مع دخول إدارة أمريكية جديدة إلى البيت الأبيض، وكالعادة، وبنفس المؤثرات والتقاليد الدبلوماسية المعهودة، تقريباً، التي تحصل مع كل تطور أمريكي داخلي quot;شكلانيquot;، ونعني به خروج ودخول إدارة أمريكية، إذ لا تغييرات جوهرية على الصعيد الإستراتيجي البعيد، فإن القضية الفلسطينية تعود لتطفو فوراً إلى السطح، من جديد، وإلى سيرتها الأولى، بعد أن تكون قد شبعت تفصيلات مملة، وشروحات مطولة، ولجاناً دائمة، وأخرى مؤقتة، وخلوات جانبية، وزيارات ودية، في الولاية المنصرفة.

فقد كان الرئيس بوش صرح، مثلاً، في بداية ولايته، بأن الدولة الفلسطينية سترى النور مع نهاية عهده، ولكن شيئاً من هذا القبيل، لم يتحقق، بالطبع، وبقية القصة معروفة للجميع. ولم تخرج الإدارة الجديدة للرئيس باراك أوباما عن هذه التقاليد، ويبدو أنها ستحافظ عليها بأمانة تحسد عليها، إذا لاشيء عملياً، بالتأكيد. فمع بداية حقبة الإدارة الجديدة، كثر الحديث عما يسمى بحل الدولتين، أي دولة فلسطينية قابلة للحياة State Viable، حسب الأدبيات quot;إياهاquot;، ودولة إسرائيلية اشترط بنيامين نتنياهو على العرب يهوديتها المطلقة، في خطابه الناري الأخير، وإمعاناً في الغلو السياسي، يجب اعترافهم، مجتمعين، بهذه الهوية،.

وفي الحقيقة فإن ما يسمى بحل الدولتين، هي محض مبادرة، أخرى، غايتها ممارسة المزيد من المماطلة المحبـّبة والتسويف الـ Procrastination، واللعب على عامل الزمن والوقت إلى أن تتفق العبقريات الدبلوماسية، الوريثة للعقل الكولونيالي، والتي، ما قتئت، تلعب بأعصاب سكان المنطقة، عن مبادرة جديدة، تكون على سبيل المثال، والدعابة المرّة ليس إلا، quot;حل الثلاث دولquot;، وربما فلا شيء غريب في هذا السيرك العربي المقيم، وتتكون من دولة المقاطعة، ودولة إمارة حماسستان الإسلامية، بـquot;شكلها الحاليquot;، ودولة بني إسرائيل كما نعرفها، وهكذا دواليك، وإلى ما شاء البيت الأبيض وشاء الهوى السياسي.

وبمطلق الأحوال، فإن أية دولة فلسطينية، وحسب ما رأيناه حتى الآن، من أنموذج هزيل غير مغر، تجلى في سلطة محمود عباس، ومن قبله الثوري الفتحاوي أبي عمار، فإنها لا تبشر بخير، مطلقاً، ولا تنطوي على أدنى معايير يجب أن تتوفر لبلدية من الدرجة الثالثة، وليس لدولة محترمة ومستقلة وذات سيادة، كما هو مفترض ومطلوب كحلم وطني فلسطيني. إضافة أن الحل على الطريق الحمساوية هو أمر تكتنفه بعض الهواجس والشكوك، وعلى أكثر من مستوى، شعبي، وداخلي، فلسطيني قبل أن يكون على مستويات إقليمية، ودولية، أبعد. وإذا ما استمرت عملية التسويف والمماطلة، على ما هي عليه، وكلها تلعب على عامل الوقت، فلا يتوقع أن ترى هذه الدولة النور أبداً، وكما حدث، بشكل منهجي، ومكرر، خلال الستين عاماً الماضية، وهي عمر ما يسمى بالصراع العربي الإسرائيلي، وإن كان لنا بعض التحفظات، على هذا المفهوم، حيث يبدو الصراع هو عربياً-عربياً، بالدرجة الأولى.

وعلى الجانب الإسرائيلي، فإن رفض سياسات هذا الكيان، وعلى عدة مستويات، نابع أي الرفض، من عدة اعتبارات أمنية وإنسانية وديمغرافية وسلوكية وعقائدية ومفهومية محضة، وبالنظر دوماً إلى معايير الوطنية وأنماط الكيانات السياسية الحديثة المعروفة في علم الاجتماع السياسي، والتي لا تنطبق بمعظمها، حتى اللحظة على، إسرائيل، وبعيداً عن أية حساسيات، تضمينات هولوكوستية محرقية، نحن بعيدون عنها، تماماً. فرفض الإبادات الجماعية أمر مبدئي وقيمي، بما فيه إبادة الهنود الحمر. ووجود كيان غايته العسكرة والتوسع والاستيطان وقضم المزيد من أراضي الغير وممارسة هواية الاحتلال، والاعتماد على سياسات التفوق، ناهيك عن التشبث بهويته الدينية المغلقة، الرافضة لأية هوية دينية، أو قومية أخرى غير اليهودية، قد لا يجلب أي أمان لا لأصحابه ولا لغيرهم، حتى لو امتلكوا أشرس الترسانات العسكرية. ومن أغرب الصدف الديمغرافية عبر التاريخ أن تتماهى في الحالة الكيانية الإسرائيلية الهوية الدينية، حصراً، مع الهوية القومية، ولا يمكن التفريق بينهما في كثير من الأحيان، وهذا طبقاً لمفهوم الدولة الإسرائيلية المعتمد في الدستور الإسرائيلي، وطبقاً لخطاب نتنياهو الأخير.

لذا، فقد يكون الحل الوحيد هو في حل الدولتين، بهذه الحالة، وعلى تلك الشاكلة. وليس بمعنى إبادة أو إلقاء أي منهم في البحري، كما أشاع القوميون العرب الأشاوس، في غابر الأيام الناصرية. ولكن، بمعنى، التخلص، والتحرر من كل هذه الأنماط السياسية الرثة الموجودة حالياً، أي الدولة الإسرائيلية بشكلها الديني العسكريتاري البغيض، والدولة الفلسطينية كما هو متصور ومطروح، quot; دولة لا حول ولا قوةquot;، واستبدال ذلك بكيان جديد يضم الجميع، قائم على مبادئ إنسانية، وعلمانية، تسود فيها قيم التسامح، والعدالة، والمساواة والمواطنة وعدم التمييز لا القومي، أو العنصري، ولا أية معايير أخرى لا تتفق مع شرعة حقوق الإنسان، ومواثيق الأمم المتحدة ذات الصلة. فما يميز العصر الحالي، هو السعي لإقامة التكتلات السياسية والاقتصادية الكبرى، وفتح الحدود وإزالة كافة الحواجز ومعوقات التوحد والتلاقي بين شعوب الأرض، وبعيداً عن أية نزعات عنصرية، وفاشية واستعمارية، أخرى.

فهل يقبل الصقور، على كلا الجانبين، بهذا الحل البسيط، والعفوي، وربما الساذج، والبسيط؟

نضال نعيسة