخ الضاري نفسه يقول أنه لن يشارك في الأنتخابات لأن ذلك يعطي شرعية للأحتلال..فما هو الموقف النهائي وسط هذه المتناقضات وعدم وضح الرؤية الناجم عن قلة الخبرة السياسية او انعدامها.
سابعا: ترى العديد من الجماعات المسلحة ان قيام الشيخ الضاري بتزعم بعض الجماعات المسلحة انما هي محاولة لجني ثمار الآخرين خصوصا مع اقتراب انسحاب القوات الأمريكية...وقد رافق ذلك دعوة الضاري الى تشكيل حكومة انتقالية و الى انتخابات لرئيس الدولة و الى تعديل الدستور بعد خروج المحتل.. والسؤال هو: هل ستكون عودة الضاري بعد تصالحه مع الحكومة أم سوف يدخل العراق و هو عدو لها.. و هل تفوض الجماعات المسلحة الشيخ الضاري ليتفاوض مع الأمريكان أم ليقودها في المواجهات المسلحة أم ليكون قيادة ظل سياسية و تبقى القيادة العسكرية بيد اولئك المسلحين.
ثامنا: ترى تلك الجماعات أن على الضاري ان يعود الى العراق و أن يكون بين المسلحين. و أن يقول لهم : بل أنا الذي أفوضكم و أنزل عند رغبتكم أن أكون بينكم و أنا الذي آتي اليكم في بغداد و ليس العكس.. ! ويرون انه لا يجدر بالمسلحين أن يمثلوا من خارج أرضهم و لا أن يذهبوا الى عمان أو الى الدوحة أو الى القاهرة و يتركوا بغداد أما أن يكون الهدف أو النتيجة لتفويض الشيخ الضاري لتمثيل المسلحين أن تدار دفة الحرب في العراق من عمـَّـان او القاهرة او غيرها ففي نظرهم لن تخلتف كثيرا عن إدارتها من قاعدة السيلية أو العديد أو من بارجة في عرض البحر.
تاسعا: لم تخف جماعات مسلحة رفضها علانية لتسمية الضاري ممثلا لها حيث يقول المدعو (علي الجبوري/ الأمين العام لمايسمى ( المجلس السياسي للمقاومة العراقية) في تصريحه على قناة الجزيرة في برنامج المشهد العراقي حلقة يوم 14/6/2009 ان مجلسهم ( يؤمن بأن رمزية المقاومة وواجهة المقاومة يجب أن تكون عبر مؤسسة وليس عبر أشخاص وعملية إبراز رموز للمقاومة أما أن نبرز شخصا يفاوض على المقاومة ويمثلها سياسيا (وهو الشيخ حارث الضاري ) الحقيقة نحن عندنا إشكال في هذه القضية)..
قصة (جيوش ) المسلحين؟
واذا اضفنا الى كل هذا ان الذين بايعوا الشيخ الضاري ماهم الا مجاميع قليلة جدا من المسلحين اغلبهم هم في الأصل يقودهم الشيخ الضاري وابنه وهيئته في تنفيذ العمليات المسلحة ضد الأمريكان وضد الشرطة والجيش العراقي..ومنها مثلا كتائب العشرين التي اسسها الضاري نفسه وهي تجمع من بقايا البعثيين والوهابية وبعض من شرطة ومخابرات النظام السابق وهي التي يشكو منها العراقيون بسبب سمعتها السيئة في البطش بالأبرياء وارتكابها عمليات بشعة للغاية من قطع للرؤوس واغتصاب ونهب للبيوت وتورطها في القتل والتهجير الطائفي وقرب معاقل الشيخ ضاري نفسه في مناطق ابو غريب وماجاورها.
وبالرغم من الأسماء الرنانة للمجاميع المسلحة بأطلاق اسم (جيش) على عشرة اشخاص او عشرين شخصا وحيث انظم لقيادة الضاري خمسة جيوش هي (جيش المسلمين، جيش التابعين، جيش الجهاد، جيش المرابطين جيش أحمد) ولو وجدت مثل هذه الجيوش الجرارة لأحاطت بأرض العراق شرقا وغربا ولمابقي لجيش ولا لدولة في العراق من باقية..
لكن هذا الجانب مما لم تلتفت اله الجزيرة في تغطياتها للموضوع بل توحي للمشاهد بأن جيوشا عرمرم من المسلحين ستعلن النصر المؤزر وهي في تقديري نظرة غير واقعية ومبالغ فيها جدا ولاتخدم موقف الشيخ الضاري مطلقا وتضعه في حالة من التهويل والمبالغات لاتستند الى ارض الواقع بل ان هنالك من يقول ان تكليف الضاري بهذه المهمة هي ورطة حقيقية له لأن هذه المجاميع المسلحة وضعته في الواجهة ووضعت في عنقه مسؤوليات سياسية وقانونية بعدما اعلن في اندفاع غير محسوب قبوله لتحمل كافة التبعات والمسؤوليات المترتبة على قيادته لأولئك المسلحين ورغم انه يعرفهم ربما معرفة شخصية على اسس واسباب قبلية وعشائرية او كونهم من الوهابية التي يؤمن بها، الا انهم بالنسبة للعراقيين مجرد اشباح لاوجود لها على ارض الواقع ومسميات اعلامية اكثر منها واقعية لاسيما بعد تلاشي او شبه تلاشي العمل المسلح في محافظة كانت تعد حاضنة مهمة للأعمال المسلحة وهي محافظة الأنبار التي ينشغل ابناؤها اليوم بالأنتخابات وجلب مشاريع اعمار البنى التحتية وتطوير محافظتهم ولم تعد في محافظتهم اية ارضية لهؤلاء المسلحين وزعاماتهم..
من يتحمل اخطاء المسلحين وفوضى قتل الأبرياء؟
ولعل ماهو اجدر بالشيخ الضاري قبل قبوله بهذه المهمة الخطيرة والتي وضعته امام المسؤولية السياسية والقانونية والأخلاقية امام جميع السلطات في العراق وخارجه وامام العراقيين، الأجدر به كخطوة اولى هو تنقية هؤلاء المسلحين ممن قاموا بقتل العراقيين الأبرياء وهجروهم واغتصبوا النساء واعلانهم مجرمين يجب ان يساقوا الى العدالة..فلم نسمع يوما وفي وسط ضجيج بيانات القتل والتهجير ان جماعة مسلحة واحدة تبرأت من واحد من اعضائها بسبب اقترافه جرائم وهم يعدون ليس بالمئات بل بالألوف هذا اذا كانوا كمايشيعون يريدون دولة العدل والقانون والمؤسسات وليس دولة اللصوص وقطاع الطرق ومافيات الجريمة المتسترة بستار الدين زورا وبهتانا..
وفي نظرة اكثر واقعية فأن زهو النصر المفترض والسعي للسلطة لايجب ان تسكر النشوة الناتجة عن ذلك حقيقة ان مئات آلاف العراقيين لديهم قصص مأساوية مريرة مع المحتلين وكذلك لديهم قصص مأساوية مريرة مع اولئك المسلحين الذين روعوهم واثكلوا نساءهم ويتموا اطفالهم بسبب فوضى عمليات القتل والتخريب التي لايجب للشيخ الضاري ان يتحمل اوزارها بمثل هذا الأندفاع المتسرع فضلا عن المؤشرات الجوهرية التي اشرنا اليها آنفا والتي ربما تجعل كل الضجة المرافقة للموضوع مجرد زوبعة في فنجان اذ لامكان على ارض الواقع في المنظور القريب والبعيد افقا يدل على وجود وواقعية مايرد في الخطب الرنانة التي تطلقها المجاميع المسلحة وهيئة الشيخ الضاري واعتقد ان تحولا دراماتيكيا يحلم به الحالمون غير المحنكين سياسيا وعديمي الخبرة في القيادة والعلم العسكري يبقى خيالا وشعارات وخطب وامان على الورق لاصلة لها بالواقع وماتأسس عليه وضع العراق اليوم وهو ما تروج له وسائل اعلام لدول مجاورة للعراق او معنية بالشأن العراقي بطريقة مبالغ فيها وفيها كثير من التضليل والتضخيم.
داوود السعيد
التعليقات