نظرية المؤامرة:

أتعجب كثيرا من أولئك الذين عشقوا تصدير رؤيتين متعاكستين لقـُرائهم، ودون أن ترمش أبصارهم، خشية من استفهام قارئ متحذلق، أو تأنيب ذهن وقاد، في لحظة سكون سياسي وثقافي، وكأنهم قد جُبلوا على ذلك، وتعودوا ألا أحد يُراقبهم أو يُحاسبهم، فهم أكثر الناس إدراكا لقول القائل: وقد أسمعت لو ناديت حيا، ولكن لا حياة لمن تنادي؟، بهذه الرؤيا، في تصوري، ولتجاربهم المنبثقة من الواقع، التي أثبتت أن شعوبنا المكلومة لا ذاكرة لها، وأنها قد ألفت الصفح والنسيان، عمد أولئك إلى التغاير بأفكارهم يَمنة ويَسرة، دون رقيب أو حسيب، وليس ذلك محصورا بتيار فكري، أو طائفة بعينها، وإنما هو سَمتٌ أحسب أن عديدا يتشاركون فيه بشكل أو بآخر.

لا أريد أن أتعمق كثيرا في التنظير، إذا أن المسألة التي نحن بصددها لها عدة وجوه وصور، ولعل أكثر تلك الصور وضوحا بين مختلف المفكرين والكتاب، هي صورة ما أصبح يعرف بـquot;نظرية المؤامرةquot;، التي ما فتئ البعض من الكتاب يستند عليها في تحليل مختلف الأحداث والتطورات، وقراءة الكثير من المتغيرات السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الدينية، في الوقت الذي انبرى لمناهضتهم فريق آخر، أخذ يُقلل من منطقية حُججهم ويدحضها، مُشددا على أهمية أن تكون قراءتنا لأي حدث وأي تغيير سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي وحتى الديني أيضا، نابعة من إدراكنا لحقيقة التطور الذاتي لمختلف أفكارنا وأفهامنا وقراءاتنا كذلك، وبالتالي فإن أي تغيير يعيشه المجتمع، وأي حراك ينتجه أبناءه، راجع إلى الإيمان بضرورة التغيير، وقبول تلك المجتمعات لسنة التأثير والتأثر، التي تفرضها قوانين السمات الاجتماعية منذ بدء الخليقة، مؤكدين بذلك على رفضهم الكلي لأي تأثير لنظرية المؤامرة وفقا لهذه الرؤيا.

ولا إشكال في ذلك، فالإنسان بوصفه كائنا متحركا، قابلا لممارسة خاصية التأثير والتأثر الاجتماعي والسياسي وما يستتبع ذلك أيضا، وهو ما قرره الله في محكم كتابه حين جعل فلسفة الخلق تقوم على ثقافة التعارف، غير أن الإشكال يكمن في مزاجية بعض من يقول بذلك، فهم حين تكون الأمور في خانتهم السياسية، تجدهم من أكثر المتحمسين لهذا الرأي، والمدافعين عنه، لكن حين تتغير النوايا والأهداف بتغير قوانين اللعبة السياسية، تلاحظ سرعة تملصهم من ذلك الرأي، بل وكتابتهم بشكل مغاير لقناعاتهم، حيث ينساقون لتأييد مفهوم نظرية المؤامرة، حين تحليل تطور مختلف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الحاصل فيه التغيير، وكأن أفراد ذلك المجتمع دُمى لا تعقل أو تفكر، وتتحرك لتلبية رغبات الآخر الخارجي أيا يكون، حتى لو اقترن ذلك بسفك دماءها، وقتل نفسها، وتدمير أرضها، وإهلاك حرثها ونسلها!!.

ما يدعوني إلى التعجب من ذلك، راجع إلى ما لاحظته من تسطيح في ثنايا كتابات بعض كبار كتابنا في بعض صحفنا العربية الكبيرة أيضا، حين ملامستهم للشأن اليمني الحالي، بإصرارهم على التنظير وقراءة تطور الأحداث الحالية وفق نظرية المؤامرة، التي طالما حاربوها، واستسخفوا عقول أصحابها، حين كان الأمر منوطا بالغرب، لكنهم الآن لم يتورعوا من أن يستخدموا نفس آلياتها حين حديثهم عن بعض مكامن الصراع في منطقة الشرق الأوسط، وهو ما ألفنا قراءته بسذاجة فكرية، وبساطة تحليلية، حين الحديث عن تطور الحراك السياسي والعسكري في لبنان مثلا، وغزة بعد ذلك، واليوم يتكرر السيناريو مجددا في منطقة اليمن، مع تجدد الحرب السادسة بين حركة الحوثيين وأنصارهم، والنظام السياسي الرسمي في صنعاء، إذ عمل أولئك على مناقشة تطور الأحداث في صعدة وفق نظرية المؤامرة، التي تعزز فكرة القول بحرب الآخرين بالوكالة، وفي هذه الحالة يُبرزون تأثير دولة إيران تارة، وقبلها كانت ليبيا، الراغبة في إثارة القلاقل في اليمن، بهدف تحقيق نقاط إيجابية في صراعها الإقليمي والدولي سواء مع الولايات المتحدة، أو مع الدول الكبرى في الإقليم كالمملكة العربية السعودية ومصر، وبالتالي فالصراع في اليمن بكل دمويته، واستمرار الحوثيين في حربهم المهلكة لأنفسهم، قد قام لتحقيق مصالح خارجية فقط، هكذا بكل بساطة يقتل الناس أنفسهم، وأبناءهم، ويهدمون بيوتهم، ويدمرون حرثهم، لمجرد تحقيق بعض رغبات القوى الخارجية!!.

إن أصعب ما يمكن أن يواجهه أحدنا، يكمن في كيفية تعامله مع نمطية الحدث السياسي والعسكري بصورته الواقعية، وبشكله المنطقي، بعيدا عن هوى المزايدات، وترديد الشعارات، التي لم تُغير ساكنا، ولم تُطور متحركا، وحين الوصول إلى تحديد هوية ذلك الموقف الوسطي، تصبح المحافظة عليه من أصعب ما يتحمله الإنسان، ضمن بوتقة عالمنا العربي السياسية. وهو ما أزعم غيابه عن عديد من القراءات السياسية الوطنية والإقليمية لتطور الأحداث العسكرية اليمنية في منطقة صعدة.

وفي هذا السياق فأتصور بأن أزمة الحوثي والصراع السياسي والعسكري في اليمن، ما هي إلا تعبير حقيقي عن جوهر الصراع الفئوي القبلي في جانب، والطائفي الفكري في جانب آخر، وهو صراع أنتجته الحقبة الجمهورية بامتياز خلال مختلف العقود السابقة، وفي تصوري أن أي تحليل أو قراءة لمختلف التطورات الحاصلة، لا تأخذ ما سبق في حسبانها، هو تحليل فاقد الأهلية لقراءته، ناهيك عن تبنيه أو الأخذ ببعض ما ورد فيه.

حقيقة الصراع الفئوي في اليمن:

لقد عاش اليمن وبخاصة من بعد أحداث ثورة 1962م أزمة اجتماعية جراء إثارة النعرات المقيتة بين فئة الهاشميين العدنانيين وغيرهم من أبناء اليمن القحطانيين، صنعها بعض أقطاب النظام بأنفسهم، تلبية لتحقيق بعض المكاسب السياسية ضد نظام المملكة المتوكلية في حينه، وإذا كان البعض منهم قد ندم على ذلك، وعمل على التخلي عن تلك الأطروحات الاجتماعية المقيتة، حفاظا على وحدة البناء الاجتماعي اليمني، إلا أن الأمر قد ظل راسخا في أفئدة البعض الأخر، الذين أبانت كتاباتهم المعاصرة في العديد من الصحف اليمنية، عن حقد دفين، وتعصب عرقي مقيت، ضد شريحة الهاشميين على وجه الخصوص، وكان قد أشار إلى ذلك الشيخ سنان أبو لحوم في كتابه quot;اليمن: حقائق ووثائق عشتها 1943- 1962quot;، مبينا طبيعة ما دار بينه وبين الأستاذ قاسم غالب سنة 1961م في عدن، التي شدد فيها الأخير على أهمية إثارة النعرات وتصعيد الخلاف بين العصبية الهاشمية والقحطانية، لضمان تحقيق مكاسب سياسية في تلك الفترة ضد حكم الإمام أحمد، حيث يقول نصا: quot;ويوم 12/10 كنت في البيت متعبا فزارني قاسم غالب وتحدثت معه كثيرا، وكان عائدا من القاهرة وأثنى على البيضاني، وقال: إننا غيرنا الفكرة إلى القحطانية والهاشمية، لأنها كانت مفيدة، فقد انتهت النعرة بين الشافعية والزيدية، وهو كان من دعاة ذلكquot; ؛ وهو ما نجح في إثارته بعد ذلك الدكتور عبد الرحمن البيضاني خلال حقبته السياسية في اليمن بحسب شهادة الرئيس القاضي عبد الرحمن الإرياني في كتاب quot;من وثائق أولى للثورة اليمنيةquot;، الذي عبر عن رفضه لمثل تلك الممارسات العنصرية والطائفية بقوله: إن الدكتور البيضاني قد:quot;.. جاء ليفرق بين أبناء الشعب فيهاجم الهاشميين تارة، ويهيج الشافعية ويتباكى عليهم أخرى..quot; مشددا على أن الهاشميين في اليمن كانوا يعانون مثل غيرهم من بؤس النظام الحاكم وسوء أحواله خلال عهد المملكة المتوكلية اليمنية ؛ ولم يقف الأمر عند ذلك وحسب، بل بلغ الحال من اللعب بنار العصبية المقيتة خلال العقود الأربعة الأخيرة الماضية، إلى التشكيك في صحة انتساب الذرية الهاشمية اليمنية إلى الإمام علي بن أبي طالب، وفق ما أظهرته عدد من الدراسات الاجتماعية شبه الرسمية، وعمل عدد من الكتاب المعاصرين بهدف التشويه على تسويغ فكرة ربط معالم التخلف الواضحة نتائجها حاليا في اليمن، بموضوع الإمامة التاريخي، المربوط في ذهنهم بالمذهب الزيدي، وهو ما يتضح صراحة في ثنايا كتابة المؤرخ القاضي إسماعيل الأكوع الذي قال في كتابه quot;هجر العلم ومعاقله في اليمنquot;: quot;إن الجهل الذي كان سائدا بين القبائل وهم السواد الأعظم في اليمن، هو من صنع الحكم الإمامي، وقد وضع وفق خطة مدروسة ليبقى الشعب جاهلا فلا يعرف شيئا في الوجود غير حكم الأئمة ووجوب طاعتهم دينا وعقيدة... فلهذا فقد حرص الأئمة على احتكار العلم في أسرهم وفي من يليهم، ثم في من يليهم من الأسر العلوية، لتكون المناصب العليا في الدولة حكرا عليهم وحدهمquot;، ولاشك فإن في حديثه كل المغالطة والتشويه، حيث وبالنظر إلى كتب الفهارس العلمية (الببلوقرافيا)، وإلى فهارس أسماء العلماء في عدد من الكتب المنشورة، يتضح مدى بعد مثل تلك المقولات عن مطابقتها للواقع الذي أراد تقريره، لكون معظم علماء اليمن الزيدي والشافعي من أبناء الشرائح الاجتماعية المتنوعة، وبخاصة من شريحة طبقة القضاة، الذين شكلوا في الجانبين لبنة الحياة العلمية الرئيسيين.

ومع استعار وتيرة الأزمة السياسية والعسكرية بين تنظيم الشباب المؤمن والنظام السياسي الحاكم في صنعاء، أخذ العديد من الكتاب في تكريس ذلك المنحى العنصري المقيت في كتاباتهم المنشورة في عدد من الصحف الرسمية وشبه الرسمية، حيث عملوا في إطار مهاجمتهم لحركة الشباب المؤمن وزعيمها الحوثي، على النيل من فئة الهاشميين بشكل خاص، وامتدوا بهجومهم الغير مبرر على الماضي التاريخي والفكري لليمن بوجه عام، على اعتبار المرجعية السياسية التاريخية والمذهبية للحوثي وأنصاره، التي تم ربطها بصورة محكمة مع بعضها البعض، فكان من السهل تشاكلها في ذهن المستمع والقارئ، لتتداعى تلك الصور الثلاث دفعة واحدة حين الحديث عن أحدها، فمثلا إذا جاء الحديث عن الإمامة تداعت إلى الذهن مباشرة صورتي الهاشميين والزيدية، وإذا تم الحديث عن الزيدية برزت صورتي الإمامة والهاشميين، وهكذا، لتشكل هذه الموضوعات المتنوعة، ثلاث دوائر متشاكلة، في منحى غير سوي، الهدف منه تحجيم دورهم، تلبية لغايات مختلفة.

ولاشك فإن كل وطني عاقل سيرفض إزاء ذلك أن يُزجَّ بالمجتمع بأكمله في أتون معركة ملتهبة، الخاسر فيها هو اليمن بمقوماته ومرتكزاته الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وقبل هذا، وفوق ذاك، مرتكزاته الوجدانية، التي امتزجت وتلاحمت، تصاهرا وتراحما، طوال قرون عدة، كان من نتائجه أن تمتع الجميع بخصال سمات العيش المشترك، والتفاعل الواحد، مع مختلف صيغ الحياة المادية والمعنوية، وهو ما تؤكده الكثير من الدراسات التاريخية، والأنثروبلوجية، وغيرها، وقام بترجمته العديد من رموز حركة التغيير والنضال اليمني بدمائهم خلال مختلف الحقب التاريخية وصولا إلى ثورة 26 سبتمبر سنة 1962م، التي شارك فيها جميع أطياف شرائح المجتمع اليمني بوجه عام، الأمر الذي دعا العديد من الزعامات الوطنية، إلى إعلان رفضها لكل مناحي التفرقة الفئوية، والتأكيد على وحدة الهوية اليمنية لأطياف المجتمع وتركيباته، ومن ذلك ما صرح به المناضل الأديب القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله، الذي قال وبصراحته المعهودة في كتابه quot;مأساة واق الواقquot;: quot;.. وأنا لا أعتبر الهاشميين إلا جزء أصيلا من أبناء الشعب، لو نازعتني الدنيا كلها عليهم لقاتلت في سبيل الاحتفاظ بهم، كما أقاتل من ينازعني على جزء من أرض بلادي، وأعتبر هذا وذاك غاصبا معتديا أثيماquot;

كما وفي المقابل، فإذا كان مقبولا وبشكل محدود، أمر تفشي ظاهرة الصراع الفئوي العصبي خلال مرحلة الستينات من القرن المنصرم، بسبب تأجج وتيرة الحرب الأهلية في اليمن بين الملكيين والجمهوريين، التي لن يختلف اثنان على اختلاط أوراقها الاجتماعية، والفئوية، والطائفية، بحيث تواجد كل طرف وبقوة في كلا المعسكرين الملكي والجمهوري ؛ فإن الأمر مختلف تماما خلال المرحلة السياسية الحالية، الذي تـَثبَّتت فيه أركان النظام الجمهوري بكل مؤسساته الدستورية، وبالتالي فإن استمرار تلك الأطروحات المقيتة بشكل سافر ليُعد من أحد الأسباب الدفينة المؤججة لتصاعد وتيرة الحرب الحالية ضد تنظيم الشباب المؤمن بشكل عام.

التنافس القبلي على السلطة:

من جانب آخر، فليس الأمر محصورا بشكل كلي ضمن إطار الصراع بين شريحة الهاشميين وغيرهم، بل هو متعد ليلمس بصورة أو بأخرى طبيعة العلاقة الكلية بين مختلف أطياف مجتمع القبيلة في اليمن، إذ وكما هو معروف فإن الشمال اليمني تتقاسمه ثلاث قبائل رئيسة وهي: قبيلة همدان الكبرى بجناحيها حاشد وبكيل، وقبيلة مذحج، وقبيلة حمير، ومع استقرار النظام الجمهوري، تسيدت قبيلة حاشد الموقف الرسمي، باعتبارها كانت النصير الشعبي للنظام الجمهوري، حتى أنه قد عُدَّ شيخها المرحوم عبد الله بن حسين الأحمر بمثابة حامي النظام وصانع رؤسائه، وكان ذلك في مقابل ضمور سطوة مختلف القبائل اليمنية، التي جاءت بشكل عام في المراتب اللاحقة، كلا بحسب قوة رجالها، ومدى تأثير مشائخها، وموقعها من مركز الحدث وبؤرة الصراع السياسي والجغرافي.

على أن الأمر قد تغيرت أبعاده مع مرور الزمن، وقل تأثير وهيمنة الشيخ عبد الله الأحمر في آخر مدة حياته على مختلف القُبُلْ، وأخذت قبيلة حاشد تفقد كثيرا من قوتها المطلقة بشكل تدريجي بعد وفاته، علاوة على بروز مظاهر الصراع بين مختلف الأجيال الجديدة من أبناء المشائخ، الذين تحركهم روح التغاير والتكالب على السلطة، ناهيك عن وضوح حدة الصراع بين أبناء الشيخ الوالد حامي النظام الجمهوري، الذين يرون الأحقية لهم في إدارة دفة الدولة، بحكم الشرعية التاريخية والقوة القبلية، وبين أسرة فخامة رئيس الجمهورية، القابضين على مفاصل أركان السلطة الأمنية والعسكرية بشكل خاص.

أمام كل هذا التمايز في المشاريع، والتغاير في الإرادة والأهداف، وفي مجتمع لم ينضو تحت لواء الدولة المؤسسية بشكل فاعل، ولا زالت القبيلة بكل أعرافها وقيمها هي المحرك له، يصعب إغفال تأثير ذلك حين الحديث عن تطور الأحداث الدامية بين السلطة وحركة الحوثيين، لاسيما إذا ما عرفنا أن نسبة الهاشميين في الحركة الحوثية لا تتجاوز 10% كحد أعلى، على اعتبار أن الهاشميين في اليمن بأكمله لا يتجاوز تعدادهم النسبة ذاتها من عدد السكان الإجمالي، وبالتالي فالغالبية العظمى من مسلحي الحركة الحوثية هم من أبناء القبائل، وبخاصة من أبناء قبيلة همدان البكيلية القاطنين محافظة صعدة المهمشة إنمائيا بشكل كلي منذ العام 1970م، وهو العام الذي أسقط الفرقاء من الملكيين والجمهوريين جميع أسلحتهم، وانضووا في حكومة وحدة وطنية، وكذلك قبيلة سفيان البكيلية، وهما القبيلتين الرئيسيتين من بكيل المنضويتين بوضوح في صفوف الحركة الحوثية، في مقابل مجاميع قبائل حاشد من العصيمات وغيرها، التي تقف مع السلطة، وبالتالي ووفق النظام القبلي، فإن أي تطور للحرب بين سفيان البكيلية مثلا، الواقعة في أحضان قبائل حاشد، سيؤدي إلى تدخل مختلف قبائل بكيل كقبيلة أرحب القريبة نسبا من سفيان، وغيرها من قبائل بكيل، وكذلك الأمر لقبيلة همدان أيضا. وفي حينه سيتوسع نطاق الصراع، بحيث سيصعب على أي نظام رسمي معالجته بسهولة ويسر، هذا إن لم تكن من نتائجه سقوط قواعد وأركان الدولة، والدخول في مرحلة يسود فيها الفراغ السياسي، بل والفراغ القيمي والإنساني أسوة بالصومال القريب، وبخاصة حين تتعمق جذور الحرب الطائفية في المجتمع، جراء تمدد أطياف الحركة السلفية الجهادية (القاعدة) في اليمن، وهو الوجه الآخر من الصراع، كما أنه الوجه الأخطر فعليا على سيادة مشروع الدولة.

وفي هذا السياق، فلم تعش القبيلة اليمنية طوال فترات الحقب التاريخية الماضية، أي انتماء أيدلوجي عقائدي مكثف، تحركه تباينات التأثيرات المذهبية زيدية كانت أو شافعية، وهو ما يفسر بشكل عام جهل الكثير من أفراد مجتمع القبيلة لمختلف تباينات الخلاف المذهبي، الذي ظل محصورا في إطار مدونات شريحة العلماء والفقهاء، مما حصر الصراع العسكري حال حدوثه في خانة التوسع السياسي فقط، الأمر الذي كانت له أثاره الإيجابية على شكل وطبيعة العلاقات البينية ضمن إطار المجتمع اليمني بوجه عام، ومنع من ظهور الدولة الدينية ذات الأهداف التوسعية وفق رؤاها العقائدية، العاملة على إقصاء الآخر، وتحويل قناعاته الفكرية والإيمانية جبرا، مما منع ظهور أي اقتتال عبثي، ضمن أجواء المشهد السياسي والعسكري في اليمن بوجه عام، بل وكان له الفضل في منع حدوث حالة التشظي التي يعيشها العراق حاليا، وتعاني من إطلالاتها العديد من دول المنطقة بما فيها اليمن اليوم. وكان له الفضل كذلك في جعل اليمن يعيش حالة من التناغم الفكري، والتسامح الذهني، الذي وضح في كثير من الصور الحياتية، والتداخلات الاجتماعية.


التنظيم اليمني للقاعدة:

إن أخطر ما يعيشه اليمن حاليا يتمثل في أتون الحرب الطائفية المذهبية المستعرة في مختلف مناطق اليمن منذ عقد الثمانينات الميلادي من القرن المنصرم، حين أخذ التيار السلفي المتشدد في الانتشار في ربوع اليمن بوجه عام، عبر العديد من المشائخ المعروفين كالشيخ مقبل الوادعي، الذي كان الداعم الرئيسي لمختلف المدارس الدينية كدار الحديث والمعاهد العلمية، وصولا إلى إنشاء المعقل العلمي الأكبر المتمثل في تأسيس جامعة الإيمان بصنعاء.

تجدر الإشارة إلى أن هذا التوجه في اليمن، وبخاصة من بعد أحداث حرب الخليج الثانية، قد أخذ في التشكل ضمن سياقات مركزية بعيدة كل البعد عن سياقات مشائخاها الرئيسيين المشهورين خارج اليمن، مما أوجد فجوة كبيرة بين توجهات أولئك المشائخ الرئيسيين، وبين العديد من الأتباع في اليمن، الذين التبس عليهم الحق بالباطل، فانساقوا ضمن مسارات تكفيرية بدأت بالدولة وانتهت بأفراد المجتمع، وهو ما عانت من أثاره الوخيمة العديد من المجتمعات الإسلامية، لكون هذا المد المتشدد في الفكر السلفي قد نظر إلى مسائل الخلاف من زاوية الإيمان والكفر وليس الخطأ والصواب، فقطعوا كل أسس التعايش المذهبي والديني وحتى الإنساني مع الآخر المخالف لهم، وعملوا على سجن أنفسهم وأذهانهم عن الاستماع لصوت مغاير، فشددوا على وجوب هجر المبتدع كقاعدة دينية في التعامل مع الآخر المخالف، مما أدى إلى إشاعة حالة من التباين الحاد، والفجوة المطلقة، بينهم وبين مختلف التيارات الإسلاموية الأخرى، الأمر الذي سهل من اندفاعهم في التكفير، وبالتالي استحلال الدماء التي حرم الله، وهو ما عانت منه العديد من المجتمعات الإسلامية، كما هو الوضع حاليا في النموذجين العراقي والصومالي، وكما هو الوضع في الحالة المغربية، والجزائرية، مرورا بما ساد المجتمع المصري خلال عقد التسعينات من القرن الماضي، ووصولا إلى المملكة العربية السعودية، التي لم تسلم من لهيب شضايا هذا التوجه الفكري، الذي فشل مؤخرا في استهداف مساعد وزير الداخلية للشؤون الأمنية الأمير محمد بن نايف.

الشرعية الكلية للتنظيم اليمني:

تجدر الإشارة أيضا إلى أن اليمن السلفي وليس الزيدي أو الشافعي، قد أصبح مركزا لكل الأفكار والذهنيات المتطرفة منذ عقد التسعينات الميلادي في القرن الماضي، حين أعلن الشيخ مقبل الوادعي براءته من النصارى، وأفتى بوجوب حربهم إبان أزمة الخليج الثانية، وبكفر من يساندهم، على اعتبار أن ذلك من الموالاة التي حرمها الله، فانساقت وراءه مختلف الأصوات السلفية المتشددة في اليمن وخارجه بشكل عام خلال تلك الحقبة، وتمثلت فيه مرجعية السلفية الجهادية، المشكلين جوهر عقيدة تنظيم القاعدة، الأمر الذي أكسبه وخلفائه من بعده شرعية روحية بين مختلف تنظيمات القاعدة داخل اليمن وخارجه، التي اشتهرت بمسمى السلفية الجهادية، وأصبح لهم في اليمن قدرا كبيرا من القوة والنفوذ، وهو ما يمكن أن نستشفه من حادثة هروب مجموعة من أعضاء تنظيم القاعدة المحتجزين في اليمن قبل فترة زمنية، وكان ذلك مدعاة للحفاظ على قوتهم وتجنيبها الهلاك مبكرا في حموة لهيب الصراع الدولي مع تنظيم القاعدة، حتى تكتمل قوتهم في اليمن، وبخاصة إذا ما أدركنا أن اليمن بطبيعته وتكوينه، وقبل ذلك بتاريخه، يشكل بلدا مفتوحا على كل الاحتمالات والنتائج.

علاقة البعث الجديد بتنظيم القاعدة اليمني:

وعلى الرغم من محاولة المد السلفي الجهادي في اليمن الركون جانبا خلال حموة الصراع الدولي بين خلايا تنظيم القاعدة وتشكيلاته المتنوعة من أتباع خط السلفية الجهادية، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، إلا أن البعض كان يعمل على خرق ذلك الركون، وفي أوقات محددة بهدف تحقيق بعض المكاسب اللوجستية، من قبيل التخفيف من حدة الصراع وقوة الضغط على رفقائهم في منطقة أفغانستان أو العراق، عبر عدد من العمليات العسكرية التكتيكية الناجحة بوجه عام، التي تنبئ عن حجم وقوة ذلك المد في أركان اليمن بوجه خاص. الجدير بالذكر فإنهم وفي سبيل تعزيز قوتهم، فقد عمدوا إلى تأسيس قواعد تحالفية جديدة لهم، خارج نطاق ظواهر حركاتهم الدينية، وبخاصة مع أعضاء حزب البعث الجديد الصدامي في اليمن، الذي ظهر منذ نهايات حقبة الرئيس صدام حسين في العراق بمظهر ديني بحت، باستخدامه لمصطلحات إسلامية في صراعه الدولي مع الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، كمصطلح الجهاد والاستشهاد، بدلا عن النضال والفداء، وكاللجوء إلى جمل التعبئة الدينية في خطابه العسكري، كلفظة الله أكبر وعديد من آيات الذكر الحكيم، بدلا عن صيحات التمجيد القومية.

أهداف التنظيم اليمني وغاياته:

ولاشك فقد استفاد السلفيون الجهاديون في اليمن من تبعات الحرب الدائرة بين حركة الشباب المؤمن بزعامة الحوثي والحكومة اليمنية، بالشكل الذي يصب في تكثيف قوتهم على الصعيد الداخلي، وبعيدا عن التشكيلات التقليدية في اليمن سواء كانت عشائرية أو حزبية. وكان من مصلحتهم طوال سنوات الحرب السالفة في صعدة، توفير الغطاء الشرعي للسلطة في حربها تلك، وتصوير الأمر وكأنه صراع بين أكثرية ملتزمة بالكتاب والسنة، وأقلية شيعية مارقة، بل بلغ بهم الأمر إلى محاولة الفصل مذهبيا بين أتباع المذهب الزيدي المشهور باعتداله العقائدي، وبين أتباع الحركة الحوثية، المتمذهبة بالمذهب الإثنا عشر الإيراني الصفوي بحسب رأيهم، ولاشك فقد حقق لهم ذلك على الصعيد الدعوي، والإعلامي، وحتى السياسي، ما يحتاجونه من مكاسب لوجستية في صراعهم مع الحركة الحوثية، ويسر لهم تحقيق هدفهم الاستراتيجي الكامن في رغبتهم إحكام سيطرتهم على أقاليم اليمن، لاسيما إذا أخذنا في الاعتبار ضعف مقدرة الجانب الصوفي الشافعي المذهب عن مواجهتهم بوجه عام، وقلة حيلة الجانب الزيدي عن مواجهتهم، باعتبار ما سبق التنويه إليه من ربط المذهب بمشروع الإمامة، وبسبب ضعف روح الحركة العلمية منذ مطلع القرن العشرين، وموت كثير من علمائه، وعجز من بقي منهم ماليا عن تمويل عديد من المدارس العلمية الخاصة، وطبع الكتب التراثية.

وإزاء ذلك، فقد وجد السلفيون الجهاديون في الحرب الدائرة في محافظة صعدة الزيدية فرصة لتحقيق أمرين: أحدها: التستر وتكثيف تسليح أنفسهم من خلالها، وتدريب كوادرهم على خوض غمار الحرب عَبرها، وأخراها: القضاء على الفكر الزيدي إجمالا، الذين لا ينظرون إليه من منظار الاعتدال أو الغلو، ولا يفرقون بينه وبين غيره من فرق الشيعة، بل إنه وغيره من الفرق المخالفة لهم في الرأي والتوجه في اليمن وخارجه، يعتبرون من وجهة نظرهم مخالفين أعداء. وهم إن وصلوا إلى غاياتهم بتمهيد الأرضية لهم في اليمن، فلن يتمكن أحد من إيقافهم، وسيقومون بسحب الشعب اليمني المسلح في حركة نزوح جهادية تاريخية ثانية، على غرار ما حدث في أوائل العصر الإسلامي، ولكن هذه المرة وفق أجندتهم هم، وليس وفق أجندة القصر الخلافي، وسيعيش العالم وقتها حركة طالبانية يصعب وقفها أو التصدي لها.

الخلاصة:

وهكذا يتضح من هذه العجالة أن أزمة الشمال اليمني السياسية الحالية لا يمكن اختصارها في موضوع مُحدد، كما لا يمكن اختزالها في أبعاد نظرية المؤامرة، التي يتحرك فيها اليمنيون كدمى لا إرادة لهم أو قرار، والأزمة في الوقت ذاته منفتحة على أسباب اقتصادية إنمائية كذلك، فعلاوة على استهداف الهاشميين من بعض أطراف السلطة ضمن إطار صراع البعد الفئوي الذي تم التطرق إليه، وإضافة إلى حقيقة التنافس بين أبناء مشائخ القبائل على السلطة، وعمق الإحساس بالإقصاء من قبل مشائخ قبائل بكيل ومذحج على وجه الخصوص، أمام تفرد قبيلة حاشد بالحكم، وزيادة على ما يُخطط له رؤساء تنظيم القاعدة في اليمن من إحكام السيطرة فكريا وعمليا على مقاليد السلطة الدينية أولا والسياسية ثانيا، وقيامهم من أجل ذلك بتصوير الوضع على أنه صراع بين السلطة وأنصارها من أهل السنة والجماعة، وبين فصيل متمرد اثنا عشري صفوي يدين بالولاء العقائدي لدولة إيران، بغية تصفية الساحة اليمنية لهم، لتحقيق مآربهم العسكرية الدولية.

علاوة على كل ذلك، ودور كل منها في إشعال نار الفتنة في هذه الحرب المستعرة منذ بضع سنين، لا يمكن للمرء أن يغفل أثر ضعف الدور التنموي في إطار محافظة صعدة بوجه خاص، التي لم تحض بأي نوع من الاهتمام الإنمائي بشكل عادل، سواء في القطاع التعليمي أو الصحي إلى غيرهما من القطاعات التنموية، منذ نهاية الحرب الأهلية الأولى في اليمن سنة 1970م، وهو ما انعكس سلبا على أفراد المجتمع، وعلى مكانة الدولة لديهم بوجه عام.

على أن الأزمة أيضا ليست محصورة في الشمال اليمني في الوقت الراهن، وإنما هي ممتدة كذلك إلى المحافظات الجنوبية في اليمن، التي يجأر أبناءها مطالبين السلطة والنظام السياسي الحاكم في صنعاء بالكثير من المطالب الحقوقية والدستورية المشروعة، وليس الأمر حكرا على هاتين المحافظتين وحسب، بل يكاد المرء يلمس اتجاها واحدا من المطالب الدستورية والحقوقية، التي يصدح بها أبناء مختلف المحافظات، مطالبين السلطة بتحقيقها.

وعليه، فيبقى القول بأن من الإنصاف تحليل الأمور بواقعية قدر الإمكان، وتشخيص الداء حتى نتحقق من الدواء، أما التبرير فقط بأن الحوثيين يرغبون في عودة الإمامة، أو أنهم يحاربون بالوكالة، وما إلى ذلك، فهي الشماعة التي يعلق عليها ويحارب من خلالها كل من يخالفهم، أو كل من يحاول أن يحقق مكاسب مادية وسياسية خاصة.

د. زيد بن علي الفضيل