من نافذة غرفتي العلوية أرنو الى الخارج، فضاء ممتليء بالدهشة، بمرئيات عينيْ مجنون أو معتوه. أعجزُ عن حصرها.أصدقاءُ الطفولة عادوا من قيعان ماضيّ البعيد. وهم كُثرٌ، لكنّ بينهم مَنْ تربطني بهم صلاتٌ وثيقة. ولم يمحُ الزمنُ ذكراهم. بيدَ أنّهم عادوا فجأةً ملطخين بالوحل والطين. واستطاع ابراهيم أدهم وحدَه أن يفلتَ من تماهيه. أزاح عن سيمائه طبقة الطين. بدا بشوشاً طلقَ المُحيا مليئاً بالمفاجأة. جلسنا في قاعة الدرس كما في سنواتنا الغابرة. نضحكُ على زميلنا نزار وقد تلقى من المعلم جمال صفعةً ظلت أصابعه مرسومة على جبهته اليسرى طوال ذلك اليوم. كما رآه جميعُ طلبة الصف وهو يبللُ سرواله بالبول من هول الصفعة. وسال من فوق ركبتيه وساقيه وتسرّب في جوربيه. وعمَ القاعة طوفانٌ من الضحك الهستيري لم يسكته سوى زمجرة المعلم وهو يلوّحُ بعصاه في وجوهنا. مُهدّداً ايانا بعقاب جماعي. لذلك بلع كلّ أحد منا ضحكته وكتم صوته. رجع نزارُ محبطاً الى مكانه، تحتقنُ حُنجرتُه بالبكاء. وعاقبه المعلمّ بسبب خطأ في كتابة جملة ٍ، قرأها عليه. لكنْ لمَ لا يتبوّلُ الآخرون ابان يُعاقبون ويُضربون. وبضمنهم أنا،عندما ترشقُنا صفعاتُه وضرباتُ عصاه. علق ابراهيمُ بخبث:
-نزارٌ مُدللٌ في البيت، لم يتلقَ ضرباً من أبويه. وكلما أخطأ تجئْه نصيحة ٌ، وكلامٌ ناعمٌ. لأولِ مرّة يُصفعُ على جبهته، عليه أن يتعلّمَ مثلنا، فنحنُ في البيت وفي المدرسة تنزلُ علينا صواعقُ من العصي والصفعات من قبل آبائنا. وتعودنا الضربَ والشتائم والركل، حتى الفلقة تلقيناها من الملا في الكتاتيب قبل دخول المدرسة. نزارٌ أبوه قائمقام المحافظة، له خبرة تربوية كما يقولُ اخي. يعامله واخوته بالنصيحة من دون تأنيب. لذلك صعق نزارٌ وصُدمَ، لأولِ مرّة يُضرب بوحشية. بضربة دوخته وبال أمامنا.
اذن، عاد ابراهيم من سديم سنواتنا العابرة ليُذكرني بهذه الحادثة. جاء من المجهول، من زمن غرائبي واخترق نافذة غرفتي، عابراً النهر الذي يُحاذي جدارَ بيتنا السميك. لكنْ، لمَ ترك ابراهيم زمانه المُغبَرّ المليء بصور الماضي واناسه واحداثه وضجيجه.. ورجعَ الزمنُ البعيدُ بكلّ خلائقه وبكمّ سنواته المُلطخة بالطين والضباب والقتر والنسيان؟ يقفُ ابراهيمُ الى جواري طريَّ العود مليئاً بالعنفوان والحيوية، سألني: متى انتقلتم الى هذا البيت؟ اتذكر بيتكم في محلة المصلى داراً متهافتة تصدعتْ جدرانها. أجبته بلا مبالاة: لا أعرف، فجأةً وجدتُني هنا، وهذا بيتنا يلامسُ هذا النهر. لكنْ ما الذي جاء بك اليّ وكيف اخترمتَ كلّ تلك السنوات المنطفئة المنسية، ولمحتني خلل الزحام؟ اُوه، ردّ وهو يصفعُ الهواء بيده، لمَ تسألني أسئلة لا أقدر على الإجابة عنها. حتماً أنتَ تحلمُ، وقد استقدمتَني من متون ماضينا الآفل. أنا أيضاً اشتطُّ أحيانا واستقدم من أشاء من اصدقائي. بل جئتك بهذه الجورية الحمراء لتهديها الى سلطانة التي لم تزل جمرة تومضُ في ذاكرتي. كنا نُحبّها جميعاً. لكن كنتَ أثيراً لديها أكثر منا. لذلك جئتُ بها لتكون هديتنا جميعاً لها. اتدري؟ ما زلتُ احتفظُ بها من ستين عاما مضت. وظلت ريّانة مؤتلقة تحتفظ بروائها وعطرها. فهل بوسعك أن تُعطيها اياها ذكرى من زمن البراءة والأحلام الفجة. قلتُ له: لكن لا أعرف مكانها, تقولُ اُختي: انها الآنَ جدة ولها سبعةُ أحفاد من ولديها. و زوجُها قُتلَ في الحرب العراقية الإيرانية ابان ثمانينيات القرن الماضي. لقد شاخت وتجعّد إهابها / لا، صاح ابراهيم، هي هناك، اشار بيده الى المشهد وراء النهر. حيثُ تشتبكُ الحوادثُ والأيام الماضيات، لقد رأيتها بعينيّ، ولمّا تزلْ في عنفوانها / لمَ لا تقوم أنتَ بهذه المهمة، ألم تكن قربَها، وأنتَ تعرفها مثلي، هي بنتُ محلتنا؟/ أجابني بحدّة: أيّها الماكرُ، أنتَ تُربكُ عقلي، مَنْ منا كان يجرؤ على التقرّب منها؟ وحدَك حظيتَ بهذ الإمتياز. لذلك اتوسلُ اليك أن تُحققَ لي هذه الرغبة. قلْ لها إنها من ابراهيم، احتفط َ بها من زمن الطفولة، وينبغي أن تتقبليها منه. فأنتِ شظية ٌ من ديجور ماضيه، شعلة ٌ كان يستضيءُ بك. / سأقبلُ القيامَ بهذه المهمة، أجبته، لكن كيف أجدها بين آلاف الناس، كيف الجُ هذا الخضم؟ حتماً سأضيعُ ثمة َ / يا ناكرَ الجميل، صاح ابراهيمُ، أنسيتَ أنك تحلمُ، وفي الحلم يستطيعُ المرءُ أن يُمسك بالمستحيل...؟؛؛ ثمّ نَسِينا الزهرةَ، لا أدري ما الذي فعلنا بعدئذٍ. هل التقيناها وهي جدة، لها أحفادٌ سبعة تتكدّسُ عليها أمراضٌ شتى. وهل تتذكرنا بعد ستين حولاً؟ ويلكزني ابراهيمُ لائماً: الحبُّ في زمن الطفولة مثلُ جرح ٍ على اليد، كلما نظرتَ اليه تذكرتَ السكين التي جرحتك/ عندئذٍ امسك بيدي وسحبني بعيداً عن عُزلتي،الى أينَ سألتُ؟ / الى أيّ مكان.. والمكانُ الذي احتوانا كان يُقام فيه احتفالٌ خطابي، فأزدحم سمعي بالضجر والنكد والملل وكادت انفاسي تتقطعُ لولا أني سحبتُ جسدي الى الخارج، الى الهواء الطلق.ورميته خارج الجحيم التي رماني ابراهيم اليها. فجأةً التمّ حولي أصدقاءُ الطفولة، احسان، نزار، نجدة، نوزاد، جميل، وآخرون نسيتُ أسماءهم. طلبوا اليّ ان أقرأ عليهم احدى قصصي، واقترح ابراهيم أن تكون قصة: صحوة الدُمى: انها عذبة، لقد استنطقتَ الجماد وجعلتَ كائناته تتصرّفُ بإيقاع حضاري، وبعقلانية أفضل من البشر. غبئذٍ غشيتني الحيرةُ وتصدّع عقلي. تركني ابراهيمُ، وغادرني. ثمّ تبعَه صحبي. عدتُ الى ملاذي مرّة اخرى. ووجدتُني أقفُ لصق النافذة أرنو الى مياه النهر الجامحة, الى ما وراءها حيثُ الخلائقُ تشتبكُ وتضطربُ خلل الغبار والقتام.. انطفأ الفضاء أمامي وتبدّدَ كلُّ شيء، كأنْ لم يكن أبداً. ما عدا هذه النافذة وهذا المرأى القاحل. ثمّ أطلّ الربيعُ يجرّ اوائله، يلامسُ الشجر والأرض والهواء والنفوس. اختفى ضجيجُ الحلم، كائناتُه التي ازدحمت قُبالتي في لحظة عابرة، جامحة.. هي حالة ٌ تجيءُ وتروحُ وَفقاً لمزاج ٍ نفسيٍّ غالباً ما يكون في مدّ وجزر....