تناول السفير العراقي لدى المنظمات الدولية للغذاء والزراعة في روما في حوار مع إيلاف قضايا تتعلق بالأمن الغذائي في العراق واستراتيجية مكافحة الجوع وأوضاع العراق المائية في ظل بناء سدود سورية وتركية ومدى نجاح المبادرة الزراعية الحكومية واستراتيجية مكافحة الجوع في البلاد.

قال السفير العراقي لدى المنظمات الدولية للغذاء والزراعة في روما الدكتور حسن الجنابي إن تحقيق الامن الغذائي في العراق يواجه تحديات في مقدمتها الاستقرار الأمني والسياسي، واشار الى ان الاهتمام بالريف العراقي وتحسين ظروف حياة سكانه هي جبهة موازية لجبهة مكافحة الأرهاب وتحقيق الاستقرار الوطني. وقال الجنابي في حوار اجرته معه quot;ايلافquot; حول تأثير الاستثمارات النفطية في مناطق زراعية شاسعة على الانتاج الزراعي في العراق،إن أنشطة الشركات النفطية الأجنبية والوطنية يجب ان تخصع لمراقبة صارمة كي تلتزم بالمعايير البيئية التي تحتم إحترام التنوع البيولوجي والخصائص المحلية وخصوصًا في المناطق الرطبة او الأهوار العراقية، حيث يمكن استخراج النفطوتصديره دون التأثير على نظامها الأيكولوجي والخدمات التي تقدمها للسكان بما فيها الحصول على موارد غذائية مهمة للمائدة العراقية.

وتناول الحوار قضايا مهمة تتعلق بالامن الغذائي في العراق واستراتيجية مكافحة الجوع واوضاع العراق المائية في ظل بناء سدود سورية وتركية ومدى نجاح المبادرة الزراعية الحكومية واستراتيجية مكافحة الجوع في البلاد. وهنا مضمون الجزء الاول من الحوار مع سفير العراق لدى المنظمات الدولية للغذاء والزراعة المعتمدة في روما (منظمة الفاو، وبرنامج الغذاء الدولي، والصندوق الدولي للتنمية الزراعية) :

ما هو المطلوب من الدولة العراقية لتحقيق الأمن الغذائي في البلاد؟ وهل هناك امكانية لتحقيق ذلك في الظروف الحالية؟

- بالنسبة للشق الأول قد يبدو ماهو مطلوب من الحكومة (وليس الدولة) بسيطا لتحقيق الامن الغذائي من الناحية النظرية، وهو خلق اقتصاد زراعي قائم على الربحية وزيادة الانتاج وليس الاحتفاظ بعيشة الكفاف او العيش على حافة الفقر كما هو الوضع اليوم في القطاع الزراعي. فالمزارعون في الدول المتقدمة هم من أثرياء المجتمع، وفي العراق هم افقر فئات المجتمع، وتحاول الحكومة مساعدتهم على البقاء في أرضيهم ودعم المداخلات الزراعية، كالبذور والأسمدة والمبيدات، وغيرها والاهتمام بالمخرجات وشراء الإنتاج وما شاكل، مما لا يمكن الاستمرار به الى الابد.

إن الحكومة مسؤولة عن تحقيق التنمية الاقتصادية، وبالأساس منها التنمية الريفية، التي تسمح للمجتمع بإنتاج غذائه او الحصول عليه من السوق، بصورة مستقرة وبعيدة عن التقلبات. والحكومة مسؤولة أيضًا عن تطوير وتطبيق حزمة من السياسات المتقدمة التي تخلق شروط انتاج زراعي ناجح، وتسهيل الاستثمار، وتطوير البنى التحتية في الريف، وأعادة النظر بالقوانين السائدة بما فيها تأجير او تمليك الأراضي الزراعية، والرسوم والضرائب وغير ذلك، اضافة الى العمل الجاد لتقليل الفوارق بين الريف والمدينة.

أما بالنسبة إلى الشق الثاني من السؤال، فالوضع الحالي في العراق هو بدون شك صعب للغاية بسبب حجم التحديات، واولها الاستقرار الأمني والسياسي، لكن تحسين الوضع الزراعي والاهتمام بالريف هو من صلب العمل الذي يؤدي الى استقرار أمني وسياسي. ان الاهتمام بالريف العراقي وتحسين ظروف حياة سكانه هي جبهة موازية لجبهة مكافحة الأرهاب وتحقيق الاستقرار الوطني، وبالمناسبة فإن الكثير من مشاكل المناطق الريفية واختناقاتها، وخصوصًا اللوجستية منها، يمكن حلها على مستوى الحكومات المحلية.

هل تعتقد ان العراق قادر بأوضاعه الراهنة على مواجهة التحدي الاستراتيجي في تحقيق أمنه الغذائي؟ وما المطلوب لإنجاز ذلك؟ ومتى يمكن تحقيقه؟

- إن وصف quot;الأمن الغذائيquot; كتحدٍ استراتيجي هو وصف موفق. فهو ليس هدفًا يتحقق مرة واحدة او لفترة زمنية قصيرة ويتنهي الأمر. كما انه ليس سباقًا او منافسة يجب الفوز بها، بل أنه هدف دائم، يتحقق عندما تطمئن فئات المجتمع كافة على ان حصولهم على طعامهم أمر محسوم، ولا يتعرض للتهديد في الاسبوع المقبل، او الشهر المقبل، او السنة المقبلة، الا في حالات الكوارث الطبيعية، حيث يمكن أن تحصل quot;أزمة غذائيةquot; نتيجة لظرف طارئ، وانذاك تقدم الحكومة والمجتمع الدولي ما يسمّى quot;مساعدات غذائيةquot;.

كما يختلف الأمن الغذائي أي (Food Security) كذلك عن السلامة الغذائية اي (Food Safety )، فالأخيرة هي جزء من الأمن الغذائي، وهي ضمان ان الغذاء المتاح للمواطن سليم، وخال من الجراثيم وصالح للاستخدام وغير ذلك. إن العراق قادر- دون شك - على تحقيق أمنه الغذائي، خلال فترة قصيرة نسبيا، اذا ما تحقق مستوى مناسب من الاستقرار الأمني. ولكن الأمر يتطلب، الى جانب ذلك، جهدًا مركزًا ومستمرًا، وانفتاحًا على المبادرات الجديدة، وخلق أفضل الشروط للقطاع الاستثماري الخاص في الزراعة، ومرونة ادارية، الى جانب الحسم المطلوب بالقضايا الرئيسة التي تعكس توجه الحكومة لتأمين صرامة تطبيق القوانين وحماية الانتاج الزراعي الوطني.

يتطلب الأمر كذلك استكمال مشاريع استصلاح التربة على وجه السرعة، واستخدام انظمة ري حديثة على مستوى العراق، وتطوير البنى التحتية، من تخزين ونقل منشآت للصناعة الزراعية وغيرها. ومعلوم ان هذه الاجراءات تتطلب استثمارات تقدر بعشرات المليارات من الدولارات، وهنا يجب التذكير بأن البطاقة التموينية تكلف خزينة الدولة اكثر من اربعة مليارات دولار سنويًا لاستيراد مواد من خارج البلاد، فكم من الميارات صرفت منذ بدء تطبيقها في العام 1991، دون ان تخلق عنصرًا واحدًا من عناصر الانتاج داخل العراق؟.
ولكن المشكلة الأساسية ستبقى في الطاقة الكهربائية، التي بدون حلها لايمكن الحديث عن نجاح اية تجربة تنموية في كافة قطاعات الاقتصاد العراقي.

الى اي مدى تعتقدون ان العراق سيتأثر بمنع تصدير القمح الروسي. ومتى وكيف سيتمكن الانتاج المحلي من سد حاجة البلاد الى القمح والرز؟

- الحرائق التي التهمت القمح الروسي لهذا العام، والتي تفاقم تأثيرها بفعل الفيضانات المأساوية في قلب المنطقة الزراعية في باكستان، اربكت سوق الغذاء العالمي، وخاصة سوق القمح بالرغم من ان الاحتياطات الخزنية كافية لهذا العام. الا ان استجابة اسعار السوق كانت مفاجئة وسريعة حيث سجلت بنسبة زيادة جاوزت الـ 50% وأرسلت موجة خوف من زيادات مستمرة تشبه ماحدث في عام 2008 من قفزة كبرى في اسعار الغذاء في ضوء الأزمة المالية الدولية التي عصفت بالأسواق، وأضافت ملايين البشر الى قائمة الجوعى في العالم عبر القارّت.

أما العراق فهو غير معزول عن السوق العالمي، بل انه يعتمد الى درجة كبيرة على إستيراد إحتياجاته الغذائية من الأسواق العالمية، التي تقترب من اربعة ملايين طن من القمح سنويا، ولكن المؤشرات الحالية تدعو للتفاؤل منها ان إنتاج القمح لهذا العام في العراق يبشر بالخير ويزيد على المليون طن، إضافة الى أن مخزون هذا العام يعتبر كافيا، ولكن حجم الخراب الذي حول روسيا وباكستان من مصدرّيْن للقمح الى مستورديْن له يعتبر عاملا مربكا يستحث المضاربات والتلاعب وإستغلال الفرص، وسيكون كارثيا لو تكرر المشهد في الأعوام المقبلة. والعراق بحاجة الى تحصين وضعه الذاتي وقدرته على توفير الغذاء لمواطنيه، وأن لايصبح عرضة لمضاربات السوق. وإذا ما صحت تقديرات وزارة الزراعة العراقية، فالعراق سيكون قادرًا على انتاج مليون الى مليوني طن اضافي خلال السنوات القليلة المقبلة.

ما هو تأثير الاستثمارات النفطية الضخمة الموقعة عقودها أخيرًا على الزراعة في العراق في ظل وجود هذه الحقول النفطية تحت اراض تستثمر زراعيًا حاليًا وبشكل منتظم؟

- المناطق المستثمرة زراعيًا والقابلة للزراعة في العراق تزيد على العشرين مليون دونما، وليس للأستثمارات النفطية علاقة مباشرة تؤثر سلبيًا على الزراعة، بل ان زيادة موارد البلاد وثرواته وعائداته المالية من تصدير النفط، ستسهم في تحقيق تنمية اقتصادية كبيرة في البلاد تساعد على تأمين الغذاء للمجتمع العراقي.

فالأمن الغذائي يتحقق بتوفرالمواد الغذائية في الأسواق، واستقرار إمداداتها، وقدرة المواطنين على شرائها، أو إنتاجها وإستخدامها. ولاشك فإن استغلال حقول النفط سيوفر مصادر إضافية للمجتمع لتحقيق أمنه الغذائي، الى جانب متطلبات أخرى. ولكن لابد من التأكيد هنا على أن أنشطة الشركات النفطية، الأجنبية منها أوالوطنية، يجب ان تخصع لمراقبة صارمة كي تلتزم بالمعايير البيئية التي تحتم إحترام التنوع البيولوجي، والخصائص المحلية وخاصة في المناطق الرطبة او الأهوار العراقية، اذ يمكن استخراج وتصدير البترول دون التأثير على نظامها الأيكولوجي، والخدمات التي تقدمها للسكان بما فيها الحصول على موارد غذائية مهمة للمائدة العراقية.

كيف يمكن للعراق ان يستغني عن استيراد المنتجات الزراعية بشكل عام من الخارج؟

- المشكلة ليست في استيراد المنتجات الزراعية من الخارج، بل بقدرة المجتمع على الحصول على كفايته من الغذاء، بغض النظر عن كونه منتجا محليا او مستوردا، وبحيث يتمتع المواطن بالأصناف الغذائية المنوعة وذات الجودة العالية التي تسمح له بالعيش بظروف صحية كريمة. ولكن الوضع في العراق يحتّم مقاربات أخرى، فالزراعة هنا يمكن ان تكون مصدرًا كبيرًا للثروة، وليس فقط مصدرًا للقضاء على الفقر، بل يمكنها تحقيق الرفاهية وتطوير الريف والمدن. خذ على سبيل المثال استراليا وهي بعدد سكان اقل من سكان العراق، وموارد مائية محدودة وغير مضمونة، فإنها تحقق عائدات من الزراعة تزيد على (30) مليار دولار سنويًا، ومن القمح وحدة تنتج (25) مليون طن، مقارنة بمليون وربع المليون في العراق لهذه السنة التي تعتبر سنة رحيمة!، والعراق يحتاج الى (4) ملايين طن فقط في السنة، وانا أعتقد أنه يمكن لمحافظة نينوى لوحدها ان تنتج نصف هذه الكمية اذا توفرت شروط معينة تعتبر بسيطة بكل المقاييس.

الى اي مدى نجحت المبادرة الزراعية الرسمية المعلنة منذ ثلاثة اعوام في تحقيق اهدافها؟

المبادرة الزراعية هي مثال آخر على رغبة الحكومة العراقية في توفير موارد إضافية للقطاع الزراعي، خارج نطاق الموازنة السنوية للدولة، واختصار الطرق التي يعتقد انها بيروقراطية ومعيقة للتنمية الريفية، وذلك بتولي السيد رئيس الوزراء شخصيًا للجنة العليا للمبادرة، وما يضمنه ذلك من غطاء تنفيذي حاسم للقرارات التي تتخذ ضمن المبادرة. ولدي في هذا الصدد ثلاث ملاحظات:

أولاها هي ان القطاع الزراعي ليس قطاعا مستقلا بذاته، بل انه يعتمد على فعالية القطاعات الاخرى، كقطاعي الموارد المائية، والطاقة الكهربائية، اضافة الى قطاعات البنى التحتية واللوجستية الاخرى كالنقل، والتجارة، واسعار السوق، والسيطرة على الحدود او انفلاتها وغيرها، ولذلك لا يمكن قياس نجاحه او فشله بمعزل عن القطاعات الاخرى، كما هو حال قطاع البترول مثلا الذي قد يقاس اساسًا بالكميات المصدرة منه يوميًا او شهريًا.

وثانيها ان الاستثمار بالقطاع الزراعي هو استثمار طويل المدى، مقارنة بالعديد من الميادين الأخرى، وبالتالي لا تظهر نتائج الجهد المبذول لتطويره بنفس الموسم او السنة، خاصة في قطاع تراكمت فيه أخطاء عشرات السنين وتحطمت بنيته التحتية، وتراجعت ربحيته وأمسى معتمدا فقط على دعم الدولة لأكثر من اربعين عامًا.

وثالثها هو ضرورة تحويل المبادرة الى مؤسسة قائمة بذاتها، لها بنيتها الادارية المستقلة، وميزانيتها وأهدافها وبرنامجها المحدد بسقف زمني، وليكن خمس أعوام مثلاً، الى ان يقف القطاع الزراعي على قدميه، ولكي يتسنى تقويم عملها ومديات تأثيرها على القطاع الزراعي، وقياس فعالية اجراءاتها. اما الآن فحدودها غير معرّفة كما ينبغي، وهي تقوم بدور تكميلي بين وزارتي الزراعة والموارد المائية، دون ان تكون لها شخصيتها المميزة. إن هذا لايقلل من ان المبادرة اسهمت في تفعيل القطاع الزراعي وشجعت الاستثمار فيه بشكل غير مسبوق، ويؤمل أن تظهر نتائجها في السنين القادمة.