حدث في عام 2006 حيث لم يمض على صدور روايتي quot;حارسة النخيلquot; سوى شهور قليلة أن جمعتني الصدفة بكاتب سيناريو quot;عربيquot; اقترح علي أن يتخذ من روايتي مسلسلا تلفزيونيا أو فيلما سينمائيا، لكنه صدمني حين سألني عن سبب اختياري لمفردة quot; النخيلquot; في عنوان الرواية وهل لها علاقة بالسعودية!؟ فقلت لا أبدا ليس لها أي علاقة بالسعودية فأحداث الرواية تدور كلها في العراق. لكنه عاد ليسأل: وما علاقة النخل بالعراق!؟ وهل في العراق نخيل؟! عندها نهضت تاركة الرجل المسكين دون إجابة، فمثله لا ينفع الكلام معه وهو بحاجة لأن يعيد النظر بوجوده قبل معلوماته أو ثقافته، هذا لو كان لديه ثقافة أصلا.

عرفت يومها بأن لا أحد يستطيع أن يكتب عن العراق سوى أهله، ولا أحد يستطيع أن يرسم لوحة عراقية سوى فنان عراقي، ولا أحد يستطيع أن يتألم في العراق سوى العراقيين وأنه لا تجوز المساومة على أي مرحلة مرت بالعراق، فنار العراق وحروبه وسلامه وجماله وأرضه وآلامه وأحزانه وأفراحه لا يشعر بها سوى العراقيين وحدهم، ووحدهم الذين اكتووا وقاسوا وتألموا.

هذه الحادثة المخجلة كانت تحظر أمامي طيلة ثلاثين يوما وأنا أتابع مسلسل quot;هدوء نسبيquot; ذلك العمل التليفزيوني الذي كتبه quot;سوريquot; وأخرجه quot;تونسيquot; ومولته شركة quot;روتانا خليجيةquot; حيث احتشدت في هذا المسلسل وجوه من مختلف الجنسيات، وكنا نأمل أن نتلمس حيادية أهل الفن ومصداقيتهم وشفافيتهم في نقل الصورة كما هي مهما كانت ميولهم واتجاهاتهم، لكننا صدمنا للأسف بدس غريب! وبدا العمل وكأنه مفخخة من نوع آخر! نوع يتفجر داخل بيوت العراقيين وليس في مدنهم وشوارعهم!.

يتطرق quot;هدوء نسبيquot; كعنوان أولي إلى حال الصحفيين العرب في العراق وفي فترة دخول أمريكا وسقوط نظام الحكم الذي استفرد وعلى مدى خمسة وثلاثين عاما بالإنسان العراقي وجرده من إنسانيته وحضوره بل شوه سمعته في العالم وبات منبوذا مطاردا مهاجرا.... فقد تناول المسلسل فترة دخول أمريكا إلى العراق في العام 2003 حيث عمت الفوضى وقضت على بقايا خبز معجون بالتراب وسكينة وهمية، وعليه كان لا بد لأسرة هذا العمل الفني أن تتجاوز الميول والأهواء والمجاملات باعتبارهم فنانين وليسوا صناع حروب أو ميالين إلى طائفة أو جماعة أو قبيلة، لكن الذي حدث في هذا العمل هو بالفعل استفزاز لأي عراقي يرى الأمور على حقيقتها العراقية.

ما تبين لنا كمتابعين يعنينا، بل يمسنا بشكل مباشر، هو تخبط أبطال العمل ما بين فلسفة الكاتب ونظرة المخرج، وأن حالة تقمص دور المراسل لم تكن مقنعة، فهم مرة يشعروننا أنهم ذاهبون للبحث عن فرصة عاطفية وإصلاح مشكلاتهم الخاصة، ومرة لنقل الأحداث، لكنهم كانوا بكل الأحوال منشغلين عن واجبهم الحقيقي الذي ذهبوا من أجله، فاكتشفنا بعد عدة حلقات أننا ندور بين أبطال العمل في مساحة ضيقة وهم يدخنون ويسكرون ويحتسون القهوة ويتعاتبون على ماضيهم ويجترون أحزانهم الخاصة تاركين ساحة الحرب التي جاؤوا من أجلها وقابعين إما في غرفهم أو بأروقة الفندق ومطبخه.

ثم أن المخرج لم ينتبه في الحلقات الأولى وقبل دخول أمريكا أنه لا وجود لأي خدمة تكنولوجية في العراق بل أن من يتجرأ ويحاول التقاط أي محطة تلفزيونية غير الفضائية quot;العراقيةquot; الخاصة! وتلفزيون quot;الشبابquot; الخاص! فانه يعرض نفسه للعقوبة القسوى! ومع ذلك كان الصحفيون يعملون على أجهزة الكومبيوتر المحمولة في أروقة الفندق! كما أنه لا وجود لخدمة الهاتف المحمول في حين راح quot;عابد فهدquot; في المشهد الذي يهرب فيه من عقاب رجل الأمن العراقي، يهاتف صديقه العراقي ومن أحد الأكشاك فيرد عليه الآخر من هاتف محمول! وهو أمر مستحيل، ثم أنه لا يوجد في العراق كشك على الرصيف يمكن استعمال هاتفه الأرضي من قبل المارة! فهذه الظاهرة صارت في سنوات الحصار مستحيلة، والخدمة الهاتفية في سنوات الحصار كانت متقلبة المزاج ما بين مقطوعة وموصولة داخل البيوت فكيف بكشك على رصيف؟! وهي ظاهرة ربما تتوفر في شارع مصري، كما يحدث في الأفلام المصرية القديمة! ثم أن الهاتف بحد ذاته كان تهمة وكان العراقيون يرتابون بل يحذرون من استعمال الغرباء لهواتفهم المنزلية quot;الأرضيةquot; فكل شيء مراقب وكل كلمة مسموعة.

لكن المستفز أكثر هو أن أسرة quot;هدوء نسبيquot; لم تدرس جيدا طريقة نقل الخبر من قبل أبسط إعلامي مبتدئ ليختبروا جيدا رسم شخصية المراسل الحربي، وما حدث هو أن أبطال العمل كانوا ينقلون الخبر وكأنهم يقرأون قصيدة شعر ركيكة! quot;ها هو القصف يعود والضحايا من الأبرياء والمدنيينquot; وينسحب الممثل quot;المراسلquot; مهزوما بلا أي هدف أو نتيجة، والغريب أن هذه الجملة تكررت على لسان أبطال المسلسل طيلة الحلقات وكأنها جملة مرتجلة.

إن من أبسط الأمور التي يتعلمها المراسل في بدايات عمله الإعلامي هو الإعلان عن المكان الذي تتم فيه تغطية الخبر، وطبيعة الحدث، وحجم الخسائر باللغة الإعلامية لا باللغة الشعرية، والأكثر أهمية هو كيف يبدأ الصحفي بجملة ثابتة وكيف ينهي خبره بقوة ووضوح، وهذه بديهيات العمل الصحفي التلفزيوني ولا يمكن التنازل عنها من قبل الإدارة في أي جهاز إعلامي مهما كان بسيطا وغير محترف، فالحرب لا تقبل التمييع ولا التشكيك ولا الاحتمالات ولا ملامح الهزيمة على وجوه المراسلين.

مشاهد كثيرة في quot;هدوء نسبيquot; كانت مستفزة بل غارقة بالسمية فمثلا تظهر دهشان quot;قمر خلفquot; التي كانت تؤدي دور فتاة من شمال العراق تجلس في أحد المشاهد إلى جانب زميلها للإشراف على quot;منتجةquot; الخبر، فيسألها من أين أنت؟ لتجيب بأنها عراقية! ثم يلح عليها زميلها من أين من العراق؟ فتجيب: quot;من كل العراقquot; وإذ بزميلها يبادرها بنظرة لها ألف معنى ويقول وهو ينظر إلى عينيها quot;أنا من البصرةquot; فترمقه بنظرة شك وتنهض من مكانها وكأن حية لدغتها وتتجه إلى quot;نيلي كريمquot; في قاعة الفندق لتوشوشها بشيء ما! لم نعرف تحديدا ما هي أهمية هذا المشهد وما المقصود منه، فلقد تعودنا من خلال متابعة الأعمال المحترمة بأن كل همسة وحركة والتفاتة لها قيمة وأنه ستتبين هذه القيمة ولو بعد حين، بينما ميع هذا المشهد كغيره من المشاهد المريبة! إلا إذا أراد الكاتب أو المخرج أن يوصلوا رسالة مبطنة بأن أهل البصرة يعني quot;شيعةquot; وكون دهشان quot;كرديةquot; فإذن هناك حالة رفض! وهذا غير صحيح تماما ففي البصرة كل الأديان وكل الطوائف والأعراق quot;بمعنى ليس بالضرورة أن يكون البصري quot;شيعياquot; وأي عراقي لا يجيد القراءة والكتابة وقضى عمره تحت الأرض يعرف بأن أهل بغداد أيضا من كل الطوائف والأديان والأعراق، والذي يجهله الكاتب هو أن الأكراد رُحِلوا في السبعينات من قبل النظام السابق واجبروا على الاستقرار في الجنوب بشكل خاص على أساس أنها ابعد نقطة عن أراضيهم، وعليه فان البصرة كانت مستقر الأكراد كأكبر مدينة جنوبية وقد حدث منذ ذلك الوقت تقارب وعلاقات أسرية عميقة بل أن أهل البصرة انسجموا مع الأكراد فالبصريون معروفون ببساطتهم وكرمهم وقدرتهم على التأقلم مع الآخر دون تعقيد، وهذه الحقيقة يعرفها كل العراقيين بل كل العرب.|

ربما لم يكن يدرك فريق العمل وعلى رأسهم الكاتب والمخرج بأن رجال الدين في العراق بشكل خاص سواء كانوا سنة أو شيعة لهم خصوصية تبعدهم عن الشبهات والتطرف، وهذا أمر أيضا نعرفه جيدا كعراقيين تربينا على أن لا فرق بيننا وكلنا أسيء لنا وأطعمنا السموم بكل أشكالها وعلى جرعات بطيئة، أما إذا كان المقصود رجال الدين الذين أفرزتهم حالة الفوضى وسياسة المفخخات فهذا أمر لا يعني العراقي النجيب، وعليه لم يكن هناك أي داع لجعل أبطال المسلسل يدورون حول أنفسهم لحلقتين متتاليتين بحثا عن شيخ يعقد قران quot;دهشان ومالكquot; وبعد أن تتقطع كل السبل يذهب بهم المؤلف إلى شيخ quot;شيعيquot; ليمنحه دور السلبي والرافض! ثم إلى شيخ quot;سنيquot; ليجعله المؤلف بمثابة quot;رامبوquot; في تحدي الوقت الصعب وتهديد الموت ويقبل أن يكتب عقد قران الحبيبين! هذا أسلوب مرفوض تماما لأنه مدسوس ومسموم، ولا يجوز الدخول إلى هذه المنطقة المظلمة، لا يجوز السباحة في المياه الراكدة بحثا عن صيد عفن لا يباع إلا على صناع الموت ومصدري الإرهاب والطائفية.

في الحلقات الأولى من المسلسل تكررت جملة quot;سقوط بغدادquot; بطريقة مجانية وبمناسبة ودون مناسبة وهو ما استفز المشاهد العراقي، فبغداد لم ولن تسقط أبدا ولم يكن لهذه الجملة معنى خصوصا أنها تستثني بغداد عن العراق! فإذا كانت هذه الجملة تقال بمحبة وعاطفة قومية عربية، فالأجدر بهم أن يستخدموا quot;سقوط العراقquot; بمعنى أن بغداد ليست الابنة المدللة الوحيدة التي لا يجب أن تمس والحال هو أن الدلال أجمله يوزع على كل العراق ومن شماله إلى جنوبه غال وثمين ولا يجب أن يمس، هذا من ناحية: ومن ناحية ثانية فان الذي سقط هو النظام، والنظام كان لا بد أن يسقط فهذا حال تقلبات الوقت واستحقاقات الزمن، لا شيء يدوم سوى الأرض والإنسان وأرض العراق باقية وأهل العراق باقون.

عودة إلى عواطف الصحفيين التي تأججت على نيران الحرب! حيث يفاجأ الإنسان العاقل بأنه يتابع شلة من المراهقين الهاربين من مشاكلهم وزوجاتهم ليجدوا أنفسهم دون رقابة وبحرية تامة يغازلون بعضهم البعض ويسكرون ويدخنون ويتحدثون ويتسامرون ويختلفون طيلة الوقت على قضاياهم الخاصة، وهو ما جعل المشاهد يعتقد للحظة أن هؤلاء مجرد شباب في مطلع صباهم ذهبوا في رحلة استجمام وسقطوا في حب بعضهم البعض! وهذا استخفاف بذكاء المتابع واعتداء على مهنة المراسل الحربي وصورة غير صحيحة لإنسان يذهب برجليه إلى الموت لينقل الخبر والحقيقة، ولتكتمل دائرة الاستفزاز والفساد فمن ناحية تعامل المراسلون مع زوجاتهم بهمجية من خلال المكالمات الهاتفية quot;الجلفةquot;رغم أنهم يعرفون بأن الموت يحاصرهم وبالتالي أحبتهم بحاجة لكلمة طيبة مهما بلغت درجة الخلافات والكره الذي تسرب لعلاقاتهم في حالة السلم، ومن ناحية أخرى يزورهم مدير المحطة ويعلن عن سعادته أنهم عثروا على أنصافهم الأخرى وسقطوا في حب بعضهم! ما هذه المهزلة؟ هل يحدث هذا فعلا في ساحات القتال؟ ولو حدث هذا فعلا على أرض الواقع لكان كل هؤلاء الصحفيين قد تعرضوا للطرد من قبل مؤسساتهم لأنهم لم يكونوا حرفيين بما يكفي وهذه حقيقة ربما يجهلها من لم يحترف العمل الإعلامي، فالأجهزة الإعلامية في مثل هذه الحالات لا تتساهل مع العاملين وهم في الحقيقة يعاملون كالجنود في ساحة القتال، والقائمين على العمل يعنيهم تماما المراسل اللماح، والقادر على اختطاف الصورة والخبر ولهذا السبب المراسل الحربي أجره مرتفع ويتنقل بين المحطات الفضائية كلاعب كرة القدم الهداف الذي تتنافس عليه الفرق، وبنظرة شاملة وبحث بسيط يستطيع الكاتب أن يتأكد من هذه الحقيقة من خلال قراءة سيرة أي مراسل حربي ليجده قد تنقل في سنوات قليلة بين ثلاث أو أربع محاطات على أقل تقدير والسبب هو التنافس على التقاط الخبر وعلى يد مراسل محترف.

quot;ما يشفع لهدوء نسبيquot; هو حضور أسرة عراقية مثلت كل أطياف المجتمع العراقي وبكل صدقها ومحبتها نبذت الطائفية واعترضت على مصدر المال المجهول، وأسلوب الكسب المريب، وحيرتها التي لا تنتهي أمام تركة صدام الثقيلة من علل وعاهات وجنون وعزلة وجرمهم فقط الاستقلالية والتفوق والإنسانية والاشتغال بالفكر والشعر. كما أظهر العمل الجهات التي استغلت الفوضى ومارست العنف والهمجية على المدنيين والصحفيين، وأظهرتهم كمرتزقة وجهلة وناقصي وعي وصائدي ثروات ومجرمي حرب وليسوا مقاومة كما هو مشاع وهي التفافة يشكرون عليها رغم أن العمل لم يكرسها كما تستحق.

في المحصلة الأخيرة فان quot;هدوء نسبيquot; سخر من عقولنا ومن قدرتنا على القراءة والتحليل، وراح يضللنا طيلة ثلاثين يوما بأحداث ليست مدروسة وأسلوب فني ليس مصروفا عليه كما يجب، بل كان التقتير واضحا من خلال الديكورات الهزيلة وكثرة المشاهد الداخلية وتجنب المشاهد الخارجية واعتماد طرق بدائية ومتوقعة وعمليات وخدع فنية مفضوحة، وجمل ركيكة ودوائر ضيقة من ساحات قتال مصطنعة بطريقة مضحكة وكأننا نتابع عملا صور في الأربعينات ولكن بالألوان.

كاتبة وإعلامية