رواية جديدة لاحمد ابراهيم الفقيه: ابنة بانايوتي
الحلقة التاسعة والعشرون: بعد هروب السردوك

قبل اسبوع من انتهاء مهماته التحق به الكولونيل جون تاور، يشاركه المبيت في نفس البيت الحكومي، ويذهب معه الى المكتب ويلتقي معه بشيوخ القبلة واعيانها وموظفيها، ويباشر قراءة الملفات والتعرف على القضايا المعلقة، بمساعدة البريجادير هيوز، ليكون جاهزا لاداء المهمة لحظة اكتمال عملية التسليم والتسلم، وقد افهمه انه سيترك له السيدة التي تخدم المنزل وهي امراة سمراء متقدمة في العمر اسمها حواء، وزوجها الذي يعينها في العمل ويقوم بحراسة البيت ويسقي نباتات الحديقة ويقوم بغسل السيارة واسمه مرزوق، ولهما ابن وابنة متزوجان في احدى قرى الجنوب ويقيمان في غرفة مستقلة بمنافعها بجوار بوابة البيت، ولكنه سيحتفظ معه برجل ينتمي ايضا الى الفئة السمراء اسمه عثمان هو سائقه ومرافقه وسياخذ تقاعدا مبكرا من عمل الدولة ليتفرغ لمعاونته في عمله الحر.


24

لم يكن سهلا على بانايوتي اقناع انجيليكا بفكرة الزواج مجددا، بعد العرض الذي تلقاه من نائب الوالي. كان قد اقنع امها قبل ان يفاتحها في الموضوع واتفق مع الام ان الرجل يمثل فرصة ذهبية قد لا تتكرر، فهو رجل من طبقة الحكام، لم يسبق له الزواج، وينتمي الى نفس الدين، ويريد ان يعيش ويعمل في هذه البلاد، بل وفي نفس موقع الوكالة، ولهذا فهو يطلب منها ان تكون عونا له على اقناع انجيليكا، واخراجها من هذه الحالة النفسية، حالة النفور من الزواج، فليس كل الرجال الفونسو، وهي لا تترك الفونسو لتذهب الى السردوك، كما هو الحال مع العرض السابق، وانما لكي تذهب الى رجل بريطاني، صاحب مركز كبير في الحكومة، واذا تركه فالى عمل افضل واكثر تميزا في التجارة، ولا شيء يعيبه في سلوكه او اخلاقه، كما لا شيء يعيبه شكلا وعمرا، ثم بعد ان وجد استجابة من زوجته، اتفق معها على طرح الموضوع في جلسة تجمعهما مع انجيليكا، واستهل الاب الحديث عارضا رغبة هيوز في الاقتران بها، مبديا رأيه الايجابي في الرجل، ومباركته لهذه الخطبة، وعقبت كاتيا على كلام زوجها تؤيده و فتضيف هي ايضا مباركتها لمثل هذه الزيجة، ومع ذلك فقد جاءت اجابة انجيليكا تاكيدا لموقفها السابق النافر من الزواج، وسألاها ان تعطي نفسها مهلة للتفكير فيما قالاه لها،وان تفكر بشكل خاص في ظروف المعيشة التي يعيشونها في هذه القفار، فمثل هذا الرفض امر مقبول ومعقول لو انه حدث وهم يعيشون في اثينا حيث فرص الاختيار والاختلاط كثيرة امام امراة في مقتبل العمر، ترفض خطيبا واحدا وثانيا وثالثا حتى تجد الخطيب الذي تحب وترضى، ولكنها هنا في قفر من قفار الارض، وبيداء تحيط بها البوادي، وفرصة مثل هذا الخطيب الذي جاءها الان، راغبا في الحياة مع اسرتها في هذه الفيافي الجدباء، قد لا تتكرر خلال عشرين او ثلاثين عاما يكون خلالها قطار الزواج قد فاتها، ولهذا فان والداها يدعوانها لمعاودة التفكير، وتركاها نهارا وليلة وعادا اليها في اليوم التالي وامهلاها يوما ثانيا، وكانت امها اكثر الحاحا من والدها، حتى لانت عريكتها، وبقى شرطها الوحيد هو انها اذا تزوجته فانها لن تذهب معه الى أي مكان يذهب اليه، ولن تغادر اطلاقا هذا المكان حيث يعيش والداها، وكان هذا هو الشرط الذي وضعه هيوز في حسابه قبل ان يتقدم للخطبة، مستعدا لتلبيته لانه يتوافق مع رغبته الخاصة في ان يبقى عائشا في مثل هذه البيئة البدوية، وانتهز فرصة وجوده لوقت قصير في الوكالة اثناء الزيارة التي عرف فيها هذه الموافقة، وقام رفقة بانايوتي بجولة في محيط الوكالة لاختيار افضل موقع لبناء البيت، واختاره بعيدا بضعة مئات من الامتار عن ابنية الوكالة، حيت توجد تبة صغيرة، تعطيه ميزة الارتفاع على ما حوله، وايضا ليترك لنفسه براحا واسعا للبيت ولابنية اخرى تحتاجها محطة صيد الثعالب، قائلا لبانايوتي انه سيبنيه على طراز البيوت في بريطانيا من طابقين وله شرفات عالية واسقف يزينها القرميد الاحمر، ومن حوله حديقة وبالحديقة حوض للسباحة، وجوسق للجلوس تحت السماء المفتوحة ليلا وشرب الشاي مساء عند اعتدال الطقس، مع بانجالو لجلسات الصيف الليلية وحفلات البارباكيو، ويجب ان يكون هناك متسع خارج البيت لابنية اضافية جاراجات وزرائب لكلاب الصيد واسطبل للخيل مع محل لمبيت العمال، وبعد ان ترك الوكالة عائدا الى مزده، ظل همه هو ترتيب الامور لما بعد تقاعده المبكر من العمل العسكري، ومناقشة تفاصيل عمله الجديد مع اصحاب الشأن عند زيارته لطرابلس، والاتصال بالمهندس المسئول على رسم خريطة البيت والمرافق الاخرى ليباشرعمله وفق الرؤية التي يراها هيوز ووهو يفعل ذلك قبل ان يترك منصبه،كسبا للوقت ورغبة في ان تباشر الشركة اعمال التنفيذ في اقرب وقت ممكن.
جاء خبر هروب السردوك للصحراء، وتمرده على الحكومة، ليكون اكثر الاخبار اثارة بالنسبة لمجتع الوكالة، وكان موضع حديث من بانايوتي واعضاء جلسته من شيوخ النجع الذين وجدوا فيه سببا للقلق واخذ الحذر، فالسردوك لم يكن يخفي رغبته في الانتقام من بانايوتي، واصراره على فرض ارادته بالقوة عليه وعلى اسرته، ولن يزيده موقعه الجديد الا جموحا وجنونا في هذا الاتجاه، ولابد من التفكير في وضع التدابير الكفيلة بمواجهة هذا الخطر. لقد جاء ذات مرة جالبا معه تجريدة عسكرية يريد ان يحمي بها الوكالة من خطر الهجوم الطارقي، الذي لم يكن الا هجوما وهميا من اختراعه، اما هذه المرة فقد صار هو، ولا احد غيره، مصدر هذا الخطر، ويستحق تجريدة عسكرية اخرى استعدادا لمواجهة حقيقية معه، وبعد انقضاء الجلسة، اراد بانايوتي ان يستفرد بصديقه اوسادن في حديث خاص حول نفس الموضوع، قائلا له انه صار بامكان السردوك الان، ان يلجأ هذه المرة لتقليد من تقاليد اهل الصحراء في تحقيق مايريد، هو الغزو، ولابد كما يرى بانايوتي من الاستعانة بالحكومة لحماية الوكالة من هجومه المنتظر، ولكن اوسادن، الذي تربى في بيئة بدوية طارقية لا يدخل في حساباتها اللجوء الى الحكومة ولا الاستعانة بها ضد الخصوم، اقترح فكرة الدفاع الاهلي القائم على تكوين مجموعة متطوعي الوكالة للدفاع عنها، وبانايوتي يدرك وجاهة الفكرة، الا انها تحتاج لامكانيات لا تتوفر لمجتمع الوكالة بسبب اختلافه عن مجتمع العشيرة، نعم هناك نجع، وهنا نجع، لكن الفرق شاسع بين النجوع، نجوع البادية التي تعتمد على قوة من ابناء العشيرة لحمايتها، تقوم على صلة الدم وعصبية الرابطة التي تصنعها تلك الصلة، اما هنا فالناس اشتات،واعراق، والوان، لاتجمعهم الا صلة الجوار التي يحتمها البحث عن لقمة العيش، ولذلك فهو هنا مجتمع اقرب الى المجتمع المدني الذي يعتمد في حمايته على نوع آخر من العلاقات، غير العصبية العشائرية وعلاقة الدم، وهي تلك الناتجة عن الدولة وقوانينها، فهو هنا مجتمع لا يستطيع ان يعيش بعيدا عن تلك الانظمة وقوانينها وحمايتها، الا انه لا ينكر الصلة التي تربطة بمجتمعات البادية ونجوعها، من حيث البيئة والظروف والعزلة بين الجبال، والبعد عن مراكز العمران، ولهذا فهو سيحاول ان يجد صيغة تجمع بين الاقتراحين،اقتراح اوسادن باللجوء للجهد الاهلي، كما يحدث في مجتمع العشيرة، واقتراحه بضرورة الاستعانة بالحكومة، املا اذا تم ارجاء الفكرة لايام قليلة فسوف يعمل على الاستعانة بجهود السيد هيوز للحصول على هذا العون الحكومي وانشاء قوة من شباب النجع تتحصل على السلاح والتدريب من مصدر حكومي.
وفي اليوم الاول الذي اعقب انتهاء عمله الرسمي جاء هيوز الى الوكالة في سيارة صحراوية، يقودها عثمان، سائقه الذي تفرغ للعمل الخاص معه، وعرض عليه بانايوتي ان يستضيفه في البيت الذي كان اقامه للفونسو وابنته، باعتبار ان انجيليكا ستعود للاقامة في بيت والديها، الا ان هيوز قال انه لم يات الا لاستقبال شركة المقاولات التي ستباشر بناء البيت، لكي يريهم الموقع، وفعلا وصلت الشاحنة التي تقل مساحا وبعض العمال، لمعاينة الموقع والقيام بحفر الاساسات، حيث عاين معهم المكان، وتركهم يبنون هانجرا لاقامتهم ويبدأون الخطوات الاولى في تأسيس عالمه الجديد، ليقضى ما تبقى من يومه صحبة صهره الجديد في المكتب والبيت، مبلغا اياه بانه سيعود الى طرابلس لاستكمال اجراءات المحطة التي سيقيمها لصيد الثعالب، ولعله يأخذ اياما قليلة على سبيل الاجازة التي تعود ان يقضيها مع اصدقائه في مالطا، متسائلا ان كانت انجيليكا وامها ووالدها يأمرون بان يجلب لهم شيئا من رحلته في الخارج، وعندما لم يذكر له بانايوتي أي طلب خاص، تطوع بالقول انه سيقوم باحضار ثوب عرس جديد من مالطا لترتديه انجيليكا يوم عرسها، وهنا فاتحه بانايوتي بمخاوفه حول العراقيل التي يمكن ان يقيمها السردوك امام هذا العرس، الامر الذي رد عليه هيوز بحزم وقوة قائلا ان السردوك لن يستطيع ان يفعل شيئا فالبلاد ليست غابة، وهناك دولة لها قانون يحمي المواطنين، وفاتحه بانايوتي بالاقتراح الذي اتفق عليه مع اوسادن، ورغم تطمينات هيوز بان هناك قوة ضاربة من عناصر الامن خرجت لملاحقته ومحاصرته، ستجعله عاجزا عن تنفيذ تهديداته، الا ان بانايوتي ظل شديد الشك في ان السردوك سيخضع لمثل هذا الحصار الذي تفرضه عليه مجموعة من سيارات الامن في صحراء قوامها الاف الاميال، لانه سيجد وسيلة للنفاذ من حصارهم والتسلل الى اي مكان يستهدفه بالهجوم مثل هذه الوكالة، قبل ان يجدوا فرصة للانتباه اليه. ووعده هيوز بان يفاتح الكولونيل تاور في امر المعونة التي تريدها الوكالة، وسيتولى بنفسه الاشراف مع اوسادن على تاسيسها عند عودته، معبرا عن رايه في انه مهما كان خوف بانايوتي من السردوك فانه لن يشغل نفسه بالوكالة الا في حالة استفزازه باقامة العرس وهي مرحلة قادمة، سيكون الاستعداد عندها كاملا للتصدي له، وقبل انقضاء النهار غادر هيوز الوكالة، تاركا لبانايوتي واوسادن عبء التفكير في حماية الوكالة من أي تهديد مهما كان احتماله كما قال هيوز ضعيفا في هذه المرحلة، فهما لا يستطيعان اغفال الامر دون اتخاذ اجراء مهما كان ضئيلا، وتمثل هذا الاجراء في القيام بغفارة ليلية على الوكالة، يتناوب عليها سبعة رجال من اهل الوكالة، ولقيت الفكرة موافقة شيوخ النجع، بل تطوع عدد منهم للمشاركة في هذه الغفارة مثل الاومباشي جبران والسيرجينتي خليفة، كما شارك فيها بانايوتي واوسادن، وتم اختيار ثلاثة من شباب النجع يكملون العدد بحيث تحل الغفارة ليلة في الاسبوع على كل واحد منهم يقضيها يقظا، تحسبا لاي طاريء، ومن كان يملك بندقية جاء بها، ومن لا يملك تمت اعارته واحدة من البنادق خلال خفارته للوكالة.

وتتالت الايام دون ان تتعرض الوكالة لاي خطر، توارى الخريف وبدا الشتاء يطل بلسعاته الباردة، ساد الهدوء خلال هذه الفترة الانتقالية التي شهدت غياب ادارة قديمة ومباشرة ادارة جديدة مكانها، ولم تظهر اخبارا عن السردوك، فهم لم يقبضوا عليه بعد، الا ان نشاطاته في السطو والنهب ايضا غابت عن اخبار البادية، فقد جاء شلومو وذهب اكثر من مرة دون ان ينقل شيئا عن تحركات تلك العصابة، غير ان هذا الهدوء وهذا الغياب لاخبار السردوك لم يكن ليفرح بانايوتي كثيرا، فهو يعرف ان خصمه في مكان ما يضع اذنه فوق الارض ينصت لدبدباتها عله يتلقى نامة دبدبة قادمة من جهة الوكالة، تنبيء بمباشرة الاحتفال بعرس انجيليكا ليأتي متدفقا بخيول عصابته يداهم كالسيل هذا العرس، لكن ما طمأنه قليلا هو ان سيارة صحراوية عسكرية، جاءت من قبل الكولونيل تاور، تحمل شاويشا اسمه سليمان، كان قد وصل ضمن القوة التي جاءت لتعزيز مركز مزده، وكان رجلا فارع الطول، قوي البناء، عريض المنكبين، حاملا في سيارته عشرين بندقية، وخيمة، وشارة للرماية والتنشين، وحمولة من المواد الغذائية التموينية، وبسرعة اعانه اهل الوكالة في نصب خيمته، واختيار مساحة من الارض جعلها ميدانا للتدريب والرماية بعيدا عن مجال حركة الناس والحيوانات، وتم اختيار خمسة عشر شابا من شباب النجع، ممن لم يسبق مشاركتهم في المناوبة على الحراسة، ولا دراية لهم بالسلاح، ليبيدأ تدريبهم على اسس جديدة، وليكونوا نواة القوة الاحتياطية الموكول اليها حماية الوكالة، بمشاركة الشاويش سليمان، وباشراف ورئاسة اوسادن.
غاب هيوز ثلاثة اسابيع وعاد ليجد الوكالة في حالة استنفار لمواجهة أي هجوم يمكن ان يقوم به السردوك الذي ما زال هاربا في بعض فجوج الجبال، لم تستطع فرق المطاردة العثور عليه بعد مروراكثر من شهرين على اختفائه، وقد امضى الشاويش سليمان اسبوعين في تدريب الشباب الذي ابدوا اجتهادا ونجابة في الانتفاع بما يتلقونه من دروس، ووجد ان الكولونيل تاور كان كريما مع هؤلاء المتدربين عندما طلب منهم التفرغ تفرغا كاملا للتدريب مقابل تعويضهم ماديا عن الدخول التي يحصلون عليها من جمع الحلفاء، ويحتفظون بعد الانتهاء من التدريب ببنادقهم ويعودون لمواصلة عملهم في جمع الحلفاء، في حالة استعداد دائم لاي ظرف طاريء يقتضى استدعائهم للدفاع عن الوكالة، وفي ذات الوقت واصل اعضاء الحراسة مناوبتهم، وباعتبار ان هيوز جاء ليقيم بضعة ايام في الوكالة فقد وافق على اقتراح بانايوتي باستخدام بيت ابنته خلال هذه الاقامة القصيرة، لان ظروف تجهيز المحطة، تقتضى ان يتردد كثيرا على طرابلس، لانه حال الانتهاء من تجهيز البيت سيبدأ في العمل يعاونه اثنان من الصيادين المهرة الذين سياتون بكامل عدة الصيد من طيور الافتراس وكلاب الصيد غير سيارتي جيب لاستخدامهما في العمل، وما تتطلبه عمليه صيد الثعالب من بنادق صيد واستخدام جواد او اثنين في المناطق الشديدة الوعورة التي لا تدخلها السيارة، بالاضافة الى سيارته التي يتنقل بها لان، وسائقها الذي يلازمه في حله وترحاله، وقد خصص له مكانا للاقامة المؤقتة مع عمال البناء، يشاركهم مبيتهم ويتابع معه اعمالهم وينقل الى المساح تعليمات رئيسه هيوز، وكان مجيء فريق البناء قد تبعه، مجيء شاحنة تحمل الة حفر عملاقة تسمى
quot;الصونداquot; مؤهلة للغوص في اعماق الارض مئات الامتار وصولا الى الماء في منابعه التي تختفي في الطبقات الصخرية السفلى، للحصول على مورد غزير ودائم للماء، ولانه اتضح ان المياه ستكون ساخنة وبها نسبة من الكبريب، فقد تم الاتفاق على بناء بحيرة صناعية امام البيت الجديد، لتكون مكانا لتبريد الماء وتصفية الكبريت الذي سيبقى في قاع البحيرة بعد استقرار الماء فيها فلا يطفو الا الماء الصافي الصالح للاستهلاك البشري والحيواني واستخدامه في سقي المغروسات،وهي فكرة رحب بها هيوز ليس فقط للضرورات العملية، وانما لما رآه من انها تخدم جانبا جماليا، فهذه البحيرة الصناعية ستجعل بيته يشرف عليها، وبامكانه ان يحدث تعديلا فيصنع شرفة كبيرة تطل عليها، ومن ناحية ثانية فوجود الماء في البحيرة سيكون متيسرا في كل وقت ليستطيع أي عامل ان يحمل خرطوما يسقى به الغلاف النباتي المحيط بالبيت، وقد اثبتت ارض الوكالة، من خلال ما زرعه بانايوتي من اشجار ونباتات انها ارض صالحة لانبات الاشجار المثمرة متى توفرت المياه، فلعله يستطيع ان يحقق حلما صغيرا بان ينقل الى هذه البيئة اخضرار وجمال الاشجار في كورنويل من اطلال بيوتها على الماء كما هو حال بيته وبيوت العائلة المطلة على المحيط، مستفيدا في ذات الوقت من دفء الطقس هنا ووجود الشمس المشرقة المشعة في في كل الفصول. وكان اول شيء فعله بعد عودته واستقراره في بيت ابنة صاحب الوكالة، هو ان قام اثناء وجود بانايوتي معه في البيت واحضر له صندوق الكرتون واخرج منه الفستان اللامع البياض كالثلج، فستان الفرح، هدية منه لخطيبته ترتديه ليلة الزفاف، كما اراه مجموعة من الحلي من بينها شبكة الخطوبة وهي طقم يتكون من اسورة وخاتم واقراط ودبلتين، اراد ان تراه خطيبته، ليقوم في الايام القريبة القادمة بتقديمه رسميا اليها ووضع خاتم الخطوبة في اصبعها، الا ان بانايوتي اقترح الا يقام فرح بالغناء والزغاريد والموسيقى، لكي لا يثير ضجيجا يلفت الانظار وتصل اخباره الى السردوك، المهم حسب رايه هو ان يقام حفل الخطوبة في اطارعائلي ضيق، لاشهار وتاكيد هذه الرابطة، والوفاء بهذا التقليد الذي يسبق العرس، مؤجلين الاحتفال الكبير الذي تصدح فيه الموسيقى وترتفع فيه العقائر بالغناء الى ان يحين موعد العرس الذي سيقام بعد الانتهاء من بناء البيت وتأتيثه، ولم يكن هيوز يعنيه ان تكون الخطوبة محفوفة بضجيج الغناء والموسيقى او لا تكون، المهم بالنسبة له ان المرأة التي سكرت بخمر جمالها الرؤوس قد اصبحت من نصيبه، موعود بها هو وحده، رفيقة لعمره وشريكة لحياته، وبادر بان اتفق مع ابي فاس بشراء عدة خراف تم نحرها لتكون وليمة عظيمة تصل قصاعها الى كل خيمة وكوخ من خيام النجع واكواخه، واكتفى بحفل صغير صامت في بيت صهره بانايوتي لم تحضره غير اسرة العروس واوسادن وزوجته حيث جلس بجوار خطيبته يضع خاتم الخطوبة في يدها.

وكان يأمل بعد انتهاء الخطوبة ان يستفرد بها متنزها معها في فترة الغروب عبر الخلاء المحاذي للوكالة، الا ان والدها مسايرة لقواعد التعامل في المجتمع البدوي الذي يحيط به، لم يستطع الموافقة على تلبية هذه الرغبة التي ابداها السيد هيوز، لكي لا يثير القيل والقال، راجيا اياه ان ينتظر حتى اقامة حفل الزفاف، ولان هذا التواصل مع خطيبته بقى محظورا، فقد غادر الوكالة ليواصل اتصالاته مع مندوبي شركة الفراء في طرابلس ومقاوليها، وافلح في اقناع المقاول الذي يتولى تشييد المباني بمضاعفة الجهد واضافة مزيد من العمال والالات لانجاز المشروع باكثر سرعة، وعاد الى الوكالة ليراقب بنفسه المراحل الاخيرة في البناء واخذ مقاسات الابواب والنوافذ وتوفير الرخام والزليج والمواد الصحية لتكون كلها جاهزة للتركيب، كما قام باكثر من زيارة الى موقع التدريب، وشارك في تعزيز هذا العمل باحضار مدفع رشاش، من مركز مزده، او ما يسمى طقطاقه، استطاع الفوز بها من خليفته الكولونيل تاور، الذي يلتقى به في اجتماعات تشاورية دورية، القى دروسا للمتدربين عن كيفية استعمالها، وحضر في ذات مساء حفل التخرج الذي تمت اقامته للمتدربين واعاطائهم شهادات تحمل اسماءهم، باتمام عملية التدريب، واستجاب الكولونيل تاور لطلبه بان يبقى الشاويش سليمان بسيارته وخيمته، للقيام باعمال الحراسة على الوكالة طالما ظل السردوك طليقا لم يتم القبض عليه، وكعادة الطبيعة في فصل الشتاء داهم الوكالة اكثر من وابل من المطر، كان غالبا ما ياتي ليلا ولا يستمر لغير ساعتين او ثلاث ساعات ولكنها كفيلة باحداث سيول عبر المسارب التي تغذي صهاريج الماء، ويستعد لها اهل النجع باحاطة خيامهم واكواخهم بسواتر ترابية تمنع تسرب المياه الى داخلها، وكان يوم الشجرة الذي تحتفل به البلاد والذي يقوم فيه الناس بغرس الاشجار قريبا فاقترح هيوز على اهل الوكالة ان يشاركوا في هذا اليوم، وان يستفيدوا بالشتلات التي يتم توزيعها مجانا من مكاتب الحكومة، وارسل سائقه عثمان الى مزده لاحضار نصيب الوكالة من هذه البذور والشتلات للمشاركة في يوم الشجرة طالبا من اهل النجع ان يخصصوا ساعة واحدة في الصباح قبل ذهابهم الى الشعاب لهذا العمل، وتم اختيار المناطق بمعرفة المساح ومشاركة كل من هيوز وبانايوتي، التي يتم فيها وضع هذه الشتلات والفسائل والبذور، وعندما انتهى اهل النجع من هذه المهمة عائدين الى شعابهم واصل مع سائقه عثمان غرس مزيد من شتلات وفسائل الاشجار التي يريدها ان تحيط ببيته وتكون موجودة في حديقته، بعد ان تكفل جمهور النجع بغرس تلك التي تحيط بالموقع المرسوم للبحيرة الصناعية، وهي البحيرة التي سيبقى حفرها مؤجلا الى حين الانتهاء من تشييد المرافق الاساسية للمشروع.