من البديهيات أن العقل إذا اطر و وضع في علبة السردين لابد ان يزداد تأزما وضحالة، حيث لا يمكنه التحرك و الابداع والتمدد في أي اتجاه، لمعرفة العوالم الاخرى، وجذورها و تجاربها و ثقافاتها. و هذا التموضع والتقوقع في العلبة يخل بالعقل و يصبح عقلا هلاميا وليس كالذي منحه الخالق للبشر وميزهم على غيرهم من المخلوقات، وهو من اسمى و أكبر النعم التي منحنا اياها جل جلاله، لكي نستخدمه و نتمتع به و نعمر به الارض، و نتآخى مع بعضنا البعض لكي ترتقي المجتمعات البشرية الى الافضل لذا نزلت الكتب من السماء على الارض لتأمر رسل السماء صلوات الله عليهم لنشر القيم في العقول البشرية النابضة بالحياة و المنعتقة من علب السردين و من أي قمقم، بيد ان العقول التي دفنت نفسها داخل علب السردين قد قتلت فيها روح الابداع و البحث و التقصي اذ اكتفت بانابة افراد يكادوا ان يرقوا في نظرها الى مستوى التقديس لتدفع عنهم الضراء و تأتي اليهم بالسراء بإذن الله ولسان حالهم يقول quot;اذهب انت وربك فقاتلا انا هاهنا قاعدونquot;.


و ما نسمعه ايضا من داخل علبة السردين، التي تتغذى منه تلك العقول من جانب و تتآكل من جانب آخر، لم نسمع منها غيرضجيج الطنين و الندب و الزفير و الصفير و كأنها تردد النشيد التالي ( ان هذا السردين هو احلى و اطعم و أرقى نكهة من الشهد لانه (جناوي) و أي جزء من جزيئات ايقاعاته هو أمر مقدس و خلافها امر مدنس). بل قد تحمل في طياتها فيروسات قاتلة للقيم والعدالة و الاخلاق و لاصلاح المجتمعات.


و هذه العقول الجامدة في علب السردين تعتبر ان هذا الامر يغنيها عن متاعب البحث و التفكير و التقصي عن المعارف الأخرى، والمعلوماتي الاخرى، والحقائق الاخرى والثقافات الاخرى. اذن فإنها لا تعنيها من بعيد او من قريب بما يحدث من معطيات و تحولات و متغيرات في هذه القرية او تلك على هذه الكرة الارضية سواءا كان سلبا ام ايجابا، طالما ان ثمة اناس اكفاء من كوكب اخر تلحن لها داخل العلبة و تنظم ايقاعاتها الرومانسية العذبة، فأولئك هم الذين يفكرون نيابة عنها في السراء والضراء. بل وهم الذين سيأتون لها عاجلا ام اجلا بحلول لمشاكلها و همومها و عذاباتها و قضاياها على اطباق من ذهب! والخلل هنا لا يكمن في عقول عرابي هذه الايقاعات الرومانسية (الجناوية) او في داخل علب السردين كلا و انما يكمن في تلك العقول المسكينة التي رضيت لنفسها ان تخاصم و تتشنج ضد ابناء مدنهم و قراهم وابناء جلدتهم اكراما لهذا و ذاك من الاجانب ndash; مع احترامنا وتقديرنا الكبيرين لأولئك - كما ورضيت لنفسها ان تدخل علبة السردين طوعا كردة فعل على العذابات و الاهانات و الاقصاء والتكفير التي تمارس عليهم لحد اليوم وقد دخلوا ذلك القمقم و أقفلوه عليهم باحكام.


لا تريد هذه العقول ان ترى او ان تعترف بعوالم الوجود الأخرى من البشر و الدخول في علبة السردين ليس كمثل الخروج منه فالخروج منه في غاية الصعوبة فلو تعلمت هذه العقول من تجارب الامم و بعض دروس التاريخ القديم الغابر ابتداءا من الدولة الاموية مرورا بالبابوية الاستعبادية الكنسية في اوروبا في القرون الوسطى و الى اطلالة القرن العشرين وصولا الى اليوم، لادركت هي وامثالها ان الانغلاق على ثقافات العوالم الاخرى، و الاتكالية على الغير في حل مشاكلها و عذاباتها، وعلى ان البلسم الشافي يكمن في ايقاعات هذه اللعبة او تلك و تلحيناتها، و زرع الكراهية بين الطوائف الاخرى هو السبب و المرض الرئيسي في تعاسة و بؤس شعوب هذه الامة الاسلامية عموما، و الامة العربية خصوصا و هزائمها العسكرية و الثقافية و سبب شروخها و تفككها و انغلاق بعضها ضد الاخر.


بمعنى ان كل فريق يزعم بأنه صاحب الحقيقة المطلقة، ومن هذا المبدأ ومن هذا المنطلق يجب على الاخرين ان يتبعوه او يقتدوا بكل خطواته. ان طنين هذه العلبة من السردين و تلك قد الحق الاذى بسمع هذه الامة و جسدها بكامله. و هذا ما تعانيه الامة حتى اليوم من تعسف و تمييز و تكفير و تمزق. كما و ان الاستهزاء و الاستهانة ببعضها البعض هو سر تخلف هذه الامة الى مدى غير منظور.


و على أي حال: الدنيا لوحة فسيفسائية نتعلم منها وليس من علب السردين فقط.


باقر علي الشماسي

السعودية - القطيف