منذ صدور مذكرة التوقيف ضد الرئيس السوداني عمر البشير، طفحت في الواقع السياسي المتكلس استعراضات حكومية جعلت من الحدث الذي كان متوقعا، مناسبة أخرى لتصرفات بهلوانية، طالما أتقنتها هذه الحكومة، في الكثير من المناسبات، وبطريقة تجعل من تراكم ردود الأفعال على الحدث ا مناسبة أخرى جديدة للتعاطي مع لعبة تسويف الوقت، وحشد التظاهرات، والخطب العصماء وغير ذلك من التدابير التي لا تعكس مأزق الحكومة فقط، وإنما أيضا مأزق جميع القوى السياسية السودانية بكل أطيافها.
فجأة تابع الجميع في الشهور الماضية مسلسل تحدي الرئيس البشير لقرار محكمة الجنايات الدولية عبر سفرياته الحدودية والجوية والبرية، وبصورة بدت أكثر متعة لا سيما في أجواء القمة العربية التي كانت في حاجة إلى بعض الأحداث الدراماتيكية مثل وصول البشير إلى مطار قطر في ظل أجواء من الترقب والحذر.
نسي الجميع أصل المشكلة وتلهى بتلك التداعيات الكاريكاتورية والانصرافية في ردود فعل البشير.
لقد كانت الحاجة إلى الاستعراض والتحدي هي الأصل الذي نسخ كل حيثيات مأساة دارفور والمأزق الخطير الذي يتهدد السودان في وجوده.
تفاصيل العبث تبدو أكثر عجبا في مآلات الواقع السياسي والكياني للسودان.
فما كشف عنه قرار المحكمة الجنائية لم يكن الستار الأخير عن هشاشة الوضع فحسب، بل كذلك كان يكشف عن خيبة أخرى في طريقة التعاطي مع تداعيات القرار بين مختلف القوى السياسية السودانية.
تبدو الصورة في الواقع السياسي أكثر من غريبة، لجهة المواقف والرؤى التي رشحت عن الأطراف السياسية المختلفة سواء في الحكومة برأسيها (المؤتمر الوطني ـ والحركة الشعبية) أو لجهة الأحزاب الكبرى لا سيما حزب الأمة بقيادة الصادق المهدي، وحزب المؤتمر الشعبي بقيادة حسن الترابي.
ففيما تباينت وجهات النظر ـ التي عادة ما تعود إلى خلافات نيفاشا المضمرة ـ بين رأسي الحكومة : المؤتمر الوطني والحركة الشعبية، رغم الافتراض الذي يستدعي الموقف الموحد من موقع الشراكة، كانت تلك التجاذبات بين شريكي الحكم بمثابة مؤشرات على موقف مختلف، حيال مأزق مصيري.
كما كان اختلاف المواقف أيضا يعكس رؤى دلت على مفارقات واضحة للحدود التي يمكن أن تبدو مشتركة وطبيعية بالنسبة لشريكين لا تكاد تجمع بين شراكتهما سوى القوة العارية وشروط الأمر الواقع التي أدت إلى توقيعهما اتفاق نيفاشا فقط لكونهما أقوى طرفين بين القوى السياسية.
وبما أن طبيعة التسوية التي قامت عليها اتفاقية نيفاشا كان طبيعة ثنائية بين حزبين مسنودة بفعل الأمر الواقع، وميزان القوى العسكرية، والتدخلات الخارجية التي بطبيعتها تقوم خصما على العجز الداخلي للقوى السياسية في حسم الأزمة ؛ فإن مثل هذه التسوية التي تمت في (نيفاشا) ـ مهما قيل عن دورها في وقف الحرب ـ لا يمكن أن تكون بديلا عن الحاجة إلى الإجماع الوطني في قضايا مصيرية من قبيل الوحدة بين شطري الوطن.
الاتفاق الذي تم في (نيفاشا) وبطبيعته الثنائية المستندة إلى قوتين عسكريتين (نظام الإنقاذ) و(الحركة الشعبية) لم ترد في بنوده فقرات مفصلة عن الحريات والتحول الديمقراطي. وهنا سنجد أن ذلك الاتفاق الذي حاول حسم قضايا مصيرية يستحيل حسمها إلا بإجماع القوى السياسية ـ وهذا ما يحتاج إلى مناخ ديمقراطي ـ قد جعل من تلك الاتفاقية بمثابة تفصيل خاص لرؤيتين مختلفتين تضمن للحزبين الحاكمين الحصول على الحصة الأكبر من تقاسم السلطة والثروة.
لكن ما لا يمكن إدراكه في مثل هذه التسويات التي تتصدى للقضايا المصيرية عبر رؤى أحادية بحكم إرادة القوة،إلا بعد زمن طويل ؛ هو أن هذه التسوية لا يمكن أن تصمد حتى في شروطها المتفق عليها بين الحزبين الكبيرين. فغياب الشراكة الوطنية للقوى الأخرى، وغياب الشفافية والديمقراطية في إدارة السلطة وتقسيم الثروة، والبنية الأوتقراطية لطبيعة الحزبين، كل ذلك سيجعل تفعيل بنود الاتفاقية أمر عسيرا، لا سيما عندما نتأمل الفروق والاختلافات الجوهرية المتناقضة تماما في الخلفيات الفكرية للحزبين (الخلفية الإسلاموية لنظام الإنقاذ) و(الخلفية العلمانية والعسكرية للحركة).
وهذا ما ظهر جليا خلال السنوات الأربع الماضية من عمر اتفاقية نيفاشا عبر التعثرات التي حالت دون تفعيل بعض البنود المهمة لا سيما في قضية منطقة (أبيي) الغنية بالبترول، وما نشأ حولها من خلفية النزاع بين حدود الشمال والجنوب بناء على رغبة كل واحد من الحزبين ضمها إلى حدوده.
لكن ومع تواتر الخروقات التي طالت بنود الاتفاقية لا سيما من طرف حزب المؤتمر الوطني، ومع ظهور نتائج الإحصاء السكاني التي حجبها المؤتمر الوطني زمنا طويلا، وأظهر نتائجها مؤخرا، بصورة كشفت عن بيانات إحصائية غريبة جعلت من نتائج ذلك الإحصاء القومي، ورقة للتوظيف من قبل حزب المؤتمر الوطني في الانتخابات التي ستجري بعد أقل من سنة، وبطريقة كشفت فيها إحدى تلك البيانات أن عدد سكان بلدة (هيا) الصحراوية الصغيرة، مساويا لثاني أكبر مدينة بعد الخرطوم (مدينة بورسودان) ؛ الأمر الذي جعل الحركة الشعبية تشكك في نزاهة الإحصاء السكاني، واحتجاجها على ذلك التصرف بنية توظيفه في المعركة الانتخابية القادمة لصالح حزب المؤتمر الوطني.
كل هذه الحيثيات التي لم تكن تبدو ظاهرة في الأجواء الاحتفالية أثناء عقد اتفاقية نيفاشا في عام 2005م بسبب الفرحة التي عمت الجميع نتيجة لوقف الحرب، أصبحت مؤخرا تجد لها أكثر من سبب للتصريحات الخطيرة التي أطلقها النائب الأول للرئيس البشير ورئيس الحركة الشعبية (سلفا كير) بإمكانية العودة إلى الحرب مرة أخرى إذا ما إضطرت الحركة إلى ذلك، كما تحدث عن تسليح جديد في صفوف الجيش الشعبي للحركة، وهي تصريحات تزامنت مع تصريحات أخرى للأمين العام للحركة الشعبية (باقان أموم) ونائبه (ياسر عرمان) في مقابل عودة أصوات من طرف بعض قادة المؤتمر الوطني إلى الدعوة لإعادة حشد جنود قوات الدفاع الشعبي (وهي المليشيات الحكومية التي أشعلت معارك الحرب في الجنوب في تسعينات القرن الماضي إبان سلطة البشير - الترابي).
وعلى خلفية هذه التصريحات تدخلت واشنطن مؤخرا عبر جهود مبعوث الرئيس أوباما إلى السودان (سكوت غراشن) لإدراكها خطورة الوضع التي يمكن أن ينتهي إلى حرب جديدة.
وهكذا فيما بدأت واشنطن هذه الأيام برعاية مفاوضات جديد على هامش القضايا العالقة بين شريكي نيفاشا، أصبحت محاولة للوصول إلى صيغة تسوية تضمن استمرار عملية الشراكة بموجب اتفاق (نيفاشا) أمرا عسير المنال في الوقت الراهن.
وبرغم عدم توصل الطرفين إلى تسوية القضايا العالقة في الاجتماع الأخير بواشنطن الذي حضره عدد من الداعمين الدوليين والإقليميين لاتفاقية (نيفاشا) إلا أن الاجتماع خرج بمواقف متباينة، الأمر الذي أدى إلى استئناف التفاوض فيما بعد، بصورة دورية شهرية في تلك القضايا بواشنطن.
ولقد وردت العديد من ردود الأفعال على اجتماعات واشنطن الجديدة بين شريكي نيفاشا، من طرف بعض القوى السياسية الرئيسية في السودان، لاسيما تصريحات السيد الصادق المهدي رئيس الوزراء المنتخب في آخر حكومة ديمقراطية قبيل انقلاب حكومة البشير عام 1989..
وعلى ضوء هذه التأجيلات التي تقوم فقط على لعبة تسويف الوقت من طرف المؤتمر الوطني، وعلى انتظار نتائج الاستفتاء حول تقرير المصير في العام 2011م من طرف الحركة ؛ سيظل الانسداد السياسي في السودان ليس فقط علامة على مأزق إدارة الأزمة السودانية فحسب ؛ بل أيضا دلالة على انسداد خطير في المصير الكياني لهذا البلد.
محمد جميل أحمد
التعليقات