إتبع المترفون من المشركين مجموعة من الوسائل جعلت أتباعهم لا يتوصلون إلى معرفة مفاهيم القرآن الكريم، وفي مقدمة هذه الوسائل توجيه الأمر لهم بالإعراض عن سماع الآيات إبان نزولها، وهذا النهج لايعني أنه ولد عبثاً أو جاء نتيجة الجهل الذي في مخيلة بعض من حقق في هذا المجال، وإنما أثبت بواسطة دراسة متقنة أعدها زعماء الفتنة لأتباعهم حتى يتم لهم السيطرة على الأوضاع التي ألفوها دون التفريط المتوقع عند حصول النتائج المعاكسة، علماً أن الطرفين أهل فصاحة ولديهم القدرة على فهم الكلام البليغ حين يطرق أسماعهم.
ولهذا فقد ذكر الله تعالى هذا النهج الذي كان يلقن من قبل كبار المشركين لمن سار على طريقهم حيث قال جل شأنه: (وقال الذين كفروا لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون) فصلت 26. وعند تأمل هذا النهج في متفرقات القرآن الكريم يظهر أنه أشبه بالسنة المتداولة بين الأمم السابقة، كما أشار تعالى إلى ذلك في معرض حديثه عن قوم نوح حكاية عنه بقوله: (وإني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكباراً) نوح 7.
وهذا الإعراض عن آيات الله تعالى لايتعدى الحدود التقليدية التي تصدر من المشركين الذين يتلقون دعوة الرسل مصحوبة بالآيات الظاهرة والتي ستكون حجة عليهم، وبالاضافة إلى هذه الآيات البينة هناك آيات ثانية أكثر غموضاً من الأولى وهي خارجة عن النظام التقليدي الذي جاء به الرسل، وبطبيعة الحال فإن آثار هذه الآيات قد يخفى على بعض الناس دون البعض الآخر، وهي موجودة في السموات والأرض وكذلك في الأنفس وصولاً إلى الكائنات الأخرى، كما بين تعالى ذلك بقوله: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت 53. وكذلك قوله: (وفي أنفسكم أفلا تبصرون) الذاريات 21. وقوله: (أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت) الغاشية 17.
ومن هنا فإن الله تعالى قد وصف الذين أعرضوا عن آياته بأبلغ أوصاف الظلم حيث قال في الذين ذكّروا بهذه الآيات وأعرضوا عنها مباشرة: (ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه فأعرض عنها) الكهف 57. أما الصنف الآخر الذين ذكّروا بهذه الآيات ولم يعرضوا عنها إلا بعد تأملهم ومرورهم عليها فقد قال تعالى فيهم: (ومن أظلم ممن ذكّر بآيات ربه ثم أعرض عنها) السجدة 22. والنكتة ظاهرة في [ثم] التي تفيد التراخي فتأمل.
فإن قيل: ما السبب الذي لأجله بين القرآن الكريم هذه الآيات المتمثلة في الآفاق والأنفس والكائنات الأخرى؟ أقول: إن القرآن الكريم هو كتاب هداية وهذه الهداية لايمكن الحصول عليها عن طريق الجهل أو الضلال وإنما بالتأمل الذي يفضي بالإنسان إلى إيجاد الآثار الناتجة عن طريق هذه الآيات حتى يصل إلى نتائجها وكشف المهمة التي خلقت من أجلها، وهذا هو الأصل الذي بينه تعالى وعُد من التنزيل التقليدي أو الإنزال الثاني الذي ذكره في قوله: (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس......الآية) الحديد 25. وكذلك قوله: (وأنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج) الزمر 6.
وقد جعل تعالى هذه الآيات في متناول جميع خلقه، أما من يريد أن يعطل الدلائل التي ترشد إليها فهو لا يعطل إلا النتائج التي يمتنع ظهورها أمامه وليس حقائقها التي لابد أن تظهر لغيره من الناس الذين يعملون جهدهم للوصول إلى ما يستفاد من هذه الآيات. ولهذا فقد ذم القرآن الكريم المعطلة ووصفهم بالأنعام وزاد في ذلك إضراباً كما في قوله تعالى: (ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لايفقهون بها ولهم أعين لايبصرون بها ولهم آذان لايسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون) الأعراف 179. وكذلك قوله: (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلاً) الفرقان 44.
وقد وبخ تعالى هذا الصنف من الناس الذين همهم التعطيل بقوله: (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثاً وأنكم إلينا لا ترجعون) المؤمنون 115. ثم أخذ بالاستدراج المبين في الآيات الآفاقية والأنفسية كما في قوله: (وجعلنا السماء سقفاً محفوظاً وهم عن آياتها معرضون) الأنبياء 23. وقوله: (بل آتيناهم بذكرهم فهم عن ذكرهم معرضون) المؤمنون 71. ثم جمع تعالى هذه الآيات بقوله: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يوسف 105. وفي الآية مجموعة من المباحث أعرض لها:
المبحث الأول: لايمكن أن تكون القوانين التي اكتشفها العلماء بدعاً في اضافاتهم العلمية بل لابد من وجودها أساساً، إلا أن كثيراً من الناس يمرون عليها وهم عنها معرضون، فالصنف الأول الذين عملوا جهدهم في الاكتشاف والتأمل كانت لديهم القدرة على الوصول إلى الاكتشافات التي هي في متناول الصنف الثاني الذي مر عليها دون أن يراها أو يلمس آثارها، فما يقوم به المكتشف يعد إيضاحاً لآية من آيات الكون التي أوجدها الله تعالى ثم جعل العقل دليلاً عليها حتى يتمكن الإنسان من الحصول عليها بواسطة القوانين الطبيعية التي سخرها الحق تبارك وتعالى رغم إعراض البعض عن هذه المهمة التي كأن البعض الآخر قد خلق من أجلها، وعند البحث في هذا الأصل نجد أن الله تعالى قد سخر ما في السموات والأرض للإنسان، كما في قوله: (وسخر لكم ما في السموات والأرض جميعاً منه إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) الجاثية 13. ثم جعل تعالى العلم برهاناً لحصول الفائدة من هذا التسخير، كما في قوله: (علم الإنسان ما لم يعلم) العلق 5. وكذلك قوله: (ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون) البقرة 151. وقوله تعالى: (ويعلمكم الله والله بكل شيء عليم) البقرة 282. وبهذا تكون النتائج قد جمعت في قوله: (والله خلقكم وما تعملون) الصافات 96.
المبحث الثاني: معنى (كأين) كم والأصل فيها (أي) فدخلت عليها الكاف للتفخيم بالإبهام، وتقديره كالعدد، فهو أبهم من نفس العدد، لما فيه من التكثير والتفخيم، وغلبت على (كأين) (من) دون (كم) لأن (كأين) أشد إبهاماً فاحتاجت إلى (من) لتدل على أن ما يذكر بعدها تفسير لها. ذكر ذلك مجموعة من المفسرين واللفظ للطوسي، وأضاف في تبيانه: أخبر الله تعالى أن في خلق السموات والأرض آيات، ودلالات كثيرة تدل على أن لها صانعاً صنعها، ومدبراً دبرها، وعلى صفاته، وعلمه، وحكمته، وأنه لا يشبه شيئاً ولا يشبهه شيء. ثم ينقل عن الحسن البصري قوله: من الآيات إهلاك من هلك من الأمم الماضية، يعرضون عن الاستدلال بها عليه، وعلى ما يدلهم عليه من توحيده وحكمته، مع مشاهدتهم لها ومرورهم عليها. انتهى.
المبحث الثالث: يقول الشعراوي في خواطره: عن الرجل الذي جلس ليطهو في قدر، ثم رأى غطاء القدر يعلو ففكر وتساءل: لماذا يعلو غطاء القدر؟ ولم يعرض الرجل عن تأمل ذلك، واستنبط حقيقة تحول الماء إلى بخار واستطاع عن طريق ذلك أن يكتشف أن الماء حين يتبخر يتمدد، ويحتاج إلى حيز أكبر من الحيز الذي كان فيه قبل التمدد، وكان هذا التمدد وراء اكتشاف طاقة البخار التي عملت بها البواخر والقطارات، وبدأ عصر سمي عصر البخار. ثم يضيف الشعراوي: وهكذا نرى أن الحق سبحانه لا يضن على الكافر بما يفيد العالَم ما دام يتأمل ظواهر الكون، ويستنبط منها ما يفيد البشرية. إذن فقوله تعالى: (وكأين من آية في السموات والأرض يمرون عليها وهم عنها معرضون) يوسف 105. إن أردتها وسيلة للإيمان بإله فهي تقودك للإيمان وإن أردتها لفائدة الدنيا فالحق لم يبخل على كافر بأن يعطيه ما يبذل من جهد. فكل المطلوب ألا تمر على آيات الله وأنت معرض عنها، بل على الإنسان أن يقبل إقبال الدارس، إما لتنتهي إلى قضية إيمانية تثري حياتك، وتعطيك حياة لا نهاية لها وهي حياة الآخرة، أو تسعد حياتك وحياة غيرك، بأن تبتكر أشياء تفيدك وتفيد البشرية. انتهى. فإن قيل: ماذا تعني بالتنزيل التقليدي الذي ورد في المقال؟ أقول: يعتبر هذا النوع من التنزيل تقليدياً نسبة للمتلقي، أما في أصل التنزيل فلا يعتبر كذلك، وهذا ينطبق على النظام التقليدي والحدود التقليدية التي أشرت لها فتأمل.
عبدالله بدر إسكندر المالكي
التعليقات