علي الحسيني: ثمة بوادر اولى نجدها في اواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين مهدت لظهور جماعة جديدة من الدارسين للتراث الاسلامي والداعين الى ضرورة ممارسة قراءة مغايرة لهذا التراث تتواكب مع متطلبات العصر وروح الزمان الجديد والدعوة الى اصلاح وتجديد الفكر الديني. فقد شهدت تلك الفترة محاولات عدة لطرح مشاريع فكرية تؤمن باهمية القراءة النقدية للتراث الديني على وجه التحديد لغرض تشخيص عوامل النكوص والتراجع التي عاشتها المجتمعات العربية والاسلامية انذاك .. وربما اقدم تلك المشاريع التي نتلمس فيها اصرارا لحوحا في البدء بعلاقة جديدة مع التراث ما نجده في كتابات ومواقف رفاعة الطهطاوي(1801 - 1873) وخير الدين التونسي1820)-(1890 وجمال الدين الافغاني(1838ndash;1897) ومحمد عبده(1849- 1905) وقاسم امين( 1863-1908). لكن ما يعاب على تلك المشاريع امرين:
الامر الاول: ان اطروحاتها كانت تتبنى المنهج التوفيقي كما سمي لاحقا. بمعنى ان همها الرئيس يدور في التوفيق بين الفكر الاسلامي وبين الافكار الغربية وضرورة ان تتواكب الشريعة مع متطلبات العصر واحتياجاته المتنامية. لم يكن همها نقد وتفكيك الخطاب الديني بقدر اشتغالها على اظهار الاسلام بمظهر لا يتعارض مع الافكار المتقدمة في الدول الغربية.
الامر الثاني: يتعلق بعدتها النقدية والادوات التي استعملتها في مراجعتها للتراث. فهي لم تتجاوز افق طريقة الاجتهاد والياته المعروفة في الادبيات الفقهية الكلاسيكية .
بعد تلك البوادر الاولى وتحديدا في منتصف القرن العشرين برزت طروحات اخرى مثلت البدايات (الجادة) في سياق التعامل النقدي مع التراث وقراءة النصوص الدينية ليس عبر المنهجية الكلاسيكية بل بواسطة مناهج فكرية حديثة بدلا عن المناهج التقليدية في قراءة النصوص وهذا ما يتضح في طروحات طه حسين وامين الخولي ومحمد احمد خلف الله في مصر.
اما بداية السبعينات فقد سجلت الساحة الفكرية اهتماما من قبل الكثير من المثقفين بحقل نقد التراث وضرورة تكثيف استعمال المناهج الحديثة في قراءة التراث الديني. وهو ما دفع جورج طرابيشي بان يصف تلك الظاهرة بـ(العصاب الجماعي).
ما ميز اؤلئك المشتغلون في حقلي نقد الفكر الديني والنصوص المقدسة هو عدم امكانية وضعهم ضمن تيار فكري واحد او جماعة نقدية لها ملامحها وخصائصها التي ممكن ان تسمح لهم بالاجتماع معا تحت مظلة فكرية جماعية واحدة.
والسبب يكمن في اختلاف مشاربهم الفكرية وتوجهاتهم وحتى التقنيات والادوات المنهجية التي اعتمدوها في القراءة.
لكن مع ذلك ممكن تصنيفيهم على صنفين:
الصنف الاول: تعامل مع النص الديني على نحو غير مباشر. وهذا مثلا ما نلمسه في مشروع ومؤلفات الراحلين حسين مرة ومحمد عابد الجابري كما هو الحال مع مؤلفات كل من جورج طرابيشي وعبد الله العروي وسواهم.
وحتى بين هؤلاء نجد ثمة تباين واضح في العدة المنهجية التي استعملوها في مشاريعهم حول قراءة التراث.
الصنف الثاني: تعامل مع النص الديني على نحو مباشرة. ومع ذلك ايضا هناك استحالة في جمعهم تحت مضلة فكرية واحدة. للسبب ذاته الذي يتعلق بنوع المنهجية النقدية المستخدمة من قبلهم في مؤلفاتهم. وهذا الصنف على فريقين:
الاول: قامت دراساته على منهجية الاجتهاد الكلاسيكية وادواتها كـ(اعمال المصلحة ومقاصد الشريعة والتحسين العقلي) كجمال البنا ومحمد العشماوي ورضوان السيد، عمر عبد الرحمن، وفهمي جدعان الى حد ما وغيرهم. مع الاستفادة من المنهجيات الحديثة التي تخدم قراءة النص الديني. لكن تبقى العدة الكلاسيكية هي الاساس في اشتغالهم النقدي.
الثاني: اعتمدت كتاباتهم على المنهجيات الحديثة الغربية في قراءة النصوص كـ(محمد اركون وحسن حنفي ونصر حامد ابو زيد وطيب تيزيني ومحمد شحرور وهشام جعيط وبرهان غليون وسواهم).
طبعا مع الفروقات التي بينهم بسبب تعدد المذاهب والمدارس النقدية الحديثة.
الا ان ما جمعهم هو القناعة بعدم كفاية او عدم صلاحية العدة المنهجية الكلاسيكية في قراءة النص الديني والتراث الهائل الذي تراكم عبر السنيين.
وضمن هذا القسم يندرج المفكر الراحل نصر حامد ابو زيد الذي اصر على تبني القراءة العلمية والانسانية وابصار النص الديني عبر التاريخ.
فهو لم يقارب محاور فكرية quot;حساسةquot; وحسب تتعلق مثلا بنقد فكر الاسلام السياسي او باهمية تطوير الفقه الاسلامي كما دعا واشتغل على ذلك مفكرون اخرون.. وانما ذهب ابو زيد بعيدا فهو امن وعمل على مقاربة محاور quot;محرمةquot; تتعلق ببنية النص المقدس نفسه سواء النص النبوي او النص القراني.
من هنا الحديث عن المفكر الراحل يعني الحديث عن فكر مختلف وطرح جريء وعميق.
وبالرغم من ذلك ظل الراحل يعتبر نفسه امتدادا لتيار الخمسينيين الذي يضم طه حسين وامين الخولي ومحمد احمد خلف الله. وهو تيار أهم ما يميزه -حسب أبو زيدndash; قراءته للنصوص الدينية طبقا لآليات العقل الإنساني التاريخي(1) .

معنى التاريخية في مشروع ابو زيد
ربما من البديهي القول ان مفهوم التاريخية نشأ ونما في بيئة الفكر الاوربي ومنذ قرون عدة ربما تضرب بجذورها على نحو ما الى القرن السادس عشر الميلادي.
الا انه لم يتبلوركمنهج نقدي تعتمده مذاهب ومدارس فكرية الا في القرن العشرين. وهذا ايضا ما زال مورد جدل اكاديمي وبحثي حول دلالاته المقصودة. لذلك نجد احيانا ان العديد من المفكرين عندما يستخدمون هذا المصطلح يضطرون الى القيام بتقديم شرح وتعريف عن المعنى الذي يقصدونه. وهذا يكشف بأعتقادي عن تعدد في بنية المفهوم من مستخدم لاخر على الرغم من وحدة المصطلح.
وبشكل سريع، عادة ما يتم استحضار تعريف quot;آلان تورينquot; لمصطلح التاريخية، ربما لوضوح التعريف فهو يعّرف هذا المصطلح الاشكالي بـ(المقدرة التي يتمتع بها كل مجتمع في إنتاج حقله الاجتماعي والثقافي الخاص به ووسطه التاريخي الخاص به أيضاً). ويضيف آلان تورين: (ما سوف أدعوه بالتاريخية هو إذن الطبيعة الخاصة التي تتميز بها الأنظمة الاجتماعية التي تمتلك إمكانية الحركة والفعل على أنفسها بالذات وذلك بوساطة مجموعة من التوجهات الثقافية والاجتماعية).(2)
اما متى تم استخدامه عربيا او اسلاميا؟. فلا يوجد من أرخ لذلك، لكن من المؤكد ان استخدامه جاء متاخرا، وربما خضع ايضا لتحريف في مجال الدلالة والمفهوم، الى درجة ان هناك من استخدمه فقط للدلالة على العودة الى التاريخ ليس اكثر. لذلك مازال المفهوم بعيدا عن البيئة الفكرية والمعرفية العربية، بمعنى؛ انه مازال لم يتبيئ حتى الان. وهذا ينطبق على غيره من المنهجيات الوافدة.
ان اهم ما ميز عمل المفكر الراحل quot;نصر حامد ابو زيدquot; واشتغالاته المعرفية في مجال نقد النصوص الدينية-كما اعتقد- هو شغله المهم في تطبيق المنهج التاريخي في قراءة النصوص على مصدري التشريع الاسلامي ( القران والسنة). بوصفهما منتجان ثقافيان ماديان وبذلك ازال عنهما اهم سماتهما وهي القدسية.
ومعروف ان التقارير التي كتبت ضده وانتهت الى محاكمته اعتمد فيها محمد بلتاجي عميد كلية دار العلوم في جامعة القاهرة واسماعيل سالم عبد العال بالاضافة الى عبد الصبور شاهين قائد الحملة وصاحب الدعوة .. اعتمدت تقاريرهم على نصوص منتقاة من ثلاثة كتب رئيسية وهي ( نقد الخطاب الديني، الامام الشافعي وتاسيس الايديلوجية الوسطية، مفهوم النص دراسة في علوم القران).
كلها ndash;واعني- التقارير اعتمدت على نصوص تدور في فلك تاريخية النص القراني والدعوة الى التحرر من سلطته وعده نصا كباقي النصوص من حيث شموله بالمنهجيات والتقنيات المعنية بمعالجة وقراءة النصوص .
وقد دافع ابو زيد في اماكن عدة من مؤلفاته عن وصفه للنص القرآني بالنص التاريخي والثقافي وكان يرى ان وجهة نظره هذه لا تتنافى ولا تنفي مصدر النص الالهي. فـ(المصدر الإلهي للنصوص الدينية لا يخرجها عن هذه القوانين لأنها quot;تأنسنتquot; منذ أن تجسدت في التاريخ واللغة، وتوجهت بمنطوقها ومدلولها إلى البشر في واقع تاريخي محدد)(3) .
وكان يعتقد المفكر الراحل بان مفهوم التاريخية والمنهج الذي استخدمه في مؤلفاته ناله الكثير من الافتراء . والمشكلة تكمن quot;من وجهة نظرهquot; في ان هناك من يمارس مطابقة لما في الاذهان على مافي الاعيان.
ويقصد بذلك ان يقوم باسقاط ما في ذهنه على ما يقراه وهذا ممكن ndash; كما يقول- (ان نجد ما يبرره بقدر تعلقه بذهنية العوام لكن الظاهرة حين توجد في عقول المثقفين والنخبة من رجال الثقافة والاعلام، ومن المعلمين واساتذة الجامعات، تصبح علامة على وجود ازمة عقلية خطيرة تنذر بكارثة. وحين تتجاوز الظاهرة حدود العامة والنخبة وتصل الى عقول المتخصصين في مجال ذلك الفكر يكون ذلك دليلا على وقوع الكارثة. وهو الحاصل في مجال الفكر الديني وعند الكثير من علمائه المختصين)(4) .
فمالذي كان يقصده المفكر ابو زيد من وراء استخدامه لمصطلح التاريخية في توصيف النص المقدس واعني به القران.
فهل كان يقصد ان القران له وجودا حقيقيا في الزمان والمكان؟.
هل قصد انه ينتمي الى الماضي وحسب؟.
هل كان يقصد انه يرتبط بظروفه التاريخية انذاك؟.
اعتقد ان المفكر الراحل قصد كل تلك الدلالات عند استخدامه المصطلح.
لكن الدلالة الاشكالية والقضية الاساسية التي دارت عليها كتاباته هي الدلالة الثالثة. وهي ما يتم تداولها في تاريخ الفلسفة تحت عنوان (علاقة الفكر بالواقع). او(علاقة المعرفة بالاطر الاجتماعية) كما تعرف في العلوم الاجتماعية.
وقد وضع quot;ابو زيدquot; فصلا كاملا لتوضيح ما يقصده من مفهوم التاريخية ضمن، الفصل الثالث من كتاب quot;التفكير في زمن التكفيرquot; وتحت عنوان quot;مفهوم التاريخية المفترى عليهquot;
عّرف أبو زيد اقترابه هذا: تاريخية القرآن، بانه (مفهوم لا يعني دائما الزمانية، بل يعني أننا ملزمون باستعادة السياق التاريخي لنزول القرآن من أجل أن نتفهم مستويات المعنى وآفاق الدلالة، فنستطيع التمييز في مجال الأحكام والتشريعات بين مستويات لم ينتبه إليها أسلافنا)(5) .

وباختصار شديد ان ما قصده ابو زيد بتاريخية النص القراني معنيين:

المعنى الاول: ان النص نزل في التاريخ. بمعنى انه تشكل في واقعه، وزمانه، وخضع لمتغيراته ومتطلباته على مدار عشرين عاما. وهو quot;يتفاعل معه تفاعلا حراquot; .
المعنى الثاني: ان النص ينتمي لمكانه التاريخي، وبيئته الاجتماعية. لذا فهو يحمل ملامحهما وخصائصها. بمعنى انه انتاج محكوم بالحقل الاجتماعي والثقافي والسياسي للمجتمع. بتعبير الان تورين. او ان(كل النصوص-كما يقول ابو زيد- تستمد مرجعيتها من الثقافة التي تنتمي إليها)(6) .
وانها (ليست نصوصاً مفارقة لبنية الثقافة التي تشكلت في إطارها بأي حال من الأحوال والمصدر الإلهي لتلك النصوص لا يلغي إطلاقاً حقيقة كونها نصوصاً لغوية بكل ما تعنيه اللغة من ارتباط بالزمان والمكان التاريخي والاجتماعي)(7) .
وبهذين المعنيين تدور اعمال ابو زيد حول تارخية النص القراني.

وقد حاول المفكر الراحل في اكثر من موقع في مؤلفاته ان يدعم نظريته ومنهجه ويسوقه من داخل التراث وذلك باستدعاء مسألة خلق القران عند المعتزلة والجدل الكلامي الكبير بين المعتزلة والاشاعرة حولها، حول هل ان الكلام من صفات الافعال ام من صفات الذات الالهية.
فهو يرى أن القول بتاريخية النص القرآني فرع عن النظر الى الكلام الالهي بانه من صفات الافعال وليس من صفات الذات(8) .
طبعا ليس من السهل قبول هذا الكلام. على اعتبار ان المعتزلة بدفاعهم عن مخلوقية كلام الله كانوا يدافعون عن مفهومهم للتوحيد وليس اثبات تاريخية النص من حيث تشكله وتكونه.

ما سبب انتشار فكر ابو زيد؟.
ربما يتسائل العديد او يقف مذهولا امام الانتشار الواسع لافكار ابو زيد وكتاباته التي تتكرر طبعاتها باستمرار. فما سر هذا الانتشار؟. هل سبب شيوع مؤلفاته وارائه يعود الى حادثة اتهامه بالردة؟. ربما الامر كذلك، لكن ليست حادثة اتهامه السبب الوحيد والفريد، والا لنفض القراء من حوله بعد مرور فترة زمنية.
وهذا ما دفعني الى تثبيت نقطتين رئيسيتين اعتقد انهما وراء شيوع مؤلفاته وسطوع نجمه.
الاولى: وضوح ارائه وصراحتها وفي كافة المسائل التي اشتغل عليها بدءا من مسائل التشريع ومرورا بمسائل التوحيد وانتهاء بالوحي والقران.
الثانية: لغة جسورة غير خائفة ولا مراوغة فيما يطرحه. وايمانه بضرورة تبني خطاب ما اسميه بخطاب الصدمة واعني به ضرورة اعتماد ممارسة معرفيه صادمة لان المناقشة بهدوء ربما يتاخر تاثيرها ويطول.
طبعا هذا لا يعني ان خطابه خطاب للاثارة. لا على العكس، فقدكان للمنهجية الحديثة حضورها الواضح في مناقشته للنصوص الى جانب عمق دراسته وتناوله لمسائل التراث.
كان لا يكتفي بطرق الابواب وانما بعبورها الى الاسئلة المحرمة. لم يكتفي بطرح الاسئلة وانما كان يذهب بمنتهاها، لم يكن خطابه خطاب رد فعل وانما خطاب فاعل.
ما حصل لـquot;نصر حامد ابو زيدquot; في التسعينيات القرن الماضي من محاكمة فكرية أفضت الى اتهامه بالارتداد وما ترتب عليها من صمت الجامعة التي كان استاذا فيها، بل وخضوعها للحكم الذي صدر ضده وعدم وقوفها وتضامنها معه، ما حصل، لم يكن محنته فقط، بل هي محنة الثقافة العربية، التي تديرها طبقة من اللاعقلانيين الذي يمسكون اليوم بغالبية المؤسسات الثقافية الرسمية.
هو نكوص مرعب ومخيب للآمال، حتى بمقارنته مع مئة سنة ماضية اذا ما عادت بنا الذاكرة الى وقوف الجامعة المصرية مع طه حسين في قضية الشعر الجاهلي والتي لم تتركه وحيدا.

هوامش:
1 - د. نصر حامد أبو زيد، نقد الفكر الديني، (القاهرة: دار سينا للنشر، 1992، ص 8
2- محمد أركون الفكر الإسلامي قراءة علمية: 116.
3- نصر أبو زيد، نقد الخطاب الديني: 118-119.
4- التفكير في زمن التكفير: ص 199
5- نصر حامد أبو زيد، دوائر الخوف: قراءة في خطاب المرأة: 11.
6- نصر أبو زيد، النص السـلطة الحقـيقة، الفكـر الديـني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة: 8
7- نصر أبو زيد، النص السـلطة الحقـيقة، الفكـر الديـني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة: 92
8- أبو زيد، النص السـلطة الحقـيقة، الفكـر الديـني بين إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة: 75

كاتب عراقي