في كتابي (دولة الإذاعة) الصادر عام 2002، وفي معرض استعراض أهم حكايات طفولتي مع صدام حسين، أشرت إلى أنه حاول اغتيال (كاكا) عزيز المدرس الكردي في ثانوية تكريت، عام 1956.

وكان عزيز شاباً وسيماً ولكن شديد البأس، متوسط القامة يتمتع بجسد قوي. وكان من عادته، لإظهار حزمه وشدته، أن يختار أحدنا قبل أن يباشر درسه، فينهال عليه ضرباً، حتى لو لم يكن هناك سبب كافٍ للعقاب.

وفي أحد الأيام اختار صدام ولطمه على وجهه لطمتين بكفه، وعلى ظهره لسعتين من عصا يحملها معه باستمرار. تحمل صدام الضربات بصمت. وسار الدرس بعد ذلك بهدوء، إلى أن دق جرس الاستراحة. تجمعنا ساخرين حول صدام، هازئين منه ومن بطولاته المزعومة ومن صمته على ما ناله من المدرس عزيز. لكنه ظل صامتا ولم يجب بشيء.

وعلم مدير الثانوية خليل حـَـمَّد، وهو من أهالي تكريت ويعرف أهلها خير المعرفة، فخاف من العاقبة، وشرح للمدرس عزيز خطورة أهل العوجا، ورجاه أن يتدارك الأمر بسرعة. وبالفعل استدعى المدير صدام ولاطفـه ورجاه أن يعتذر للمدرس، حتى وهو غير مذنب، إكراما لخاطر المدير، ولكي ينتهي الموضوع. وبالفعل أقبل صدام على عزيز معتذراً بأدب جم، وظن الجميع أن الأمر قد انتهى عند هذا الحد. يومها سخرنا من صدام وعيرناه بجبنه وليس بقبوله الإهانة فقط بل الاعتذار من المدرس.

كان المدرس عزيز وأخوه (بهزاد)، وكان في عمرنا وأحد زملائنا في الصف الثاني المتوسط، يسكنان في منزل متواضع يقع في آخر أطراف المدينة، في مواجهة الثانوية. وكانت المنطقة غير آهلة ومظلمة في الليل.

في اليوم التالي علمنا بأن أحداً جاء راكباً على فرس وطرق باب كاكا عزيز، وحين فتح بهزاد الباب أطلق الطارق عليه عياراً نارياً وهرب. وعلمنا أيضا بأن الرصاصة أصابته في ساقه. حمل كاكا عزيز أخاه إلى المستوصف لإسعافه، ثم ذهب إلى الشرطة واتهم صدام بالجريمة. وحين وصل أفراد الشرطة إلى منزل خالة صدام (ليلى الطلفاح)، حيث كان يقيم في تلك الأيام، لم يجدوا الفرس ولا البندقية، وكان صدام نائما في سلام. ولهذا السبب، ولأن المنزل يقع في حي قديم ذي أزقة ضيقة لا تتسع لمرور فرس بأي حال من الأحوال، فقد سُجلت القضية ضد مجهول. عندها حزم كاكا عزيز حقائبه ورحل.

بعد ذلك بمدة، أخبرني صدام بأنه في تلك الليلة، بعد أن أطلق النار على بهزاد، أعاد الفرس والبندقية إلى العوجا مـع (دحّام) ابن خالته ليلى، وخلد هو إلى النوم بهدوء.

وهنا لابد لي أن أذكر أن صدام طرح علي فكرة غريبة، تبريرا لمحاولته قتل كاكا عزيز. قال إنه لا يعتبر نفسه خاطئاً ومعتدياً، حتى لو قتله أو قتل أخاه البريء بهزاد. وأضاف: إنها خطيئة في نظر السلطة والمحكمة والقانون وحسب، وهذه كلها مؤسسات وضعية مستحدثة من اختراع الإنسان. والحقيقة هي أن القدر وضعه في طريقي ودفعني إلى قتله أو قتل أخيه، لحكمة لا يدركها عقل الإنسان. وحتى لو سرق أحدنا من مال غيره فهو لن يكون مرتكب خطيئة، بل إن ما أخذه هو رزقه الذي أراد القدر أن يأتيه بهذه الطريقة. والدنيا كلها، منذ بدء الخليقة، تسير بهذه الصيغة: قوي وضعيف، شجاع وجبان، غني وفقير، سادة وعبيد، قادة ورعايا.

وسأل:

هل تستطيع أن تفسر لي سر الزعامة؟

لماذا يكون الشيخ شيخاً، ويخدمه باقي أبناء العشيرة؟

ألم يكن الملوك والخلفاء وولاتهم يأخذون ويعطون من أموال الأمة، باعتبارها أموالهم التي وهبها الله لهم؟

ألم يكن العباد كل العباد من أملاك الخليفة الذي يُغني ويفقر، ويقتل من يشاء ويعفو عمن يشاء؟

ألم يكونوا يفعلون ذلك، وهم في أتم راحة الضمير؟

حتى الظالم منهم كان يجد لظلمه عذراً ومبرراً يقنعه بعدالته التي لا شك فيها. وعلى ذلك فهو يعتبر تفرده بمهمة تدبير حياة الآخرين، على هواه ووفق ما يراه هو، حقا من حقوقه المشروعة.

وطيلة سنوات المواجهة الدولية مع نظام صدام حسين، من عام 1990 ولغاية سقوطه في عام 2003، وفي كل جلسة من جلسات مجلس الأمن الدولي أو الجمعية العامة أو الوكالة الدولية للطاقة النووية لمعاقبته على عناده وتحايله على القرارات الدولية أو رفضه تنفيذ بعضها، أو عدم انصياعه لأحد إنذارات مجلس الأمن الدولي، كنت أتذكر حديث صدام وتبريره الاعتداء والقتل والسرقة، حين أقرأ تفاصيل مواقف دول كبرى تعودت السلوك الانتهازي والسمسرة في دفاعها المستميت عن صدام. فهي تستخدم شتى أساليب اللف والدوران، وتلبس الحجق بالباطل، وتقلب الحقائق، وتستخرج الأعذار والذرائع وبلا كلل أو ملل من أجل الحيلولة دون تمكين المجتمع الدجولي من تحقيق العدالة بحق حاكم ثبت، وفق جميع المقاييس الإنسانية والشرعية القانونية والشرائع الإلهية، الوطنية العراقية والدولية على حد سواء، أنه ديكتاور يرتكب كل يوم وكل ساعة ألوانا من الجرائم ضد الانسانية التي حددت مواصفاتها القوانين الدولية، والتي مسخت تلك الدول الانتهازية مفاهيمها وأفقدتها هيبتها وقيمتها. أتذكر دائما فلاديمير بوتين وجاك شيراك و جيانغ تسه مين، تحديدا، وهم يتلاعبون بالقيم والمقاييس، ويصورون حمايتهم لجرائم الديكتاتور وفاءا لتعهداتهم والتزاما بمصالح شعوبهم.

وبسبب تلك الانتهازية الرسمية كانت كل جلسة من جلسات مجلس الأمن الدولي حول العراق أو حول ليبيا أو إيران أو صربيا تتحول إلى ساحة سمسرة ونخاسة تعقد خلالها الصفقات، ويتم فيها تسليم الرشاوى وقبض العمولات، نقدا أو نفطا أو أشياء أخرى.

مناسبة هذا الكلام ذلك التحذير العجيب وغير المنطقي وغير المبرر الذي أطلقه الرئيس الروسي السابق ورئيس الوزراء الحالي فلاديمير بوتين من استخدام القوة أو فرض عقوبات جديدة على إيران بسبب برنامجها النووي.

ونقل الناطق الرسمي باسم الكرملين ديميتري بيسكوف عن بوتين قوله أمام خبراء أجانب في الشؤون الروسية في مقر إقامته خارج موسكو، إن مشروع شن هجوم على إيران سيكون غير مقبول. وعلى عادته، مثلما كان يفعل أيام صدام حسين، برر موقفه الغريب بالقول إن استخدام القوة لن يحل المشكلة، وسوف يضر المنطقة بأكملها، وأن العقوبات لن يكون لها الأثر المطلوب.

أما السلوك العدواني الدائم والثابت لحكومة الملالي في إيران، وغطرستها وعدوانيتها ومشاكساتها وتدخلاتها العدوانية وانتهاكاتها لسيادة الشعوب الأخرى في المنطقة، وقمعها لكل أنواع الحرية وحقوق الإنسان، وفكرها الظلامي المتخلف، فهي أمور لا تستحق ولو بعض الشجب الكلامي، ناهيك عن الردع الحازم والحاسم، من دول كبرى قامت أساسا في أعقاب ثورات دامية على أنظمة ديكتاتورية غاشمة دفع مواطنوها أثمانا باهضة للتخلص منها وإقامة أنظمة جديدة على أنقاضها تسمى ديمقراطية، مع الأسف الشديد. ومن يشك في رعاية إيران للإرهاب، وعلاقتها الحيمية بالقاعدة ومجاهدي بن لادن، فليسأل، لماذا تعبث القاعدة بأمن جميع الدول، عدا إيران وإسرائيل وفرنسا وروسيا والصين؟.

رحمة الله على إبن خلدون الذي أفتى بأن الدول لا تختلف عن البشر. وكما يمكن أن تجد رجالا منافقين وانتهازيين وسماسرة فإن في إمكانك أيضا أن تعثر على دول كبرى ولكن منافقة وانتهازية بامتياز.


إبراهيم الزبيدي

[email protected]