بلغ السيل الزبى... منذ عدة أسابيع، والرئيس السابق لمحكمة العدل الدولية في لاهاي، فريقه والبلد الذي رشحه يواجهون جبروتا من الترهيب والتجريح و الابتزاز من قبل فريق مرشح آخر فرضته العصبية القاهرة، و روّجت له الميوعة و المساومات، و حصّنه التشهير و التهديد.


الطريق إلى المؤسسة الدولية العريقة للفكر و الثقافة لا ينبغي أن يمر بالتآمر ضد منافس ما. و محاولة إجهاض ترشحه تجعل من مخاض اليونسكو مستنقعا يلوث سمعة العرب مجددا و يهدد اليونسكو بأن تصبح غريقة الأهواء الطاغية.


هل جفّ الحياء و تبخّر الذكاء ليعتقد البعض أن الجري وراء رئاسة منظمة تتطلب الأخلاق والنزاهة يتوافق مع ممارسة القمع و الضغوط ثم ممارسة السقوط في المساومات التي تشكل خطرا كبيرا على القيم الأساسية لليونسكو. المساومة التي وسخّت هذه الحملة بروح ميونخ : غض البصر عن النداء الأحمق لحرق بعض الكتب ضد غض البصر أو إغلاق العيون على إغلاق السجن الرهيب حول شعب يحترق. ولكن إلى متى سيجبر العرب على مبايعة مرشح يبيع قضايانا العربية؟


هل يمكن الوصول إلى قيادة اليونسكو، الذي ينص ميثاقها التأسيسي أن مهمتهاquot; ضمان التنوع المثمر للثقافاتquot; و quot;تسهيل حرية تدفق الأفكار بالكلمة و الصورة quot;، بعد تقزيم و تأزيم ثقافة دولة عظيمة بتاريخها، والسماح بهروب العقول والكنوز الأثرية منها؟ بعد ممارسة العنصرية الثقافية؟ بعد تأسيس ثقافة البلاط، أي حظيرة من الدجالين المدّاحين، من المشعوذين المداهنين؛ من سماسرة الرياء و مرتزقة المديح؟ الثقافة ليست بوقا للغزل و اليونسكو ليست سوقا للغرور.


اليونسكو هي الرهان على العقل و ليس على النزوات. اليونسكو هي احترام الثقافات و الشعوب، بدءا باحترام كل لشعبه و لنفسه. إدارة الثقافة ليست الرقص و القص، ليست المنع والقمع، ليست التشدق والفكاهة و التهريج؛ و الترويج لليونسكو ليس القبلات واللعنات، ليس الالتواءات و الانحناءات، ليس الصيحات العنترية و الصفقات السرية، ليس المزايدات الكلامية و التنازلات الوطنية.
المناصب الدولية ليست حلى لتزيين النظام و لا جوائزا لحاشيته. إدارة هذه المؤسسة والهيئات الدولية ليست حكرا على جنسية و ليست مرآة لنرجسية. الوجاهة ليست حصرا على جهة. العبقرية لم تتوقف على حدود دولة معينة و الأهلية ليست ماركة مسجلة. الأمة الإسلامية ليس لها ولي. العالم العربي ليس قاصرا. الثقافة تضيء من الدوحة إلى مراكش. الجامعات تزدهر من أبو ظبي إلى تونس. النخب العربية تبدع من مسقط إلى مدن المنفى. الديمقراطية تتقدم من الكويت إلى نواقشط. والأديان يتعايشون بسلام في دمشق، ويتناقشون بجدية في الرياض.


اليونسكو تعني التنوع. اليونسكو هي تكريم التعددية الفكرية وليس تحريم النقد و تجريم المعارضة. هل يمكن تعزيز أهمية و حيوية الحوار الدولي بعد ممارسة التمييز الثقافي؟ في كل بلد عربي يمكن ان نجد العديد من المرشحين المحتملين الذين يتمتعون بالكفاءة والشرعية لإدارة أي مؤسسة دولية. لماذا نتحاشى الأكفاء الشرفاء و نفضل عليهم فرسان الشعارات و عباقرة التنويم الذين نبعثهم فاتحين، فيمكثون أسرى ضعفاء، ثم يعودون موتى متكبرين.


لا مكان في اليونسكو لسياسة الاحتكار و لثقافة الاحتقار. اليونسكو ندخلها لنرجع امة العلم و الابتكار. لنصبح أعلى امة في براءات الاختراع و ليس أقوى امة في تزييف أي اقتراع. الانتخاب هو الطريق الوحيد لليونسكو التي يجب أن تكون حصنا لمحاربة ظلام الجهل و ظلم التخلف و ليس حصانا للتباهي و التلاهي. اليونسكو تحتاج إلى رؤية ثاقبة وإرادة واثقة، و امتنا تحتاج إلى العزة و العزيمة. امتنا نائمة على نور و اليونسكو منارة. و إذا اختزلناها في مناورة للتربع على عرشها و لتفريخ الفراغ في عشها فاننا سنكرس صيحة المتنبي: يا أمة ضحكت من جهلها الأمم.


من المحيط إلى الخليج، وطننا العربي بما فيه مصر، يزخر برجال ونساء تملؤهم المهارات و الكفاءات والخبرة و الامتياز و الإخلاص. أصوات هؤلاء كمرشحين محتملين ليست عورة، والطريق إلى قمة أي هرم دولي ليس حراما على الآخرين. العالم العربي يتطلع إلى مستقبل سعيد شريف و ليس إلى زعامات الأرشيف. الثقافة ليست مومياء واليونسكو ليست تابوتا.


التنازل عن قلعة الثقافة لرواد الثقافة الخفيفة، التخلي عن ثكنة رجال الإطفاء لمن تستهويهم أعواد الثقاب، سيعقد مصير منظمة اليونسكو بمصير مكتبة الإسكندرية، و سيلد من رمادها أبو هول الجهل والكراهية و أهوال حروب جديدة. لا ينبغي لأصحاب الضمائر و المبادئ أن يتفرجوا على نهاية اليونسكو أو أن يتركوا التفاهمات السياسوية و التفاهات التشكيلية تحجب خطورة القضية التي قد تزيد العالم اشتعالا.


اليونسكو تعني الحرية. ولا يمكننا أن نأمل في أن يعالج العالم العربي علله ويدفن أحقاده و إحباطه ويعيد اختراع حضارته إذا كانت الحرية ممنوعة، وإذا كانت الثقافة هي السخافة. امتنا تتخبط بين الهامش والهشيم، بين الحضيض و الهاوية، بين الزحف و السقوط، بين الكساد الفكري و الفساد الإداري. أمامنا فرصة تاريخية، لنستعمل هذه المؤسسة الأممية ليس فقط منبرا، بل معبرا لإدخال العالمين العربي و الإسلامي في الألفية الثالثة. جسرا للتواصل بيننا و محركا للإصلاح التربوي و التعليمي، الفكري و الإعلامي. لنستثمر اليونسكو مصنعا لنا مادامت أوطاننا منجما أو منبعا لطاقات إنسانية هائلة.


اليونسكو تعني التعددية. الثقافة ليست هرجا و التعددية ليست حرجا بل صورة طبيعية و حتمية الحرية؛ لذلك لا يمكن ادعاء ممارسة الديمقراطية و التشاور بعد محاولة اغتيال أبسط شرط لممارسة حرية الاختيار من جانب الدول الأعضاء لليونسكو، و هو تعددية الترشحات.


المرشح بيجاوي مرشح quot;خارج المكانquot; لكنه صاحب مكانة دولية كبيرة. شخصية عالمية مرموقة و محترمة، وهو يعرف الدار والعالم. يتمتع بخبرة و حنكة واسعة وثقافة عابرة للحدود. العلاقات الدولية اختصاصه. الحوار خصوصيته. التعليم همّه. الشرف معدنه والعمل مصنعه. يسكنه الضمير الثوري و يحركه المصير الإنساني، خاصة العربي. حالم بالنهضة العربية و واعي بحجم الأزمات و العقبات. غيور على النزاهة، حريص على الحكم الرشيد. يستشعر مسؤولياته بجدية ويستشرف المستقبل بحكمة و 'يحكم' في اطار مسؤولياته بالمهنية و الديمقراطية.


كان وزير الجزائر للعدل ثم للشؤون الخارجية. سفير اليونسكو لمدة 9 سنوات، والسفير والممثل الدائم لدى الأمم المتحدة لمدة 3 سنوات، ثم قاضيا فرئيسا لمحكمة العدل الدولية في لاهاي حيث بقي ما يقرب من عقدين. حريص على صورة اليونسكو و احرص على التنمية الإنسانية في العالم العربي. قدّم ترشيحه ليس فقط حتى لا يضيع دور العالم العربي في قيادة اليونسكو بل لكي تلعب هذه المؤسسة دورا كبيرا لرفع تحديات التعليم والتقدم في أوطاننا و في دول العالم الثالث.


ترشيحه لإدارة اليونسكو يتوافق مع روح مؤسسيها الذين كانوا يحلمون بمنظمة دولية مستقلة عن الدول التي تشكلها. بيجاوي صاحب الجنسية الجزائرية، رشّحه رئيس دولة من جنسية أخرى، لكن تجمعهما نفس المبادئ الإنسانية؛ وهذه دلالة على القيمة العالية لهذا الترشح. (صاحب الجلالة الملك سيهانوك) كان لمدة طويلة سفيرا لكمبوديا لدى اليونسكو مثلما مارس بيجاوي مهام سفير بلاده لدى اليونسكو، لمدة تسع سنوات، من 1971 الى 1979. وقبل ذلك بكثير، وعمره 25 سنة، تناولت شهادته للدكتوراه في القانون الموظفين الدوليين لليونسكو.


اليونسكو نشرت و ووزعت العديد من كتب و مقالات بيجاوي الذي صاغ الاتفاقية الشهيرة للمحافظة على التراث الثقافي غير المادي في تشرين الأول / أكتوبر 2003. كما انه تولى مهام رئاسة الجنة المالية والإدارية اليونسكو، ثم انتخب رئيسا للجنة القانونية. لذلك يشعر بيجاوي أن لليونسكو دينا علبه و أن علبه العمل للمحافظة على هيبتها وتنمية دورها في العالم.


القوم الذين كسروا الإجماع العربي في عام 1999 م يتهمون بيجاوي بكسر أسطورة هذا quot;الإجماعquot;. يجب إذا التذكير أن ترشيح مصر التي لم تكن موضع إجماع عربي. و أن المرشحين العرب كانوا أربعة: مغربي و مصري وجزائري وعماني (حسب الترتيب الأبجدي لأسمائهم). بعد تدخل رئيس بلاد الفراعنة، ضحّى سلطان وملك فاضلين بمرشحيهما. بيجاوي رفض الرضوخ. قال انه يفضل المقاومة التي كونته في شبابه على المساومة التي لم يمارسها أبدا في حياته المهنية الطويلة.


بدلا من طاغوت عربي، اقترح تصويت كل العرب. بدلا من تبديل التعددية بالأحادية قهرا اقترح تبادل الآراء بين المرشحين جهرا. لذاك اقترح بيجاوي لزواره تنظيم أوليات حيث يسمح للمرشحين عرض مشاريعهم أو رؤيتهم إلى مندوبي الجامعة العربية الذين يصوتون بعدهاquot;سرياquot;. و ينسحب الجميع بكرامة و بتعاضد لصالح الفائز بالإجماع أو بالأغلبية.


هذه منافسة و ليست انقلابا. تقديم روسيا لمرشح جديد ليس طعنة. المرشحة البلغارية المحترمة عندما أعلنت أن الدور أيضا لأوروبا الشرقية لا تستحق اللعنة. جمهوريتا تنزانيا والبنين اللتين رشحتا مواطنين بعد و رغم إعلان الإجماع الإفريقي، وجنوب إفريقيا بدعمها احديهما، ليسوا خونة. بل هذا دليل على أن الحرية تتزايد في القارة السمراء التي تستحق المزيد من التقدير.


الكثير من المثقفين والسفراء، و كثير منهم عرب، يقدمون بشكل شبه يومي، التعاطف والتأييد للسيد بيجاوي الذي يعتبرونه الأنسب لرفع التحديات التي تواجهها المنظمة و العالم. التحدي الأول الذي سيواجهه أثناء فترة ولايته الانتقالية إذا تم انتخابه هو منع الأزمة المالية العالمية من زعزعة برامج اليونسكو. لذلك سيعمل ان شاء الله على تعزيز قطاع التعليم، زيادة موارده وتجديد أساليبه. على مواصلة الإصلاحات التي تقوم بها الإدارة الحالية، تقديم نفس جديد و المزيد من السيولة الإدارية و مضاعفة السيولة المالية لهذه المنظمة. و إضعاف ضغط المصالح السياسية والمالية التي تبذر جهود المؤسسة و تشوه صورتها.


كما سيعمل بإذن الله و معونة المثقفين و الرسميين العرب و مع كل الأطراف والأطياف من اجل إنارة كل الدول و كل الشعوب بالعلم و المعرفة. المهمة الأهم هي شن حرب ضارية ضدا لأمية و مكافحة الجهل. جعل الكتاب في قلب المجتمع و المثقفين تاجه. تقديس التفكير و تكريس الحوار. التغلب على الهيمنة الثقافية، والانغلاق الفكري وصدام الحضارات.


كما يدعونا جميعا لاستثمار ولايته من اجل توطيد دعائم هذه المؤسسة ووضع الأسس و المقومات لكي تصبح باريس قبلة المثقفين والعلماء وزعماء العالم خلال انعقاد المؤتمر العام لليونسكو كل سنتين. حتى تعلو مكانة اليونسكو إلى مستوى منظمة الأمم المتحدة، ويعملان سويا و بنفس الإمكانيات من أجل السلام والازدهار في العالم.

فريد حنّاش

مدير حملة المرشح بيجاوي لليونسكو