حين اندلعتْ الحرب العراقية الإيرانية، كنت في المدرسة المتوسطة، فرحتُ أنا وأقراني بها لأننا لن نذهب للمدرسة في اليوم التالي،لم أكن اعرف ماتعنية الحرب..!!
تعطلتْ المدارس أكثر من شهر وضجرنا من بقائنا في البيوت.
شح وانقطع النفط والغاز،ولم يعترض الكبار على واحدة من أقدس مازرعوه، quot;النخلة العمة quot;، صمتوا حين اضطر بعض القرويين لقطع النخيل واستخدام جذوعه كوقود للطبخ والتدفئة.
إنها الحرب، لامكان للمقدس فيها..!!

لم يعد في التلفاز غير أغاني الحرب وخطاباتها، حتى افتتاح التلفاز لبثه الإذاعي كانوا يختارون له آيات من القرآن قصيرة،يختمونه بدعاء ظل يتكرر ثماني سنين quot; اللهم آتي محمدا الوسيلة والفضيلة وامنحه المقام الكريم الذي وعدته،إنك لاتخلف الميعادquot;،كنا فرحين باختزال فقرة القرآن الكريم لنشاهد ماحدث مع السندباد في أفلام الكارتون،ولكنهم أوقفوا بثه واستعاضوا عنه بكارتون قصير خمس دقائق بدلا من خمس عشرة دقيقة.
اختفى من البيت ثلاثة من إخوتي والتحقوا بالجبهات كجنود... لم أشاهد أمي تبتسم بعد ذلك اليوم..!
إنها الحرب لامكان للابتسام بها..!

وحين حل العيد، لم يرقص الناس رقصة quot; الجوبي quot; كما اعتادوا..!
إنها الحرب، اختفت quot; الجوبي quot; والى اليوم كرقصة من رقصات العيد...!

عاد احد الجيران،بإجازة عسكرية،حاملا معه، خرطوشة اطلاقة مدفع عملاقة، لم نر مثلها من قبل،كان يتباهى بها أمام ضيوفه هو وزوجته، وكذا جلب الكثير من الجنود مختلف أنواع الخراطيش،وصرنا نعرف نحن الصغار،تماما كل خرطوشة لأي نوع قذيفة،لم تعد خرطوشة جارنا ذات أهمية لكثرة الخراطيش، ولذا استخدمها أخوه،بعد أن وضع فيها عمود من الحديد وصب بها كونكريت لتكون رافعا لمستقبِل البث التلفزيوني،بعد سنتين شاهدت الخرطوشة،تثبت إحدى دعائم بيت عزاء جارنا الشهيد في معركة quot; القادسية quot; الثانية.

إنها الحرب،تستخدمها وتستخدمك..!

جار آخر كان جنديا عاد بإجازته بعد معارك مدينة quot;المحمرةquot;، حاملا معه إحدى الغنائم التي أرانا إياها،كانت البوم صور لعائلة إيرانية،هي المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها البوم صور،مازلت أتذكر إحدى الصور،لطفلة في عمري وسط حقل مليء بالزهور البرية فسيح،قال جارنا انه لم يأخذ من هذا البيت الذي هجره أهله بسبب الحرب غير quot; الألبوم quot;لأنه وجد إن أهل البيت كتبوا على ورقة وضعوها بجنب quot; قرآن quot;:أمانة الله ورسوله quot;...هل كان أهل البيت عربا؟!،ولكنه أضاف بأسى إن جنودا آخرين لم يأبهوا ونهبوا البيت كله،حتى القرآن quot;..!
إنها أخلاق الحرب.

اتشحت المدن بالسواد، وبدل السؤال:ابنُ من الذي أتوا بنعشه اليوم quot;شهيداquot; إلى مركز الشرطة quot;لتسلمه إلى عائلتهquot;، صار: كم هو عدد النعوش؟!
إنها الحرب لها أسألتها الخاصة..!

كرهتُ هذا الرجل المعمم الذي لايريد أن تنتهي الحرب إلى أن يدخل quot;كربلاءquot;..!
كانت ماكينة الحرب الإعلامية،تردد دوما quot; الفرس المجوس الحاقدونquot;،كرهتُ هذه الحرب وهؤلاء المجوس البرابرة الملتحين،كرهت الإيرانيين،الذين لايوقفوا الحرب ليعود إخوتي إلى البيت، وتعود لامي ابتسامتها.

أبي يضع المذياع على إذاعة quot; مونتي كارلو quot;ويغفو بانتظار خبر عن الحرب،السنين تمر....والحرب تغدو منسية للعالم إلا لنا نحن العراقيين والإيرانيين، لأنها لاتريد أن تنسى إننا وقودها،وإذاعة quot; مونتي كارلو quot;ولأيام طويلة لاتذكر شيئا عن الحرب.... فقط إعلانها عن جبنة quot; لافاش كيري quot; جبنة البقرة الضاحكة،لم أكن اعرف عن الجبن إلا انه إحدى مشتقات الحليب،وكشأن اغلب القرويين لانشتري إلا السكر والشاي والتتن من المدينة، لم نذق الجبن يوما لأننا نكتفي بما نزرعه وتنتجه حيواناتنا،ومن هذه الأخيرة لانعرف سوى،الحليب،والزبدة، واللبن الخاثر الذي نسميه quot; روبه quot; بالعراقي....!

سألت أمي عن طعم الجبن..؟!
اعتدل أبي بجلسته كمن يريد أن يلقي خطبه،وقد أصاغ جميع أفراد العائلة السمع له،قال quot;لقد تذوقته عند زيارتي لأحد الأصدقاء quot;حضري quot;من المدينة،وهو يشبه الروبة الصاكه quot; الجامدة، وملحة زايد،كسر بجمع quot; خرط quot;هراء..!
بعد هذا الجواب لم افهم لماذا كل هذا الاهتمام من إذاعة مونتكارلوا quot;بروبة صاكهquot;..!!

تمر سنين quot;الحرب المنسيةquot;، وترصد الحكومة في القناة الثانية العراقية ساعة بث تديرها quot; منظمة مجاهدي خلق الإيرانية المعارضة quot;، كان أجمل مافي هذه الساعة هي فقرة خمسة عشر دقيقة لاغاني فارسية قديمة...!!

من هنا بدأت معادلة أخرى في حياتي،سمعت:مختلف الأغاني التي لامثيل لوقعها في داخلي أنا الذي لاافهم الفارسية، ولكنها الموسيقى،استمعت quot; لمهستي quot; وداريوش وكوكوش وهايدة كولبيكاني وغيرهم،من خلال موسيقاهم أحببت الشعب الإيراني،كرهتُ نظام الملالي التي حرّم بها هذا الغناء الجميل، واكتشفتُ إن quot; حكومتي العراقية quot; كانت تكذب،كرهتُ صدام حسين...!

كيف لمن يبدع هذه الموسيقى أن يكون بربريا مجوسيا حاقدا..!!
ماذا عن عمر الخيام وسعدي شيرازي العظيم ماذا عن حافظ؟!

نعم رغم الحرب ورغم إن أمي لم تستعد ابتسامتها، لكني أحببت الشعب الإيراني، مبدع الفنون الجميلة الأصيلة
لإيران الجارة والأيام العصيبة التي تمر بها، أقول:
أبكي مع كل قتيل يسقط في المظاهرات، وانتفض مؤيدا كلَ صرخة حرية من شبابكم.
لإيران الحبيبة... أهدي ابتسامة أمي التي فقدتها في الحرب، أملا أن أراها تتوزع بالتساوي على وجوه الأجيال الإيرانية والعراقية الجديدة.

ضياء حميو
[email protected]