محمد الحمامصي من القاهرة: لأول مرة يقدم بحث أكاديمي عن أطفال الشوارع الذين يقيمون في الشارع بالفعل وليس في إصلاحيات وأماكن احتجاز مختلفة. البحث صدر حديثاً عن الدار المصرية اللبنانية في كتاب بعنوان quot;أطفال الشوارع: الجنس والعدوانيةquot; تأليف د.رضوى فرغلي.
وذكرت فرغلي أنها عانت لعدة أشهر للقاء العشرات من أطفال الشوارع في أماكنهم الطبيعية على هامش الحياة، وتحت الجسور وفي الميادين العامة، حيث صاحبتهم وأجرت عليهم الاختبارات النفسية المختلفة.
يقع الكتاب في نحو 150 صفحة ويضم خمسة فصول هي: من هم أطفال الشوارع؟، كابوس عالمي، هكذا يبدأ التشرد، الأرانب والمومياء، وأخيراً: جنس وعدوان وأشياء أخرىquot;.
وعبرت د.فرغلي عن سعادتها الكبير بإنجاز هذا المشروع الذي كلفها الكثير من الوقت والمال، وعرضها لمخاطر مختلفة نظراً للاحتكاك المباشر بفئة قررت التمرد على المجتمع والعيش خارج أطره المتعارف عليها. خصوصاً أن من التقتهم لا يخضعون لمؤسسات رعاية، وهاجس العقاب إذا أخطأوا. مؤكدة أنها كشفت في هؤلاء جوانب إنسانية مضيئة وجديرة بالانتباه إليهم، وعدم التعامل معهم باستعلاء ونبذهم كلياً.
تقول الكاتبة quot;ياسمينquot; (11 سنة) وهبها الله جمالاً واضحًا جعلها مطمعًا لأصحاب الضمائر الميتة. تختفي يومين أو ثلاثة ثم تعود بوجه باهت، تعاني حروقًا في مؤخرتها نتيجة إطفاء أعقاب السجائر بعد ممارستها الجنس مع أحد المشوَّهين أخلاقيًّا مقابل خمسة جنيهات!
quot;محمدquot; (9 سنوات) لم يمر على هروبه من المنزل أكثر من عام واحد، لكنه لم يفلت من زملائه المستغلين الأكبر سنًّا، كنت أراه مرة واحدة كل أسبوعين تقريبًا، ينظر إليَّ بعينين حمراوين لا يفارقهما بكاء صامت، وأعرف منه أن هذا أو ذاك قد أجبره على الفعل الجنسي مقابل quot;شد الكُلةquot; والإنفاق عليه لأنه لم يكن يعمل! ومن أصعب المواقف التي واجهتها، ما حدث مع quot;سعيدquot; (17 سنة) شاب عدواني جدًّا، قوي البنيان، يتحرك بسرعة كبيرة مثل المارد، من الصعب السيطرة عليه (قيل لي إنه قبل 6 سنوات تم القبض عليه في قضية بيع حبوب مخدرة، واستطاع أحد أفراد العصابة إخراجه من quot;الحبسquot; بعد شهرين بشرط أن يفتدي نفسه بالممارسة معه شهرًا كاملاً بدون أجر، بعدها حلق رأسه تمامًا وعُرف بـquot;زلطةquot;)، رأيته ذات مرة في الشارع يحاول إجبار طفل صغير على الذهاب معه إلى مكان مهجور يطلق عليه quot;الخُنquot;، وحين رفض الطفل لكمه لكمة قوية فوقع على الأرض، فحاولت التدخل لكي يتركه لحال سبيله؛ مستغلة العلاقة الهادئة نوعًا ما بيني وبينه، لكنه لم يستجب لي وهددني إن لم أكمل طريقي وأنس الموضوع سيكون ذلك خطرًا على هذا الطفل، وقبل أن أتوقع نوع الخطر الذي سيلحق بالطفل كانت قطعة quot;الموسquot; قد صنعت سيلاً من الدم على خده الأيمن. أُصبت بدوار خفيف للحظات ولم أستطع إلاَّ أن أمشي يسكنني إحساس بالخوف والارتباك. أما quot;عادلquot; فقد غاب فترة طويلة، وباءت كل محاولات البحث عنه بالفشل، إلى أن نبهنا أحد زملائه أنه ربما يكون محجوزًا في quot;الثلاجةquot;، حيث كانت لهذا الزميل تجربة سابقة. وبرغم أنني سبق وسألت عنه في قسم الشرطة ونفوا وجوده، إلاَّ أنني كررت المحاولة، وفي هذه المرة قابلت ضابط شرطة تعاطف معي ومع ما رويته له عن حالة الطفل، وقلت له إنه ربما يكون محجوزًا في quot;الثلاجةquot;! أرسل معي عسكري إلى غرفة معزولة بعيدًا، مظلمة، ضيقة، وخالية من كل شيء إلاَّ مجموعة من الأطفال المقيدين ببعضهم بعضًا على شكل دائرة. أصبت بذهول حين رأيتهم، بالكاد تعرفت على quot;عادلquot; وأخذته معي.. أتذكر أنه ظل صامتًا حزينًا ما يقرب من شهر، لا يتناول الطعام إلاَّ بإلحاح شديد، وكأنه مسلوب الوعي!
وقالت فرغلي quot;هؤلاء وغيرهم من أطفال الشوارع علموني أشياء كثيرة، وتركوا في داخلي رغبة قوية في استكشاف واقعهم، ومساندتهم قدر استطاعتي.. بينهم رأيت مجتمعًا آخر صنعوه على أنقاض إنسانيتهم.. مجتمعًا متماسكًا، وإن كان مشوهًا، من الصعب اختراقه أو التمرد عليه.. واخترعوا لأنفسهم عالمًا معتمًا يتلقف العضو الجديد بطقس quot;التعميدquot; ليصبح الجنس أولى خطوات الاندماج فيه، وبالتالي يكون العدوان على الذات والمجتمع أول رد فعل للامتهان المقبول ظاهريًّا والمرفوض لاشعوريًّا، حيلة لحماية الذات من الانهيار.. ففي مجتمعهم المهمش، زواج وطلاق، وتقسيم طبقي، وتقاليد ومباديء لا يفلت المخالف لها من العقاب الشديد، دون أن يجد قانونًا يحميه أو يدافع عنه لأنه ببساطة يعيش في مجتمع خلق لنفسه قانونه الخاص!quot;.
وأضافت quot;حين بدأت العمل معهم كان لديَّ بعض التوجس والخوف بحكم ما كنت أسمعه عن كونهم فئة quot;مجرمةquot; وقلوبهم ميتة، لا يتورعون عن عمل أي شيء حتى القتل، وأن ألسنتهم لا تحمل السب والشتائم البذيئة فقط، إنما تخفي تحتها قطعًا من الأمواس يمكن أن تشوه وجهك في quot;غمضة عينquot; إذا دخلت معهم في معركة خاسرة!quot;.
ينفرد الكتاب بكونه أول دراسة أكاديمية في العالم العربي تتناول من منظور نفسي laquo;أطفال الشوارعraquo; الذين يقيمون في الشارع بالفعل، حيث لا توجد دراسات عربية تناولت الإساءة إلى أطفال الشوارع، وتأثير مدة الإقامة في الشارع على التوافق النفسي لهؤلاء الأطفال.
من ثم تكتسب الدراسة أهميتها من خلال التركيز على الأطفال المقيمين بصفة دائمة في الشارع كعينة للبحث، وليس على أطفال الشوارع المقيمين في المؤسسات أو الذين يتلقون رعاية أو اهتمامًا من أي جانب، ما يجعل النتائج أكثر مطابقة لواقعهم وظروفهم الصعبة. كما ترصد الدراسة العلاقة بين الإساءة، خصوصًا الجنسية، والعدوان وتقدير الذات.
وقالت د.رضوى فرغلي إن هذا الكتاب الثاني لها بعد كتاب laquo;بغاء القاصراتraquo; الصادر عن دار المحروسة، والذي نفدت طبعته الأولى، ضمن مشروع سيكولوجي طموح، لرصد الشرائح المهمشة أو المدانة اجتماعياً، والتفاعل المباشر معها، للخروج بأفضل النتائج الممكنة والمفيدة في علاج الظواهر النفسية والاجتماعية المختلفة.
وأضافت: ليس من السهل على أطفال ومراهقين أن يتخذوا من الشارع بيتاً ووطناً، وخلال اشهر البحث الميداني صادفت العديد من النماذج التي أثرت فيّ، منهن laquo;ياسمينraquo; (11 سنة) التي وهبها الله جمالاً وجعلها مطمعًا لأصحاب الضمائر الميتة. تختفي يومين أو ثلاثة ثم تعود بوجه باهت، تعاني حروقًا في جسدها نتيجة إطفاء أعقاب السجائر بعد الممارسة مع أحد المشوَّهين أخلاقيًّا مقابل خمسة جنيهات! وأيضاً laquo;محمدraquo; (9 سنوات) الذي لم يمر على هروبه من المنزل أكثر من عام واحد، لكنه لم يفلت من زملائه المستغلين الأكبر سنًّا، وكنت أراه مرة واحدة كل أسبوعين تقريبًا، ينظر إليَّ بعينين حمراوين لا يفارقهما بكاء صامت
واختتمت د.فرغلي كلامها بالقول: إذا كانت بعض التقارير، غير الرسمية، تتحدث عن وجود مليوني طفل شارع في مصر وحدها، فنحن إزاء مشكلة من أخطر المشكلات التي تواجهها المجتمعات العربية، لأنه ما أسهل استغلال هؤلاء الأطفال في الجرائم المنظمة، ومختلف قضايا الفساد، بما في ذلك الفساد السياسي، كما رأينا أخيراً في توظيف هذه الفئة في أحداث مجلس الوزراء في مصر. وهذا الكتاب لا يدين هؤلاء الأطفال، لأنهم غالباً ضحايا أسر ومجتمع، وإنما يسعى لتعميق إدراكنا بهذه الظاهرة، أملاً في تخفيض أعداد اللاجئين إلى الشارع، ووضع البرامج الإرشادية التي تعين أطفال الشوارع على التعامل مع الضغوط النفسية والاجتماعية التي يواجهونها وهم يعيشون بعيدًا عن أسرهم تحت وطأة ظروف قاسية، كما يمكن الإفادة من نتائجها في تطوير سياسات اجتماعية وتربوية لاحتواء الظاهرة وخفض معدلاتها، وتوافر مقياس للإساءة بكل أنماطها، هو الأول من نوعه عربيًا.