شكلت الأحداث الجارية حالياً في إيران والمظاهرات المتتابعة والمتسارعة فيها ndash;والتي انطلقت على خلفية رفض نتائج الانتخابات الرئاسية الإيرانية الأخيرة من جانب تيار واسع وعريض من القوى السياسية الإيرانية- شكلت مدخلاً أساسياً لدى جمهور كبير من المراقبين والمفكرين والنخب المثقفة لإعادة تسليط الضوء على نظرية ولاية الفقيه quot;القديمةndash;الجديدةquot; التي تشكل حجر الأساس في دستور الجمهورية الإسلامية في إيران.

وتدور النقاشات الجارية حالياً في مختلف وسائل الإعلام بين نهجين فكريين وسياسيين أستطيع أن أصفهما بالـ quot;متطرفينquot;، أحدهما يريد إعادة تثبيت وترسيخ ولاية الفقيه كفكرة عقائدية في الواقع العملي القائم على ما فيه من سلبيات وإحباطات شعبية عارمة، ومن دون السماح لأحد بتوجيه أي نقد أو تطوير أو بحث أو مساءلة، والآخر يريد نسف هذه النظرية الفكرية والفقهية الدينية من جذورها على خلفية عدائه للدين أو ربما جهله وعدم فهمه له، ومن دون أن يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الظروف والمناخات المعقدة السائدة والمتبنيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والآمال الشعبية الواسعة والعملية التي قامت عليها (وأفضت إليها) تلك النظرية بعد مضي حوالي ثلاثة عقود من الزمن على العمل المستمر والمتواصل على تطبيقها في داخل إيران.. بقطع النظر عن صوابية هذه الفكرة وتطبيقاتها أم سلبيتهما.

ولعل من المفيد بدايةً أن نشير إلى أن هذه النظرية قد شكلت في وقتها إنجازاً فكرياً وسياسياً للثورة الإسلامية في إيران ndash;وعلى رأسها الإمام الخميني- من خلال مساهمتها الفاعلة في إعادة توجيه وضبط وتزخيم مسار القدرات الشعبية الإيرانية، وإخراج مجمل الطاقات الكامنة في المجتمع الإيراني إلى ساحات العمل والفعل.

ومن المعروف للجميع بأن الثورة الإسلامية في إيران قامت على أساس الدعوة إلى التزام الإسلام كرسالة إلهية معنوية تحمل بين طياتها ndash;كما يزعم منظروها وأتباعها- فكراً سياسياً واجتماعياً قادراً -من خلال إمكانياته وطاقاته الذاتية والموضوعية بحسب المدعى- على إيصال البشرية إلى شاطئ وبر الأمان على المستوى الروحي والمادي من خلال إعطاء الحياة الإنسانية بعدها الروحي والمعنوي الهادف إلى إيصال الإنسان إلى كماله الممكن له.

وقد أكد مفكرو الثورة وقادتها الكبار على أن تركيز مفاهيم وأفكار الثورة الإسلامية في إيران على الأهمية الحيوية الكامنة في قدرات الإسلام وإمكانياته الهائلة ndash;بما لها من دور هام وحيوي في صياغة وبناء المجتمع الإسلامي- لم ينطلق من مجرد الادعاء بأن الإسلام أفضل من جميع الحلول المطروحة على الساحة حالياً، وإنما تعداه إلى الميدان العملي من خلال استلهام (تلك الثورة) لروح القرآن الذي اعتبر أنّ الإنسان هو المحور الأساسي في أي مشروع نهضوي، لأنه يختزن في داخله قدرات غير محدودة وطاقات هائلة غير منظورة (بالمعني الروحي والمادي للكلمة) يمكن أن تفسح المجال أمامه، وتتيح له المساهمة الفعالة في تغيير الواقع، والعروج به (بالإنسان) في سلم التكامل الروحي والمادي.

وطالما إنّ الإنسان قد بات -في عرف الثورة الإسلامية- هو القاعدة الأساسية والمفصل الحركي والحيوي الخاص بنهوض المجتمع وبناء أمة مقتدرة وقوية وقادرة، لابد إذاً من وجود فكر ومعرفة اجتهادية جديدة ترسخ مفاهيم ومعايير الفكر النهضوي، وتعمل على تحفيز وإثارة كفاءات وقدرات ومواهب هذا الإنسان، ودفعها باتجاه المشاركة الإرادية الكثيفة والمنتجة في نهضة الأمة، في سياق تحملها لمسؤولياتها التاريخية كاملة. وهنا بالذات تكمن الإضافة النوعية والعملية الهامة التي قدمتها الثورة الإسلامية في إيران للفكر الإسلامي المعاصر.. إنها نظرية quot;ولاية الفقيهquot; السياسية التي سبق لعلماء وفقهاء ومفكرين إسلاميين سابقين أن نظروا لها بعد غيبة الإمام المهدي المنتظر (الإمام الثاني عشر الغائب عند الشيعة)، ولكن الثورة الإسلامية بقيادة الإمام الخميني استكملت طرحها، وعمقت جذورها في وجدان الأمة، ووضحت معالمها، واستطاعت أن تحولها من إطارها الفكري النظري إلى حيز التطبيق والتجربة الواقعية والالتزام العملي.

وعلى الرغم من الأسئلة والإشكاليات والجدل الواسع الذي أثير حول نظرية ولاية الفقيه، وحول مختلف الجوانب والعناصر المكونة لها، والمتفرعة عنها فقد تمكنت -كما يؤكد أتباعها- من الوصول إلى مختلف القواعد والفئات الجماهيرية والتيارات الشعبية الكبيرة في داخل إيران وخارجها بعد أن لامست أحلامهم وهمومهم، ودغدغت كثيراً من رغباتهم الدينية الصادقة في الخلاص الفردي والجمعي، الأمر الذي أهّلها لتكون ضمانةً ndash;نظرية على الأقل- لتحرير إيران من القيود والسكون، وإيقاظها من كبوتها وغفلتها الحضارية التي سيطرت عليها فترة طويلة من الزمن، ودفعها لإعادة إنتاج حيوية وحركية تاريخية ما في القرن العشرين، باتجاه تركيز العمل نحو مواقع الفعل الحضاري. وبالمقابل كان تحرر إيران من الشاهنشاهية، وتحملها لمسؤولياتها التاريخية الإنسانية ضمانةً لتعزيز دور الولاية الحركي في الواقع السياسي والاجتماعي العام في إيران.

إذاً ثمة معادلة متوازنة يمكننا قراءاتها هنا ndash;وهي التي انطلقت عناصرها ومكوناتها الداخلية بقوة في الواقع السياسي والاجتماعي الإسلامي المعاصر- بين تطور الأمة الإيرانية وتحقيقها لنهضتها الإسلامية المستعادة من براثن الاستلحاق والتبعية والانعزال عن المحيط الإسلامي، وبين ولاية الفقيه فيها. فالولاية والأمة ترتبطان الواحدة مع الأخرى. ارتباط الروح بالجسد، ولا انفكاك بينهما ما دامت الحاكمية الإلهية لا تعني وجود السلطان الجائر، أو الملك العضوض، أو الثيوقراطية وادعاء الحق الأهلي المقدس، ومادام تحرك الأمة -قائماً بالعنوان الأولي- على الوعي بالذات الحضارية الإسلامية، ورفض التبعية والاستلاب للآخر، والتماهي في داخله.

بهذا المعني يمكننا التأكيد على أن نظرية ولاية الفقيه هي بالفعل انجاز فكري وسياسي يحسب لإيران وبالذات لآية الله الخميني، لأنها -كفكرة فقهية تاريخية مؤدلجة تم إعادة إنتاجها وتجديدها على يد المرجع الخميني- ساهمت في البداية وبصورة فعالة في إخراج طاقات الذات الإيرانية (على اختلاف انتماءاتها ومشاربها ومذاهبها) إلى الوجود الخارجي العملي، وأعادت العمل بها من جديد من خلال تنظيم رؤية وخطاب معرفي سياسي واجتماعي استطاع -في نهاية القرن العشرين- إقامة دولة إسلامية طموحة تتحرك في الواقع السياسي الإقليمي والدولي ليكون لها دور أساسي وموطأ قدم فاعلة تتناسب مع حجمها الجغرافي والديني والحيوي. وهذا ما ساهم أيضاً في إعادة إحياء الأمل لدى قطاعات واسعة من المسلمين ndash;وبخاصة الإيرانيين، ممن أصابهم اليأس والإحباط، واعتقدوا بأنّ الإسلام هو دين الماضي البعيد- بأن الإسلام هو دين الحاضر والمستقبل، وليس مجرد دين طقوسي (شعائري) جاء لينظم العبادات فقط، ولا علاقة له بالشؤون الاجتماعية والاقتصادية.

وإذا كانت نظرية ولاية الفقيه قد شكلت في وقتها النظرية الناضجة الأهم (على المستوي العملي) لإعادة بناء قدرات المجتمع الإيراني، والصيغة الأكثر توافقاً وانسجاماً (مع منطق وضرورات الأحداث والوقائع والتاريخ الديني في إيران) بحيث تمكنت من إيجاد مواقع قوية لها في الواقع الإسلامي المعاصر، في طبيعة تحديدها الحاسم لأصول ومرتكزات النظام السياسي الشرعي في عصر غيبة الإمام الثاني عشر، فإنّ ذلك لا يعفي أصحابها والمنظرين لها -في داخل إيران وخارجها- من الوقوف الواعي والنقدي الطويل أمام جملة التساؤلات والإشكاليات المثارة حولها، ومحاولة البحث والتحقيق فيها من جديد، والإجابة الجادة والمسؤولة عنها. حيث أن تطورات العصر والحياة تقتضي البحث عن بدائل للأفكار العقيمة غير المنتجة، وإبداع أفكار وأدوات جديدة تحظى بقبول عامة الناس قبل أن تحظى بقبول نخبة الأمة، لأن الطريق إلى العقل والتطبيق يمر بالقلب أولاً وأخيراً. وولاية الفقيه فكرة دينية تاريخية من جملة أفكار مطروحة ومتداولة، ولا يمكن اعتبارها عقيدة دينية مقدسة، بل هي رؤية ظنية قابلة للطرح والنقاش والحوار بشأنها بين المفكرين والعلماء سيما أن هناك مراجع كبار سبق أن رفضوها وامتنعوا عن تأييدها ووجهوا لها سيوف النقد الإسلامي العلمي من أمثال العلامة الراحل محمد مهدي شمس الدين والمرجع العلامة السيد محمد حسين فضل الله والمرجع السيد علي السيستاني الذي يؤمن بولاية الأمة على نفسها وليس بولاية الفقيه على الأمة، حيث أنه ndash;في هذه الحالة- تصبح الولاية الدينية للمرجع نوعاً من الاستبداد الفكري والسياسي المؤدي حتماً إلى ممارسة مختلف طرق ووسائل الضغط والقسر والظلم الاجتماعي والاقتصادي والسياسي تحت زعم حماية الحقيقة والعقيدة المقدسة وquot;الحفاظ على بيضة الإسلامquot;.

وهذا النوع من الاستبداد الديني أشد خطورة من أي نوع آخر، لأنه استبداد يغلف نفسه بستار الدين والنصوص الدينية المقدسة التي يؤمن بها الناس، وتلهب مشاعرهم، وهنا تكمن الخطورة في أن يتحول الدين إلى مجرد قناع أو غطاء لممارسة شتى ألوان الكذب والنفاق والقسر والإكراه ومن دون وجود أي رادع من أخلاق أو قيم أو قانون.

نبيل على صالح