يتحدث كثير من العراقيين في الحكومة والبرلمان والأحزاب الدينية الحاكمة سنية وشيعية عن أيام النصر والفخار التي ستشهد انسحاب الجيش الأمريكي من المدن العراقية!

بالطبع أن نصف كلامهم هو تظاهر،وحقيقته الباطنية معاكسة تماماً، والنصف الآخر يتراوح ما بين حديث السذاجة والغفلة والبهجة المرتكزة على حسن النوايا!
وجميع هؤلاء في واد والحقيقة في واد آخر!

فمن المعروف أن القوات التي صار انسحابها نصراً، كان قدومها واحتلالها للعراق،وإسقاطها للنظام القديم فيه نصراً أيضاً، وبقوتها الحاسمة وليس بعضلاتهم الوطنية حكم الحاكمون اليوم من زعماء شيعة وسنة وكرد وعرب وتركمان! فكيف تصير هذه القوات في لحظة صانعة للنصر؟ وفي لحظة أخرى يشكل وجودها مصدر خزي وعار ينبغي أن يزال ليحل مكانه الشرف والفخر والمجد؟

أية لحظة تاريخية يجب أن تحتسب؟ وأية رجال ينبغي أن نصدق ونثق بقياداتهم؟

لا يوجد منطق إنساني منصف يقر بشرعية تحكم قوة أجنبية بمقدرات بلد آخر،وحتى إذا وجدت أسباب شرعية إنسانية لذلك مشفوعة بقرارات دولية، فلا بد من وقت محدد لوجودها ومن ميعاد لخروجها جزئيا أو كلياً!

وآنذاك يكون مصدر الفخار الوطني لا خروج هذه القوات المساعدة والمعينة بفاعلية هائلة، بل هو نضح الحالة الوطنية واكتمالها واستغنائها عن المساعدة العسكرية الأجنبية!

وآنذاك ينبغي شكر المساعدين،واحترامهم وادخارهم كأصدقاء وحلفاء لمستقبل زاخر بالعواصف والانهيارات،وتمجيد من استفاد من المساعدة وطورها لتغدو حالة وطنية راسخة!

تقول الحكومة العراقية اليوم أن القوات الأمنية أضحت قادرة على تحقيق هذا النصر الذي لم يتحدد معناه وجوهره حتى الآن،وإذا افترضنا أن القوات الأمنية أضحت قادرة على مسك الأرض التي سيخليها الجنود الأمريكان ومعداتهم المتطورة، وهو أمر مشكوك فيه رغم الانتصارات الجدية التي حققها الجنود والشرطة العراقيون ببسالة وإخلاص، فإن الأمر لا يمكن أن ينحصر بهذه المعادلة الآلية: جندي عراقي مكان جندي أمريكي، ومدرعة عراقية مكان مدرعة عراقية!

إن جوهر الصراع ومساحته الواسعة هو سياسي ويتعلق بالمصالح الأساسية والحيوية لأطراف كبيرة مهمة جداً على الأرض.

ورغم أنها تتصارع في الخفاء والعلن منذ سقوط النظام السابق،وقد نزفت كثيراً،لكنها ما تزال قوية محملة بالغيظ والكراهية، وقادرة على أن تؤذي بعضها البعض بشراسة ووحشية!

الحكومة والبرلمان وأحزابهما يتحدثون عن متانة الوضع العسكري ( جيش وشرطة وقوات أخرى،محسوب فيها أيضا ميليشياتهم على اختلاف مسمياتها ) ولكنهم لا يجرأون على الحديث عن متانة الوضع السياسي! بل أنهم يتجاهلونه مذكرين الناس بألف نعامة تقف بمواجهة الصيادين!

فإذا تجاوزنا حديث المصالحة الوطنية الذي أضحى مستهلكاً، وتحدثنا عن إمكانات الانسجام والتناغم حتى ولو عن بعد، نجد أن الوضع السياسي اليوم هو أكثر هشاشة من قبل!
بل يمكن القول أن اقتراب الانسحاب الأمريكي من العراق جزئياً أو كلياً أطلق العنان للصراعات الخفية والعلنية لتشتد، حيث الكل يريد أن يعيد حساباته وجرد حصيلته وتحقيق مواقع أقدام، ووجود أكبر على الأرض !

فالعلاقة بين زعماء السنة والشيعة ليست افضل حالاً عن ذي قبل، بل صارت تأخذ أبعاداً دموية وعلى مستويات شعبية ونخبوية!

والعلاقة بين زعماء العرب وزعماء الكرد والتركمان تشهد انحلالاً وفتوراً واضحاً،وهناك توقعات بصراعات أكثر خطورة!

والوضع في إيران سيعكس جميع تفاصل تطوراته على الوضع في العراق، وهي ليست مريحة ودون تكاليف عراقية دموية على كل حال!

وإذا أضفنا إلى كل ذلك تزامن انسحاب الجيش الأمريكي مع قرب انطلاق حملة الانتخابات العامة في البلاد أدركنا حجم التداعيات التي ستصاحب هذا الانسحاب،وهذا قد يجعل احتفالات النصر مشوبة بالكثير من المنغصات وربما الصدمات القاسية!

بالطبع لا يمكن مطالبة الحكومة بان تعمل على تأجيل هذا الانسحاب، ولو من مدن دون أخرى، فزخم الإجراءات الكبيرة في العراق ما يزال محكوماً بمزاج مهووس مندفع لا يخلو من طيش ويجد مبرراته في مزايدات ومفاهيم مهلهلة عن الوطنية والدين والقومية!

كما إن الأمر لم يعد كما في عهد بوش يحتسب فيه العامل الوطني والإنساني العراقي، إنه اليوم في عهد أوباماً القائل بخطأ هذه الحرب، والمقتنع (من الغنيمة بالإياب)!

لذا لا مناص أمام الحكومة سوى مواجهة متطلبات تمتين الوضع السياسي مع الوضع الأمني!

ولكن حديث الأحزاب الدينية سنية وشيعية وكردية عن ائتلافات طائفية وقومية جديدة يجعل المراقب يرى أن زعماء هذه المرحلة لا يتعضون من نكبات ومصائب الواقع ولا يقرأون الظواهر السياسية،وهذا ما يجعل الانسحاب الأمريكي نقمة وليس نعمة،أو في الأقل ليس مناسبة لدق طبول النصر!

إبراهيم أحمد