عبدالجبار العتابي من بغداد: تحت عنوان (يوسف العاني و 67 عاما من العطاء)، ولمناسبة زيارته لبغداد، احتفى محبو العاني به في حدائق منتدى المسرح بشارع الرشيد، فيما غاب الكثيرون من اهل المسرح والفن.
على الرغم من الاسم الواضح للفنان يوسف العاني الا ان هناك من لا يزال ينظر الى هذا الاسم بضبابية، ويرى ان الاحتفاء بيوسف العاني ضرب من الجنون او المبالغة، كأنه يريد ان يقول ان الرجل لم يعد يستحق الاحتفاء به وقد بلغ من العمر عتيا!!، وهذا الكلام كان يردده البعض مع الاعلان الذي اعلنه صالون المنتدى الثقافي في بغداد من انه سيحتفي بالفنان يوسف العاني بمناسبة عودته إلى العراق بعد مرور خمس سنوات على مغادرته البلاد، وهذا الصالون الثقافي عائد لمنتدى المسرح التابع لدائرة السينما والمسرح مساء يوم الاربعاء، وكنت شاهدا على الفكرة التي طرحت على العاني ورفضها اولا لكن الحاح الاخرين واصرارهم على الاحتفاء به ما دامه متواجدا في بغداد، وهو المقيم في الاردن منذ سنوات لاسباب تتعلق بصحة زوجته، فلم يجد الا ان يرضح للطلب وان لم يحدد وقتها موعد الاحتفاء بالضبط، وهو ما ذهب اليه بعض المتحدثين في الحفل في الرد على من لايرى اي جدوى في الاحتفاء بالعاني.
قدم للاحتفالية الفنان سعد عزيز عبد الصاحب الذي قال اولا: سألني احد الاصدقاء عن جدوى تكرار الاحتفاء بالفنان يوسف العاني؟ فقلت: الى الان لايزال الاحتفاء مستمرا في روسيا بميلاد غوركي وفي المانيا بميلاد غوته، وبالصعود الاول لستانسلافسكي على خشبة المسرح في روسيا، وهم في ذمة الرفيق الاعلى، فلم نستخسر احتفاء يليق بالمبدع الكبير يوسف العاني وهو بين ظهرانينا، والذي لم يسكت هاتفي الا قبل لحظات للسؤال عن موعد الاحتفال ومكانه وتوقيته؟، اذن.. دعنا ياصديقي نقم احتفالنا ولتكن اول الحاضرين.
ثم اضاف: فمن هو يوسف العاني؟ انه المبادر الاول في مسعى الواقعية النقدية في النص العراقي الشعبي بعد ان كانت النصوص تتحدث عن موضوعات القصور واصحاب البلاط وشخصياتها وموضوعات الوقوع في الحب والخيانة والرومانسية الكوميدية المنقولة من موضوعات موليير والموضوعات القومية العروبية التي تأخذ من شخصيات صلاح الدين الايوبي والحاكم بأمر الله على وفق شكل تخديري انبهاري بالشخصية المقدمة، الا ان العاني حاول ان ينطلق من موضوعات عضوية تهم الجماهير وتوعيهم بمشكلاتهم الاجتماعية والاقتصادية والطبقية وذلك في مسرحيات (تؤمر بيك) و (فلوس الدوه) و (ست دراهم) و (ايراد ومصرف) و (انه امك ياشاكر) و (صورة جديدة)، واستلهام الموروث الشعبي وقصائد الملا عبود الكرخي والشكل البوليفوني للمنظومة الصوتية والموسيقية في توليد نص عرض يتمد قدرة تعبيرية تدعم المضمون الدرامي كما في مسرحية (المفتاح) وظلت موضوعة الطبقية والاستئثار بالمال العام من قبل الشخصية البرجوازية والسلطوية والانحياز للشغيلة على حساب المرؤوسين ديدن العاني في نصوصه اللاحقة كما في (الخرابة) و (الخان) و (الشريعة)، وفي المسرحيات اللاحقة ايضا بدرجة وعي اكبر وبتصريح اقل كما في (الامس عاد جديدا) و (نجمة) وغيرهما، على ان المنع طال بعض مسرحيات العاني ومنها (الجومة) وناله شخصيا في ستينيات القرن المنصرم الى ان عاد عام 1968 ليكمل المسيرة مع فرقته الاثيرة (فرقة مسرح الفن الحديث) التي شكلت حاضنة للوعي الشعبي بالمسرح ودلالاتهالاجتماعية والثقافية لدى الجماهير التي كانت تزحف الى مسرح بغداد لتجد العاني وخليل شوقي وقاسم محمد ونجوم الفرقة باستقبالهم.
وقال الفنان جمال الشاطيء: ثم من يعترض على تكريم فناننا القدير يوسف العاني، وآخر يقول: أليس هناك احد غير العاني، وثالث يستنكر هذا الاحتفاء كون العاني اخذ حقه في زمنه وكفى، ولكن ثمة مثل شعبي عراقي يقول (الما يعرفك ما يثمنك)،يوسف العاني يمثل جيلا مسرحيا ليس جيلا عاديا، جيل مضحي،مناضل، قدم الكثير ولم يأخذ الا القليل، ولا توقف عند محطة مهمة في حياة هذا الجيل وبهذا نتعرف كي نثمن.
واضاف: ان النظرة الاجتماعية المتدنية للمثل ظلت سائدة لعقود من الزمن وكان للجيل الذي ينتمي اليه العاني الفضل الاكبر في تغيير هذه النظرة، حيث اسس حقي الشبلي (المربي الراحل) فرع التمثيل فأنتمى الى هذا الصرح شبان من اكرم العوائل واشرفها، وهؤلاء قلبوا الامر رأسا على عقب، فأحترم الجمهور البغدادي المسرح من خلالهم، لذلك لا اجد الا ان اقول لأولئك المستنكرين والمحتجين انهم انفسهم الذين جاءوا بالغانيات وبنات الليل من الملاهي الى مسرحنا ليعيدوا تلك النظرة القديمة الى ممثلينا.
فيما قال نقيب الفنانين العراقيين صباح المندلاوي: يوسف العاني اسم لامع وعلم في سماء المسرح العراقي، قدم الكثير واعطى الكثير واعماله المسرحية منذ عقود طويلة وهي تمثل على الخشبة ووجوده في فرقة مسرح الفن الحديث باعتباره المؤسس وسكرتير الفرقة ومع زملائه لعبوا دورا مهما وقدموا رسالة انسانية وهذا هو مفهوم المسرح بنظرهم وانه يلعب دورا في تغيير المجتمع وتطويره وكل ما من شأنه الارتقاء بالمجتمع العراقي.
واضاف: الفنان الكبير يوسف العاني يستحق التكريم والاحتفاء به وهذا ما دأبت عليه المؤسسات الفنية العراقية لما للرجل من ريادة وتاريخ مسرحي يعرفه الجميع.
ثم فسح المجال للعاني للحديث فقال اولا: ايها الاصدقاء، ايها الاحبة، ايها الاعزاء، لا ادري كيف ابدأ، انا احبكم، احبكم جميعا لسبب بسيط انكم تجلسون في ارض تنتمي الى المسرح، صحيح ان المسرح يجمع عددا كبيرا من المشاهدين ولكن مجيئكم هذا اليوم اسعدني،وانا ثقوا لا ادري بالاحتفال سوى انني دعيت لان يحتفى بي، ولا ادري من سيحضر ولا ادري بوجود هذه الصورة التي تقف خلفي ولا ادري من سيتحدث ولا ادري ماذا سأتحدث؟، لانني رأيت هذه الايام مناسبتين عزيزتين كريمتين عندي في تاريخي المسرحي، الاولى: انني لا اعلم متى كان يوم ميلادي سوى انني ولدت على سطح عال قرب نخلة تمر البربرن في الفلوجة، اما في اي يوم ثقوا بي لا ادري!!، لكن ادري انني وقفت اول مرة على خشبة المسرح في يوم 24 شباط / فبراير عام 1944.
وأوضح: وقفت ولا ادري ما التمثيل سوى انني كنت اقلد النسوان اللواتي يأتين الى بيت اخي وكيف يتحركن ويتهامسن وكيف وكيف، واقلد المدرسين ومن اعجب بهم ومن لا اعجب بهم، هذا الشيء لعب، في ذلك اليوم الذي وقفت فيه على تلك الخشبة قبل 67 سنة وجدت نفسي مخرجا لانني كاتب (التمثيلية) وليست المسرحية كما كنا نسميها، ولكن مدرس اللغة العربية صحح لي وانا اقول (تمثيلية) فقال: قل: مسرحية، ومن هو الذي يحرك الجالسين في مقهى (جايخانة) مقهى صغيرة وقعت فيها حادثة طريفة جدا فأعجبتني هذه الحكاية فسطرتها كما يحلو لي ولا ادري كيف، واجتمعنا نحن خمسة شخصيات في الصف الرابع الثانوي وشخصان من الخامس، واتفقنا على ان نقدمها على المسرح، وكانت في حفلة تعارف للطلبة، المشرف على تلك الحفلة، مدرس مادة النبات، في الثانوية المركزية ببغداد، قلت له انا عندي تمثيلية اريد ان اقدمها في الحفلة، فقال (هل هي تضحك؟) فقلت له: نعم.. تضحك!!، اجبته بسذاجة، وقلت له تضحك وتقهر ايضا، قل لي: اذن قدمها، لكنني قلت كيف سأقدمها؟ فقلت لاصدقاء لي، الله يرحمهم، انا الوحيد بينهم ما زلت حيا، من الذين مثلوا معي، مصطفى الخضار ورشيد النجار وغيرهما، فقرأنا فكلنا نريد ان نمثل، فالمكان كان مقهى تخيلتها كما شاهدت الحادثة فيها في سوق حمادة، انت اجلس هنا وانت هنا وكذا وكذا والفكرة كانت بسيطة وطريفة، ضحك الناس وخلصت المسرحية وخرجنا سعداء فمسكني المدرس الذي كان مشرفا على الحفلة، فقال لي: ماذا تريد ان تقول بهذه التمثيلية؟ فقلت: لا شيء، فقال: لا لا، انت طلعت الشرطي يرتشي وهذا يعني ان تمثيليتك ضد الحكومة!!!، وهذا معارضة للسلطة وللحكومة، وطلب ان لا افعلها ثانية، هنا.. طرقت اذني كلمة لم نكن نعرفها، وبقيت في رأسي، ولكن النقطة الثانية ان التمثيل ليس قضية ان الشخص يعجبه ان يقلد ذلك او يضحك او يبكي الاخرين، ولكن اهم شيء الخلق، العلم، هاتان القضيتان في بدايتي كانتا اكبر من قابليتي وطاقتي على فهمها.
وتحدث عن علاقته بالفنان الكبير الراحل ابرهيم جلال قائلا: كنت جالسا على المسرح وانا اتصبب عرقا بعد ان انهيت مسرحية المونودراما (مجنون يتحدى القدر) واذا بأحدهم يفتح باب المسرح من الخلف ويدخل وكانت ملابسه غاية في الاناقة، كنت قد سمعت به ولكن لم اتعرف عليه، واذا هو ابراهيم جلال، نظر الي ثم قال: اين كنت انت؟ (هاي انت وين جنت)، ثم لفلفني بكلامه، وبعد حديث بيننا حصل تأثير منه ان ادخل معهد الفنون الجميلة / القسم المسائي كطالب، كان قبلي في المعهد الاساتذة سامي عبد الحميد وبدري حسون فريد، ولدينا وظائفنا وكنت انا محاميا، فانجمعنا زكانت هذه البداية لتأسيس فرقة المسرح الحديث اولا، وقدمنا اعمالا، وفعلا صيغة معهد الفنون تغيرت كلها، كان يقدم كل سنة مسرحية واحدة في مناسبة تتويج الملك او غيرها،مسرحيات تقليدية، لكننا بدأنا نبحث وصرنا نعطي للقضايا بعدا اخر، حتى صار هناك تحسس من السلطة ان هذه المسألة تمسهم واحيانا كنا نبالغ ـ مثل اننا ذات مرة لم نجعل احدى الحفلات تحت رعاية وزير المعارف بل تحت رعاية محمد مهدي الجواهري ونحن في معهد الحكومة، وهذا لا يجوز، فكانت الناس تحضر العروض بشكل كبير ولعدة ايام، فانتبهوا لنا وبدأوا يضايقوننا حتى فصلوني من المعهد، ولاننا كنا بدون نشاط قررنا ان تؤسس فرقة المسرح الحديث، ابراهيم جلال هو من تبنى الموضوع لانه الوحيد، وكانت الفرق المسرحية في ذلك الوقت تابعة لوزارة الشؤون الاجتماعية مثل الملاهي، يعتبرون المسرح ملهى، قدم ابراهيم طلبا واجيزت الفرقة المسرحية في الثالث من نيسان / ابريل عام 1952، لهذا انا دائما احتفل بمناسبتين هما: وقوفي على المسرح يوم 24 شباط واحتفل بتأسيس فرقة المسرح الحديث والتي استمرت ولي شرف عضويتها الى حد الان.
وقال: هناك من يتساءل: اين هي فرقة المسرح الحديث؟ فأقول انها باقية والى الان هي باقية وحينما حدث احتلال العراق كتبت مقالا قلت فيه: بلا امان لايمكن للمسرح العراقي بالذات ان يحقق هدفه ويثبت تأثيره واثره، لهذا حينما يسألونني في مناسبات عربية: هل يوجد مسرح عراقي، اقول: لا يوجد مسرح عراقي بالصيغة التي كانت سابقا لكن المسرحيين العراقيين موجودون.
وجاءت الكلمات الاخرى التي تحدث بها البعض ممتدحة للمسيرة الخالدة للفنان العاني التي امتدت الى 67 عاما، واشاروا الى بعض الذكريات التي اوضحت التزام العاني ونهجه المتطور في المسرح.