المصور مع نوري الراوي عام 1961

فاضل عباس هادي من لندن: الحنين الى الماضي شعور انساني طبيعي تفرضه الذاكرة المحجّبة. وعلى خلاف اعتقاد بعض المتعالمين من عرب وأنغلو. ساكسونيين من أن النوستالجيا شعور مرضي عديم النفع وانه وسيلة الكسول والمتفائل السطحي لمواجهة الحاضر الكارثي.
وعلى الجانب التطبيقي والعملي، الصور الفوتوغرافية تقدم نموذجاً مثالياً وبرهاناً على أن الأمور كانت أفضل مما هي عليه الآن في عراق الكوارث والعواصف الرملية الصفراء والسحب السوداء والانفلات الأمني والتراخي الأخلاقي والأنانية، وفي المقابل نجد أن جَلَد العراقيين وتميزهم البيّن وتحليهم بالارادة وروح الدعابة والعمق النفسي واصرارهم البطولي على المثابرة ومعانقة الحياة بقوة مثال على أن الماضي حاضر في ذاكرتهم الحية والحيوية.
وكلما اتصلت هاتفياً باخوتنا وأخواتنا في المحبة والشقاء في عراق اليوم وجدت أنهم أقوى من المغتربين وأكثر تفاؤلاً وعنفواناً منهم. انهم أبطال حقيقيون، نحني الرأس لهم ونحيي فيهم الايمان الذي لا يتزحزح ولا ينكسر بإمكانية عراق أفضل وكأنما لسان حالهم يقول الصور صور الفترات الغابرة نريد أن يعود العراق الى ما كان. الصُور الصُور، تؤكد ذلك الصور.
* * *
كتاب laquo;لطيف العاني مصور من العراقraquo; الصادر عن دار الأديب العراقية العتيدة التي يديرها هيثم فتح الله من الأردن والصادر في العام الماضي وتقديم احسان فتحي الناقد الفني في حلة قشيبة يقدّم لنا نموذجاً لما كان عليه العراق، نموذجاً يسعى العراقيون من مختلف ألوان الطيف السياسي والاجتماعي الى إعادة إرسائه وعلى دعائم جديدة. وكما كتبنا في الثمانينات من أن laquo;لبنان هو الواحة التي يلجأ اليها الجميع ويعمل على تدميرها أكثر من طرف واحدraquo; نكتب الشيء نفسه عن عراق اليوم. فليتجمع القرويون حول موقد النار من جديد، لنعيد الابتسامة الى الثغر الريّان وخاتم الأمان والإخاء بالتراضي الى المعصم.
ونحن، غالباً ما نسمع من العراقيين في الغربة الحجرية. وهم يتنكرون للجذوة الكيانية ويحاولون، عبثاً، اطفاءها في مجتمعات الغرب التلفيقية. الدعوة الى نسيان العراق وتوطين النفس المتوقدة على الحياة والموت في بلاد الأجانب عديمي الذاكرة التراكمية. الا انهم، على أغلب الظن، كذابون. وان محاولتهم للاستقرار نهائياً في الغربة ما هي الا محاولة عوجاء وبلهاء، فرضتها معطيات العراق الحالي، واغراءات الغرب المالية، الغرب الذي يوفّر لك الحياة الكريمة على الصعيد العملي ويتركك لوحدك لمعالجة الروح صبواتها وتلاطماتها. وlaquo;لماذا. كتبت منى السعودي في إحدى قصائدها. كلما صعدت اليك تكسرني؟raquo;.

جامع بنية من تصميم قحطان المدفعي/ عام 1961
الشاعرة تخاطب حبيبها في القصيدة الا انها يمكن أن تكون خطاب العراقي الى وطنه المهدّم. أو مؤيد الراوي وهو يكتب laquo;العراق، أحبّهُ كمقصلةraquo;. وكلا النصين ظهرا في laquo;مواقفraquo; أدونيس في السبعينات.
* * *
الذاكرة ليست افرازاً مرضياً كسيحاً وهناك من الذاكرات ما هو عديد ومتنوع تنوّع طرق التذكر. وهناك سعي المصور الى تثبيت أو ترسيخ ما يختاره من مرئيات، وبالانجليزية to fix وما وراء عملية التثبيت أؤ قبلها transfix بصيغة الفعل: يحجّر، يَشُلّ أو يحوّل الى تمثال. وهناك كلمة ثالثة هي frame بصيغة الفعل أيضاً وهذه مفردة ثرية عديدة المعاني منها يصوغ، ويفرغ في قالب ويركّب (أجزاء هيكل ما). راجع قاموس laquo;الموردraquo; للمترجم الكبير منير البعلبكي ود. روحي البعلبكي.
هذه المفردات الثلاث أساسية في عمل المصور وهي تتبادل المواقع عى الدوام وتتناوب على الصدارة في مخيلته التأليفية.
هذه الأفكار والاعتمالات والاصطيادات أثارها في الكاتب ولياليه البيضاء الكتاب المذكور الصادر كما ذكرنا عن دار laquo;الأديبraquo; العريقة.
وليس عبثاً أن اختار الناشر تصدير الكتاب بعمل ممتاز هو صورة المصور الفنان مع الرسام الكبير نوري الراوي وبينهما صورة التقطها المصوّر للرئيس العراقي الراحل عبد الكريم قاسم. إنها الصورة التي تتثبت في الذهن وتترسخ وتتأطر، وتبقى تلح عليه بشكل أقوى من لوحة سلفادور دالي laquo;الحاح الذاكرةraquo;.
والصورة هي واحدة من الصور التي تستحم بشيء من النور الالهي، النور بالمعنى القُدسي لمرادفها الدنيوي: الضوء، الضوء الأبيض الحليبي، الضوء الخارق الصفاء والملمس الحريري، وهو أمر أشرنا له في مناسبة سابقة عند الكتابة عن واحد من الفروق الجوهرية بين التصوير الفضي والتصوير الرقمي.
الصورة مأخوذة في العام 1961 حيث كانت بغداد تشعّ وتضيء وفَرِحة بسكانها. وهناك صورة لشارع الرشيد الذي ينقلك مجرد ذكر اسمه الى عدد من معالم الشارع عصب من أعصاب بغداد الأساسية حيث مقهى البرازيلية، على سبيل المثال، التي كانت تشع وتضيء بفضل كوكبة ممتازة من جيل الخمسينات: نزار عباس ورزاق رشيد الناصري وذنون أيوب وشاكر خصباك ونهاد التكرلي ورشدي العامل وسعدون فاضل وكتّاب أجلاّء لا تحضرني أسماؤهم.
وكانت البرازيلية في وقت لاحق افتتحت لها فرعاً في الباب الشرقي حيث نُصب جواد سليم. والفرع الجديد كنت أرتاده لوحدي بعض الأحيان فأجلس وحيداً كاليتيم، رغم البهاء والضوء وحركة العراقيين والبنات الجميلات وهن في طريقهن الى laquo;مدرسة الراهباتraquo;. وهناك كنيسة الأرمن وقاعة كولبنكيان حيث أقيم أول معرض لجماعة الرسامين laquo;المجددينraquo;، ومنهم فايق حسين ورافع الناصري.
تعليم الحياطة 1960
صور كتاب عبد اللطيف العاني تنقلك بسرعة النهر الجارف الى هذه الأماكن الخالدة وأنت من خلال تحديقك بالصور لا تستطيع التوقف عن الهذيان، وتتساءل عما اذا كان الانجليز الذين ساهموا ببناء عراق الذكريات هم الذين تعمدوا تدمير العراق نكاية بالعراقيين الذين تنكّروا للجميل وقرروا تأميم النفط فقطعوا عليهم مصدراً مالياً مهماً لبناء مجتمعهم الحالي: مجتمع الرفاهية.
* * *
ومما لا شك فيه ان العاني. المصور الرسمي لمجلة laquo;العاملون في النفطraquo;. كما أكد لنا الفنان ضياء العزاوي. الذي كان يترأس تحريرها الكاتب والمترجم الكبير جبرا ابراهيم جبرا، كان يتمتع بحرية في الحركة والتنقل والثقة بالنفس يحسده عليها المصورون في العراق الحالي. وإنه، خلال الفترة القصيرة التي تحمل صوره تاريخ التقاطها، كان ملهماً وفرِحاً وهو يتنقل بين مناطق العراق المختلفة من الشمال الى الجنوب.
ولا ننسى أن عدداً من أقطاب جيل الستينات كانوا ينشرون بعض ما يكتبون في مجلة laquo;العاملون في النفطraquo; وان جبرا كان يجزل العطاء لهم عداً ونقداً.
* * *
ولا يقتصر الخوف من المصور وكاميرته على حكام البلدان العربية من المحيط الى الخليج. بل ان البلدان الأوروبية وعلى رأسها ما يسمى بريطانيا العظمى سنت وتسن قوانين تحد من حركة المصور وتضيّق الخناق عليه.
وقد نشرت الصحافة البريطانية عدداً كبيراً من حالات القاء القبض على المصورين بحجة انهم يصورون الأماكن الأمنية الحساسة. أي أن السلطات الحاكمة في البلدان الأوروبية، بإسم مكافحة الارهاب أخذت تكافح المصور، هاوياً كان أم محترفاً، تراقبه وتحد من حركته. نذكر هذه الحقيقة المرة لأن أعمال العاني كانت احتفاءً واحتفالاً بفعل التصوير. وهما أمران أصبحا الآن مستحيلين في حالات عديدة.
* * *
اثناء احتفالات بذكرى ثورة 14 تموز / عام 1962
ثم أن الفترة القياسية التي حقق بها المصور أعماله (1958. 1964) المنشورة في الكتاب تدل على انه كان سعيداً وملهماً تماماً، وتدل أيضاً على ان الحُكم في الفترة المذكورة كان يفسح في المجال للمصور إن لم نقل يشجعه ويمد له يد العون.
وهكذا قدم لنا مصوّرنا العراقي انشودة رعوية ومدنية قلّ ما يماثلها في التمكن من عناصر الصورة وغنائية الموضوع. وانها، بالاضافة الى أعمال كامل الجادرجي ومراد الداغستاني ورمزي، تمثل عراقاً ساحراً بهياً نحنّ إليه ونتمنى عودته.
* * *
اسعفيني، إذن، أيتها الذاكرة laquo;تكلمي أيتها الذاكرةraquo; وكأني بناباكوف الكبير وهو يحض ذاكرته الفوتوغرافية العجيبة على النطق.
ناباكوف أقرب الروائيين الى المصور الفوتوغرافي في طريقته في بناء المشهد جملة جملة.
* * *
هنا كنا نطير من الفرح
هنا كنا نضحك ملء الأشداق
وننتشي بشيء من النور الإلهي.