رد على الدكتور صالح لمعي في مؤتمر المعماريين العرب في حلب

على هامش حضورنا الى مؤتمر المعماريين العرب الذي عقد في مدينة حلب السورية في أواسط شهر تشرين الثاني-نوفمبر-2006، و بمناسبة إختيار حلب عاصمة للثقافة الإسلامية لهذا العام، تسنى لنا متابعة أحداثه والإطلاع على ما طرحت به من أفكار، ورصد توجهاته التي غلب عليها التسييس والترويج وربط الأمور بمرجعيات، و مواقف السلطات ومناخاتها، وتحاشي quot;كما ديدن إجتماعات النخب العربيةquot; إثارة نقد لتشريع أو جهة فاعلة أو ممارسة على الأرض، أو تاسيس لألية نقدية بنائة تصوب الأخطاء الفادحة حد الكوارث، أصابت البنية العمرانية العربية كالهدم المنظم للتراث وتشويه المدن وتوسعاتها السرطانية، وإشاعة الإبتذال السوقي والتلوث البصري الذي أبتلت بها المدن وأنعكس على طبيعة المجتمعات، فامست ضائعة بعد أن أضاعها التخلف أساسا.
أكتفى المؤتمر بطقوس الشكل على حساب المضامين، فبالرغم من وجود كفاءات علمية وبحثية حاضرة تستمع ولا تعلق، ورغم محاولة البعض إثارة نقاشات نقدية جدية كما فعل الدكتور مشاري النعيم من السعودية في محاضرته، أو رئيس الهيئة الدكتور رهيف فياض رئيس الهيئة من لبنان أو الدكتور الشاب لؤي الجبوري من العراق، بمداخلاتهم إستثناءا، لكن البعض خرج quot;ممتعضاquot; من الطروحات (المدرسية) الذي يحتاجها الطلبة أكثر من أساطين العمارة. كل ذلك النأي عن سوي الأمور، فتح المجال أن ينبري رهط من فرسان هذا المؤتمر وكل مؤتمر. فثمة مشاركون دائمون، يعيدون كل مرة قراءة مقالاتهم، مع إضفاء دعابات هنا أو مقبلات وتوابل هناك، ليوحي بفرق مع محاضراتهم السابقة.
وقد كان فارس هذا المؤتمر المصري الدكتور صالح لمعي، المرمم والمنظرالمعروف، وصاحب المدونات المعمارية المتعددة، و الذي يحمل على كاهله 50 عاما من الكتابة بالشأن الفني والمعماري.بيد أن مالمسناه في محاضرته هنا خطابا وصفيا وإنشائيا ينفع في النشر الصحفي، نائيا كأكاديمي مرموق عن التحليل اللبيب، والتركيز والإختصاص بمادة أو حقبة أو موضوعة نقدية. فقد شمل حديثه عن العمارة منذ نشوء الخليقة حتى آخر منشأة تبنى اليوم. وما كان ملفتا لنظرنا هو تعصبه لمقاله، ورفضه النقد أو النقاش، بعدما تقمصته روحا إستشراقية، تروم تكريس المركزية الغربية، التي عفا عنها حتى أهلها. وينطبق عليه مقولة الإمام أبو حامد الغزالي (المقلد لايصغي).
وفي مداخلة لنا لتوضيح رأينا بهذا الطرح الذي تبناه الدكتور لمعي ورهط من حرس التدوين الفني والمعماري القديم، أردنا أن نلفت النظر فيه بأن ثمة ثابت ومتغير في كنف الثقافات، والعمارة وجه وممارسة مادية فيها. وثمة رسوخ في المنجز المعماري لكل إقليم، ونأخذ هنا العراق كمثال صريح، فلا فرق تحليلي بين المشيدات السومرية والبابلية ووريثتها العباسية والإسلامية اللاحقة، فقد أعتمدت على خامات مشتركة وأستغلت وأبدعت عناصر هيكلية ومعمارية وفنية بعينها، مع إختلاف في ماهية التفريغ الفني أملته الوسائل المتاحة و التطورات التي طرأت على الفكر، ولاسيما بعد ظهور الإسلام وتبنيه لخطاب جديد. وبالرغم من ذلك فأن ثمة الكثير من المشتركات الفنية في الخامة و الشكل والموضوع واللون والملمس والتشكيل.
وهكذا خلصنا في مداخلتنا الى أن العراقيين وكذلك الشاميين القدماء بنوا قبل الإسلام مثلما بعده، ولم يخذلوا تراثهم إلا في الأزمنة الحديثة، حينما غزتهم الحداثة المعمارية. وان العراق والشام مثلما مصر كانوا معلمين موهوبين للأغريق والرومان وخليفتهم بيزنطه من جهة والفرس وآخرهم الساسانيين من جهة أخرى، وأن هؤلاء كانوا دائما مستعيربن ومستهلكين للعمارة أكثر من مبدعين لها ورواد لمبتكراتها، بالرغم من الإبهار المتعمد والدعاية والترويج.
وبالنتيجة فأن عمارة الشعوب الإسلامية مكثت أمينة على الثابت المعماري الإقليمي للحقب السالفة، وأنها جددت نفسها وتوائمت مع الإرتقاء الجديد، بعد أن جدد الإسلام حركية الحياة لتلك الشعوب التي قبعت ردحا في الظل والإستغلال، ووهبها إنطلاقة جديدة وسمى بمقدراتها وكرس حدا مقبولا من الممارسة الاخلاقية في ثناياها ولاسيما العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وهكذا فأن العراقيين قد مارسوا عمارتهم السومرية والآشورية في كنف الإسلام وأن الشاميين قد جددوا عمارتهم الكنعانية والعمورية والفينيقية إسلاميا، ولم تكن لهم حاجة أن يتسولوا أو يستعيروا طرزا من بيزنطه وساسان، كما يذهب الخطاب الإستشراقي في تفسيره للظاهرة المعمارية الإسلامية.
لقد كان العراقيون روادا في إختراع الطوب و الآجر أو الطابوق (والكلمتان سومريتان أسترسلتا في العربية). وبما أن التسقيف هو غاية العمارة ومقصدها، فقد سقفوا بالعناصر الثلاث وهي العقد (القوس) والقبو(الطاق) والقبة.ومن الجدير ذكره في السياق الإصطلاحي فأن كلمتي (قبو وقبة) تمتا الصلة لنفس الأصل الإيتمولوجي اللساني وفي ذلك شجون إصطلاحية.
لقد أملت ظروف البلد الطبيعية في بيئة السهل الرسوبي على الظاهرة البنائية كنهها. فبفقدانهم سخاء وسهولة تداول الحجر والخشب الغابي في التسقيف لجأ القوم الى أن يخدعوا المدر أو الطين المهين، الذي لايتمتع بقدرات بنائية صارمة ومتحملة، فصنعوا منه قطعا وجففوها تحت وهج الشمس أو أحرقوها في اتون، ليكون أصلب عودا ومقاومة. ثم راكبوه وشكلوه تباعا ليصنعوا منه العناصر الإنسيابية الآنفة الثلاث، ليس في كسب جماليات شكلية، بقدر الإحتيال عليها من خلال رص قطعها بملاط الطين أو الجص وتثبيتها متراكبة ومتكأة ومحصورة مع بعضها. وما التطاول لتلك العناصر إلا رغبة في أن تطول المسافات بين البحور والمرتكزات بين العناصرالعمودية الناقلة للعزوم نحو الأساسات ثم تسريبها الى الأرض. وما عملية التدوير والتكوير إلا بغرض إنسيابية إنتقال لتلك العزوم، ومن خلال ذلك التطويل لبحورها، تقل قيمتها أو تضمحل حتى يمكن السيطرة على سطوتها، وكسب ثبات السقوف دون خطر الإنهيار، مثلما لو تم التسقيف بشكل أفقي، كما هو حاصل اليوم من معطيات مادة الخرسانة المسلحة التي عمل التسليح بالحديد فاعلا في إستقامتها.
وهنا نجد تفسيرا فلسفيا جميلا لليوناردو دافنتشي الإيطالي في تعريفه للعقد بأنه إتحاد بين قوسين واهنين، سوف يسقطا لو تركا لوحدهما، ولم يتكئا على بعضهما في الوسط (المفتاح). وهكذا أمسى الشكل المكور والإنسيابي لتلك العناصر نتيجة شكلية لمضامين هيكلية، لم يحللها الإنسان في تلك الأزمنة، ولم يدون مبرره في صنعها، ولم يفقه كنه العزوم وإنتقالها أو إضمحلالها كما في قوانين الميكانيك في زماننا بقدر ما كونهم جربوا وأعادوا الكرة، حتى وصلوا الى النتيجة المثلى. وهكذا فأن الجانب التجريبي يمكث جوهريا في العلوم والعمائر حتى يومنا. نقول هذا بالرغم من أن المعمار حسن فتحي ذهب الى النصح بأن ننظر الى قبة السماء ونبني مثلها. ولا نستبعد في تلك الشجون أن الإنسان قد قلد أشكال عضوية حيوانية أو نباتية كمبدأ البيضة مثلا أو تجارب بيئية رصدها فحاكاها.

القباب
تمخض مبدأ التكوير عن ثلاث حلول أو عناصر إحدها القباب، التي سقفت بها الأكواخ الدائرية المبنية بالطوب اللبن في منطقة الجزيرة الفراتية شمال العراق وأجزاء من سوريا التي تشمل جنوب تركيا الحالية، في الألف الرابعة قبل الميلاد، ومازال ثمة مثال حفري(أركيولوجي) يقع قرب مدينة زاخو العراقية يعود الى تلك الحقب.ولا يفوتنا العلاقة المشيمية بين حضارات الشام والعراق كما في أوغاريت (راس شمره) التي تعود الى ماقبل سومر وإبانها وبعدها، وكذلك في مملكة ماري الفراتية.
وهكذا مكث هذا العرف يمارس لدى العراقيين والشاميين لألفين وخمسمائة عام، حتى أنتقل في القرن الرابع عشر قبل الميلاد، الى اليونانيين عن طريق البحر الفينيقي أو عن طريق حران والجزيرة الفراتيه وآسيا الصغرى التي كانت صلة الإقتباس بين اليونان والشرق القديم، وفي ذلك حديث شجون. وقد تسنى للأغريق نقل ذلك العنصر و أستخدموه أول مرة في مقابرهم على شكل قباب منحدرة مدببة، كونها كانت جديدة على بيئتهم البنائية التي أستغنت عنها بخامة الحجر، وذلك بإستعمال أسلوب الأطر الحجرية (عمود- جسر أو كمره) الذي برع به المصريون والكنعانيون. وفيما عدا ذلك لم تحضى القباب بأهمية كبرى في العمارة اليونانية القديمة، ولم تتطور لديهم، حتى جاء الرومان عاشقي الشرق ومقلديه.
ويعود الفضل للمعمارين الشاميين أنهم وائموا هذا العنصر ليبنى بخامة الحجر الشائعة في بيئتهم، دون أن يكون لها جدوى بنائية، لكنها أثبتت تباعا مقدرة على الثبات والتطور وأسبغت فضلها على عمارة المسلمين.ويذهب الى ذلك الباحث السوري عبد المعطي الخضر في كتابه (تاريخ العمارة الإسلامية والأوربية) ويؤكد ان المعماريون السوريون اشتهروا بقطع الأحجار ونحتها وبنائها بشكل محكم ودقيق.ولا ننسى التطور الكبير الذي أحدثه الآشوريون في عمارة خامة الحجر، وبنائهم للقباب.
ويمكن أن يعود الفضل للشاميين في موائمة خامة الخشب كذلك لبناء القباب، وهم أهلها ومبدعيها منذ (كلكامش) وغابة الأرز وحارسها المارد (خمبابا)، أو قصر النبي سليمان الذي استدعى به بنائي الملك (حيرام) الفينيقي. و نجد اليوم أقدم ذكر لتلك الموائمة في القبة الخشبية الموجودة في كنيسة القديس سمعان التي يعود إنشاؤها إلى عام 500 م. وهكذا أنتقل التقليد في إستعمال الهيكل الخشبي للقباب الى العمارة الإسلامية، وبنيت بها قبة الصخرة عام 692 م، في نفس البيئة المعمارية وبنفس التقاليد المتوارثة محليا، دون أن يكون لبيزنطة دخل فيها من بعيد أو قريب.
لقد طور الرومان القباب الحجرية تباعا ووصلوا الى أفضل النتائج بمؤازرة بنائين جلبوهم من الشرق في سنة (الليثوروجيا) المتعارف عليها في إستقدام الحرفيين منذ القدم. ولايمكن أن نجهل جهد المعمار الشامي أبولودور الدمشقي(60-125م) الذي استعمله الأمبراطور تراجان، و كسب لدية الحضوة وثبت أسمه من خلال كم ما أنجز وكذلك من كتابه الذي ألفه لمليكه عن العمارة العسكرية، والجسر الذي أنشأه على نهر الدانوب لمرور الجيوش الرومانية في إحتلالها لشماله(بلاد الداق أو رومانيا الحالية)، والذي أمسى أسطوريا بسبب صعوبة المكان وبحره الواسع، وأثبت فيها حذاقة وفطنة حينما راكب خامتي الحجر في الركائز والخشب في الجسور الجاسئة بينها. والدمشقي كان حظه أوفر من رهط بنائي الشام الذين علموا الرومان كيف يبنون قبابهم، والتي وصلت أوج تطورها في معبد البانثيون الذي بناه الإمبراطور حادريان بين عامي (118-128 ميلادية)، حيث ترتكز القبة على أسطوانة دائرية ضخمة يبلغ سمكها ستة أمتار تخفي ثمانية دعامات حجرية متداخلة وترتفع القبة بمقدار (43) مترا مكونة نصف كرة تامة بينما يوجد في منتصفها شكل دائري كبير يسمح بمرور الضوء.
واستمر استخدام القباب في العصر المسيحي في الشرق والغرب وأختص بمباني الأضرحة وبيوت المعموديات. وهناك نموذج حي على ذلك هو كنيسة سانتا كوستانزا التي يرجع تاريخها إلى عام 350 ميلادية بروما وقد كانت هذه الكنيسة أساسا مقبرة لابنة الإمبراطور قسطنطين الأكبر. وهكذا تعلم البيزنطيون تقنية وتفاصيل بناء القباب من أصولها الرومانية والشرقية على حد سواء. ونجد في عاصمتهم القسطنطينية، بنيت سلسلة من الكنائس المقببة وقد بلغت أوج ذروتها متمثلة في كنيسة آيا صوفيا التي بنيت بين عامي 532 و537 ميلادية. وقد بناها الإمبراطور جوستينيان الأول. ويبلغ عرض قمتها المسطحة (31) مترا وتحيط بها النوافذ من قاعدتها وترتكز على أربعة مثلثات كروية يسندها دعامات خارجية ضخمة وسلسلة من الأشكال شبه المقببة. ومن الجدير بالذكر أن بناتها هم المعماريان إيزادور المليتي Miletus of Isidoros وأثيميو التراقي Athemius of Tracies وكلاهما وردا من آسيا الصغرى، وتحديدا من جنوبها الفراتي، حتى ليقال لدى الكثيرين آنهما شاميان.وقد أوكل جستنيان ذلك الصرح لهؤلاء الجزيريين كي يبين لروما أنه يمكنه الإستغناء عن معمارييهم، ومن ثم يعني إنعتاقه السياسي عنهم وتبعيته الحضارية لهم بمعين أهل الجنوب في مملكته.
وهكذا فان القبة تحولت من تغطية للحجرات المدورة في العراق القديم بسبب سهولة الإنتقال من الدائرة للدائرة، لكنها خلقت إشكالا حينما وظفت في المسقط المربع للحجرات، و أقتضت إيجاد حلول للإنتقال من زوايا المربع الى المثمن، و الذي شكل رقبة (طنبور) القبة تباعا، فجاء بحلين أحدهما شامي بالمثلثات الكروية والثاني عراقي بالمقرنصات البدائية، تبعا لما تسمح به خامة البناء (الحجر أو الآجر) والتي نسبت كعادتها لتسميات(بيزنطية وساسانية). ومن الجدير ذكره أن قرى الجزيرة الفراتية تبني بيوتها بالقباب، وتسنى للمسلمون أن ينقلوا أعرافها الى شمال أفريقيا والأندلس، ونجد اليوم مثلا جميلا لمدينة وادي الصوف في شرق الجزائر، التي تشكل القباب العنصر الأساس في تسقيف حجراتها. ومازال القوم يطلقون في المشرق وبعض المغرب على الحجرة أو الغرفة أسم قبة.
وفي تلك الشجون ذكرت في مداخلتي بأن المعمار العثماني سنان (1490-1588 م) قد ورد من نفس بيئة المليتي والتراقي بعد ألف عام، وتسنى له أن يبني بما تعلمه من بيئته الأولى في قرى حران الفراتية، من أين أستق المبدأ والأسرار الأساسية، لكنه أفتقر الى الوسائل التي وفرها له وجوده في كنف سلطنة مترعة بالثراء، ومغدقة على البناءين فكان نتاجه في قبة مسجد السليمانية التي غلبت بحر آيا صوفيا، وكذلك الأثر في 441 عملا معماريا أنجزه، جله مغطى بالقباب، وفي كل ذلك النتاج لاقح سنان بين حرانيته الفراتية وعثمانيته الأسطنبولية، ولم يكن يقلد آيا صوفيا البيزنطية البته، كما أشاع ذلك المستشرقون وببغاواتهم.

القبوات (الطاق) Vault
والقبو هو العنصر الأكثر رسوخا في عمائر الشرق الذي أنتقل مسترسلا في حيثيات العمارة الإسلامية. والقبو عنصر هيكلي تسقيفي و عماري مكور إنسيابي، ويعني العقد الطويل او السقف المعقود أو الوجه الداخلي للقبة.وفي العمل الإنشائي يمكن تصوره ككتلة واحدة تعمل كالجسر(Beam) بكفاءة ومقاومة عالية، ولهذا تغطى به البحور الكبيرة في البناء. وللتفريق عموما بينه وبين القبة، فانه يستعمل لتغطية المساقط المستطيلة، بينما القبة تستعمل في المربعة، وثمة نوع من القبوات يدعى المتصالب، الذي يبنى فوق الدعامات على المساحات المربعة كذلك.
وقد يدعى القبو(الإيوان) واشتهرت به العمائر الإسلامية في هيئة او (حل) متعدد التوظيفات يدعى (الإيوانات الأربعة المتصالبة) التي تحصر بينها مربعا أو مستطيلا سماويا مكشوفا. وقد شاع تداول هذا الحل إبان الحقب السلجوقية والمملوكية وبعض العثمانية في العمائر الدينية كالمساجد والمدارس والتكايا وكذلك في الدنيوية كالقصور والبيوت والخدمية كالخانات ولاسيما في آسيا الوسطى و فارس والعراق والشام ومصر والحجاز. ودعاه المستشرقون (الإيوانات الفارسية)، بالرغم من أن ثمة مثال باق أقدم من الإسلام يعود الى حوالي عصر الميلاد المسيحي، مازال يرتع حيا في موقع (الحضر Hatra) أو (مدينة الشمس) والواقعة في البادية العراقية الغربية شمال نهر الفرات، على خط القوافل التي يربطها مع تدمر.و أستعمل هنا خامة الحجر الرملي في كل عناصره الذي تضمن الأعمدة والحيطان والأكتاف. وتكرر في مبانيها عنصر الإيوانات المتصالب وأحسنه وأوسعه موجود في معبد شحيرو، وتعمل اليوم فيه بعثة جامعة جنوه الإيطالية.
والقبو في كنهه هو عقد مكرر ومسترسل طوليا، ويعود الى نفس الفترة التاريخية في بناءات الشرق القديم أي أكثر من 3000 سنة قبل الميلاد. ويجمع علماء الآثار اليوم ولاسيما الغربيين، ممن درس عن كثب التقادم الزمني لهذا العنصر وتواجده وريادته، بأنه وكذلك العقود لم تكن يوما محسوبة على الحضارة الرومانية، حينما تجسدت في ملاعب(الكوليسيوم)، والحقيقة النقلية والعقلية تثبت أنهم أخر من استعمل هذا العنصر وليس أولهم. لقد نشأت في الأصل في الأراضي الرخوة (المستنقعات أوالأهوار) في العراق الرسوبي الجنوبي ثم تبعها بعد قرون في مصر السفلى وكان النموذج الأول يتمثل في بناء من حزم القصب التي تغرس في الأرض بصورة مستقيمة ومنحنية الى الداخل وتربط أطرافها العليا لتكون هيكل البناء الذي يغطى بحصرعراقية (باريه) مصنوعة من تشظية خامة القصب، ولنا دراسة عن هذا النوع من البناء عنوانه (عمارة القصب).
وبالرغم من أن المباني القصبية القديمة قد اندثرت إلا أن أسلوب استخدامها لا زال قائما في جنوب العراق اليوم عند نقطة التقاء نهري دجلة والفرات حيث يعيش أناس يسمون عرب الأهوار أو (الشروقيه) أو (المعدان)، لا زالوا يقيمون مبان كبيرة تستخدم فيها أقبية من القصب.وقد ذهب (ليونار وولي) الذي نقب في آثار سومر وتحديدا في أور، وكتب عنها الكثير، بأنه يرجح أن شكل (الصرايف) أو العشش القصبية التي بنى بها السومريون بيوتهم والتي مازالت حية، كانت قد تطورت، حينما ليّست من الخارج بطبقة من الطين (quot;التطيين quot; daub)بسمك معقول ليحملها الهيكل، ثم يتم حرق القصب في داخل العشة ويضحى به كـ(قالب ضايع)، لتمكث طبقة اللياسة قوية ومفخورة من جراء الحرق، ومن تلك الآلية نشأ عنصر القبو، الذي تدعم بعد حين بإستجداد خامة الطوب ثم الآجر، التي جعلته يتطور من جراء الإبتكار وسطوة العقل. وهذا الطراز من البناء، يعرف باسم (الوتل)، ويذهب الباحثون على أنها كانت تمثل مرحلة وسيطة من مراحل تطور بناء الأقبية. وفي خاتمة المطاف تخلص معظم البنائين في الشرق القديم من استخدام القصب (وهو على أي حال لم يكن متوافرا إلا في (الأهوار)، والأهم أنه خلصهم من هواجس الخشية من الحريق التي مكثت في سجاياهم حتى اليوم. ويمكن أن يكون قد حكم عليهم عامل انتقالهم أبعد قليلا في اليابسة، وبعدما أخذوا يعتمدون على مادة بناء أكثر دواما يمكن استخدامها في المباني الكبيرة وهو الطوب الطيني المجفف بحرارة الشمس (الطوب الني أو اللبن).
وقد استغلت الإمكانات البنائية التي تتيحها العقود والأقبية النصقطرية في العراق القديم، حيث أنها تطورت هناك بصورة مستقلة عما كان يجري في مصر القديمة. وأقدم مثال على ذلك هو الصالة التي بنيت في quot;تبة كوراquot; Tepe Gawra الواقعة قرب مدينة كركوك العراقية، في أواخر الألف الرابع قبل الميلاد، عند ظهور الحضارة السومرية وفي quot;أورquot; Ur. إلا أن أكثر ما يثير الإعجاب في العقود والأقبية النصقطرية في بلاد ما بين النهرين تلك التي وجدت في quot;تل الرمةquot; (Tell al Rimah) التي يعود تاريخها إلى نهاية الألف الثالث والنصف الأول من الألف الثاني قبل الميلاد. و كشفت الحفريات الحديثة في فلسطين عن أول نماذج للعقود النصقطرية الشامية المبنية من الطوب الطيني في بلاد شرق البحر المتوسط quot;the Levantquot;. وأقدم هذه النماذج هو مدخل يعود تاريخه إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد، وجد قي تل دان في فلسطين ويتألف من ثلاثة مسافات أو طبقات متحدة المركز من حيث سماكتها من طوب العقود.
و من الأقبية الشائعة هو النوع النصقطري، الذي استعمل فيما بعد في العمارة الرومانية بعد صنع قالب خشبي له وهو ما يعتبر من عيوبه، التي تخطاها أهل الشرق منذ أزمنة غابرة، وكانوا يتحاشوف فيها إستعمال الخشب غير المتوفر في بيئتهم. أن العقد أو القبو يحتاج الى quot;تركيزquot; centering أو دعم مؤقت حتى يجف. ونظرا لتحاشي القالب، فإن أكثر أنماط التركيز الشائعة في ذلك الوقت quot;ربماquot; كانت تقوم على مجرد كومة من الطوب الطيني غير المثبت بالملاط، وقد تكون مغطاة بطبقة من القش. لذلك فان عملية ملء المدخل أو الحجرة بأكملها بالطوب ثم إزالة الطوب بعد أن يجف العقد أو القبو، لا بد وأنها كانت عملية تستغرق الكثير من الوقت والجهد. والطريقة الثانية التي استخدمت في بناء الأقبية تعرف باسم quot;طريقة الطوب المائل quot; ldquo;Pitched brick method التي تجنب فيها البناءون عملية التركيز. والطوب المستخدم في الأقبية المبنية بالطوب المائل أخف وزنا من مثيله في الأقبية النصقطرية، لأنه اصغر وأقل سمكا بصورة عامة وكذلك بسبب زيادة نسبة القش في صناعة هذا الطوب.
و كانت البراعة هنا تكمن في الحذلقة التي أتبعوها أهل الشرق حينما توقف اللبنة الواحدة على أحد اطرافها وتميل أو تحنى على أحد الجدران النهائية للقبو. وفي الوقت نفسه فقد كانت تميل نحو الداخل، مثل الطوب في القبو النصقطري، باستخدام الحجارة أو كسر الأواني الفخارية التي توضع تحت أطرافها الخارجية. وبذلك فالقبو الكامل كان يتألف من سلسلة من أقواس الطوب المائلة. والفتحة المتبقية عند الجدار النهائي المقابل كانت تملأ بأقواس أصغر وكسر الطوب وكسر الفخار والحجارة والملاط.ولما كان كل قوس يدعم القوس الذي يليه فإن بناء القبو بطريقة الطوب المائل يمكن ان يوقف عند أي حد ويظل القبو قائما بدون دعم داخلي. وكان نشر الملاط الطيني بكثافة بين الأقواس يمنع الأقواس من الانزلاق. كما كان الطوب المستخدم يمتاز بخاصية هامة تعزز عملية امتصاص الملاط الرطب. ففي أحد جوانب اللبنة الواحدة (وفي مصر في جانبيها) كان البناء يعمل تجاويف عميقة يشكلها بأصابعه عندما يكون الطوب لا يزال طريا. وهذه التجاويف كانت تسمح للملاط بالانتشار على مساحة أكبر الأمر الذي يزيد عملية الامتصاص وبالتالي يتماسك الطوب بصورة أكبر.وكان لخاصية الجص المستعمل كملاط مثبت في العراق وملكته في الشك(الجفاف) السريع، عاملا مهما في تثبيت قطع الآجر وحبكتها، والتي مكثت ثابتا تقنيا يتداولها أساطين الحرفة حتى اليوم، ووائموها مع الطفرة التي أحدثها تدول الجسور الحديدية مقطع (I) بعد أن نقلها الألمان إبان بنائهم لمرافق سكة حديد (برلين-بغداد) في بواكير القرن العشرين.
لقد لوحظ وجود عدد من الاختلافات في استخدام أسلوب الطوب المائل هذا. ففي بعض الأحيان كان يبنى القبو بدءا بالجدارين النهائيين، ولم يكن هذا بالأسلوب الأمثل، لأنه كان يتوجب على البناء أن يملأ حيزا إهليجيا أكبر في الوسط حيث تلتقي الأقواس المائلة المتقابلة بدلا من أن يملأ حيزا صغيرا مثلث الشكل. وفي بعض الأحيان، بعد أن يتم تغطية حجرة ما بطبقة معقودة من الطوب، كانت تتم عملية زيادة سمك القبو بطبقات إضافية فوق الطبقة الأصلية. وفي بلاد ما بين النهرين حيث كان الطوب المربع الشكل(الفرشي) هو الذي يمثل القياس المتعارف عليه، فقد كان يكفي إضافة طبقة واحدة لتحقيق السمك المطلوب. أما في مصر حيث كانوا يفضلون الطوب الضيق المستطيل الشكل فقد كان سمك القبو يصل إلى أربع طبقات أو أكثر. والطبقات المتعاقبة كانت تميل في اتجاهات متضادة. فالطبقة الأولى تميل نحو الحائط النهائي الأول والطبقة الثانية نحو الحائط النهائي الآخر وهكذا.
وعلى النقيض من ذلك فقد ظهرت quot; الأقبية البرميلية barrel vaults التي تبنى من الطوب المائل المستطيل الشكل، في جميع فترات التاريخ المصري من أقدم العصور حتى الوقت الحاضر، وفي مجالات البناء المتعددة، وكدعامات للسقوف والأسطح في البيوت العادية، وفي فتحات التهوية المقببة الشكل على السطوع المستوية، وكدعامات للسلالم وتغطية لها وفي المستودعات والبناءات الدينية. في نهاية المطاف حلت أقبية الطوب المائل محل الأقبية النصقطرية إلى حد كبير. إلا أن التصميم النصقطري ظل الخيار الأمثل للمداخل و القبوات المفتوحة من الطرفين والتي ينقصها الجدار النهائي اللازم قي التصميم الخاص بالطوب المائل.
إن العمل الذي بلغ الذروة في بناء أقبية الطوب المائل والذي الهم الكثيرين من المعماريين المسلمين يتمثل في ماسمي quot;طاق كسرىquot; Taq Kisra وهو في حقيقته القاعة الكبرى في قصر (quot;طيسفون quot;(Ctesiphon أو المدينة البيضاء أو (المدائن) العربية، الواقعة 30 كلم إلى الجنوب من بغداد داخل الطين العراقي الذي بني منه.لقد بني هذا الطاق ما بين القرن الثالث والسادس للميلاد. وقد استخدم الآجر (الطوب المحروق بالنار أو الطوب الأحمر) وليس الطوب الني، وما زال قائما بارتفاع 28,4 متر وباتساع 25,5 متر، مما يجعله أكبر اتساع لقبو واحد من الآجر غير المدعم على سطح الأرض قاطبة.
وفي سياق أنواع القبوات فأن إدخال طوب العقد الإسفيني الشكل يمثل في نظر الباحثين أعظم تقدم تقني في أقبية الطوب المائل، الذي قضى على الحاجة لإدخال كسر الأواني والحجارة والخبث (الشنك) تحت الأطراف الخارجية للطوب. والأقبية التي استخدم في بنائها طوب العقد الاسفيني الشكل من المحتم أنها كانت أقوى من غيرها لأن اللبنات تكون متلامسة تماما بعضها مع بعض مما يؤدي إلى ضغط الملاط في نقاط الاتصال (المفاصل) الضيقة جدا. والطوب الاسفيني الشكل يجعل من الممكن تسطيح القبو، وإعطاءه شكلا آخر غير شكل القوس شبه الدائري. وهذه المرونة، من جانبها، تمكن المعمار من تصميم الغرف المقببة ببحور مختلفة، مع الإبقاء على السقف أو الأرضية العليا على ارتفاع موحد. وقد كان قد بدا هذه الطريقة معمار آشوري عراقي في حوالي عام 675، ق. م. عندما قام بتصمبم سرداب بناية كبيرة في (تل جمّة)، حيث عثرت على أقدم أقبية معروفة بنيت بالطوب الإسفيني الشكل. وقد استخدم هذا الأسلوب بصورة موسعة في quot;نوشي جان quot;Nush-i Jan وهي موقع في ايران على تخوم الأراضي العراقية، يعود تاريخه الى ما بين 750 و600 ق.م. وطوب الأقبية الذي استخدم هناك كان بالغ الضخامة، إذ يبلغ طول الواحدة 1,2 متر. ومن الطبيعي أن نتصور أن يكون هذا الطوب الطويل أكثر عرضة للكسر ولكنه في حقيقة الأمر على قدر من القوة بما يسمح له بدعم أرضية حجرة علوية في المعبد المركزي.
لقد كان اختراع العقود والأقبية المبنية بالطوب الطيني إنجازا في حد ذاته. وبناء الأقواس لم يندثر تماما في أي وقت من الأوقات في الشرق العربي، وأستمر تصاعديا خلال العمارة الإسلامية التي سمت به الى آفاق واسعة. وفي القرن العشرين فقد حضي بأهمية خلال تصميمات المعمار المصري حسن فتحي الذي اجتذبت تصاميمه الرائعة، والتي أدخل فيها أقبية الطوب المائل، الإعجاب والقدوة. وقد واكب إعادة اكتشاف مزايا الطوب الطيني في عالم يدرك تماما أهمية الطاقة والحفاظ عليها زيادة إدراك المزايا العملية لاستخدام العقود والأقبية في البناء.

ساسان والإسلام
حينما أراد المستشرقون تماشيا مع الخطاب القومي الذي عم في أوربا بعد (حقبة الأنوار) إبتداءا من أواسط القرن التاسع عشر، فأنهم مالوا الى أن يكون طاق المدائن من إبداع فارسي، غزلا مع فارس التي صنفوها مع العرق الآري القادر على صنع الحضارة، على عكس الشعوب(السامية) التي تتسم بالغباء والإنصياع والخنوع والتبعية والتقليد بحسب تصانيفهم، مع عطفهم وتعاطفهم مع العنصر (الحامي) كما المصريين (فارزيهم عن البربر مثلا)، في تلك القوالب السقيمة التي عكست تصانيف الدم والأعراق على الفكر والعمارة، مع العلم أن الفرس quot;الآريينquot; لايشكلون إلا أقلية داخل إيران بوجود فسيفساء النحل. وهكذا صنف كل ماهو عراقي الى ساساني بالرغم من أن الساسانيين طارئين على التاريخ ومكثوا فيه أربعة قرون قبل الفتح الإسلامي وأختفوا منه مثلما ظهروا. و سيرت النظريات العلمية على أهواء ومغالطات تقمصها رعيل معتبر من المتنورين العرب والمسلمين، و رددوها دون تمحيص أو مراجعة، و الدكتور صالح لمعي أمسى ممثل لهذا الخطاب في مؤتمر المعماريين العرب في حلب..
و العمارة العراقية بدأت قبل فارس وساسان في السهل والجبل بثلاثة آلاف عام بحسب كل المعطيات الحفرية.ويذهب بعض الباحثين بأن الفرس لم يقدموا للعمارة جديدا أو لم يكن لهم فيها ريادة وباع، قبل سقوط بابل على أيدهم عام 539 ق.م، وهو زمن متأخر بمعطيات التاريخ، وأن برسيبوليس مدينتهم هي إستنساخ حاذق لمدن آشور ونينوى، وأن سرفستان تقليد لسومر وبابل.
وطرقا للمقارنة فأن بواكير إنشاء المدن في السهل الرسوبي العراقي(ثورة المدن) تعود الى 3500 ق.م، بينما أقدم مدينة في الهضبة الإيرانية، و هي أقبطان الواقعة على تخوم همدان الحالية(336كلم جنوب طهران)، و تعود بتاريخها الى سنة 800 ق.م ويعتبرها (آرثر يوفام بوب) في كتابه (العمارة الفارسية) بأنها الأولى التي استعملت مبادئ تخطيطية عمرانية ومعمارية. اما أقدم زقورة(معبد برجي) في إيران فانها تقع في خوزستان(عربستان) المتاخمة اليوم للسهل العراقي والتي تشكل تاريخيا وجغرافيا جزء منه، حيث أنشأها الملك العيلامي (جوكا زنبيل Choga Zanbi)، وبنيت في عهد الملك (يونتاش Untash) قرب سوسه أو الشوش عام 1250 ق.م، بينما أقدم زقورة في العراق باقية في أور السومرية المخصصة لعبادة الآلة (سن) وتعود الى 3100 ق.م. لهذا يمكن إعتبار أن ثمة الفيتين من السنين بين نشوء البنيان بين شقي القطرين، وهي ليست بعامين أو ليلتين.
وهكذا نجد أن العمارة العراقية تكرست في فارس حتى بعمران وعمارة مدينة (أصفهان) أجمل مدن الإسلام وإيران التي طوروها الصفويون وهي مبنية بالآجر بالرغم من وقوعها في بيئة طبيعية جبلية صخرية. وما عمارة العتبات المقدسة في كربلاء والنجف وسامراء في العراق إلا خير تجسيد لها وما هي إلا إنقاذ وإعادة الروح لعمارة الأصل العراقي الذي ترنح من جراء سطوة الزمان وخراب الدنيا ومناخات السياسة. ويجدر بنا أن نذكر في هذا السياق ما استخلصه مؤرخ العمارة الإسلامية المصري الدكتور فريد الشافعي في كتابه (العمارة العربية في مصرالاسلامية ndash;عصر الولاة.الصفحة 162) مستندا ومؤكدا الأصل العراقي لتلك العمائر في ثلاث نتائج هي:
1.أن العمارة الأخمينية التي سبقت العهد الفارثي والتي وجدت أثارها في فارس هي من أصول مشتقة من التقاليد والأساليب الآشورية القديمة التي موطنها العراق.
2.إن العمارة الفارثية التي لم يعثر على أمثلة منها خارج أراضي العراق إلا من النادر القليل المتناثر في الأجزاء الغربية من بلاد إيران المتاخمة للعراق.
3.إن الآثار الباقية من العمارة الساسانية تتركز بصفة خاصة في منطقة العراق، بينما يوجد القليل منها في فارس بل معظم هذا القليل يقع متاخم للحدود العراقية.
وفي ذلك دليل على أن أصل الطرز التي تجسدت تحت حقب الدول الفارسية هي طرز عراقية بحتة وكانت تحتل موقع القيادة والريادة خلال ثلاثين قرنا قبل ميلاد المسيح حتى نهاية العهد الساساني وحلول الدول الإسلامية. ويقول في ذلك شافعي (لم تمكث فارس في مكان القيادة إلا أكثر قليلا من قرنين في العصر الأخميني (550-331 ق.م)، ثم عادت بلاد العراق بعد تلك الفترة الى مكانتها القيادية السابقة وذلك منذ بداية العصر السلوقي).
ومن غريب ما سمعناه من الدكتور صالح لمعي في رده على طرحنا، بأن ثمة فرق بين العقود المبنية بأسلوب وهدف هيكلي هندسي، كما القبوات والعقود الرومانية، وبين العقود والقبوات الساذجة التي بنتها شعوبنا في الشرق القديم.ولم أجد في ذلك مبررا مقنعا، حيث أن الوسائل هي التي تغير في كنه العنصر، بينما مبدئه يبقى ثابتا حتى بعد تطوره، فالسيارة التي صنعها هنري فورد، تحمل نفس مبدأها اليوم ماعدا تغير الوسائل التقنية والخامات التي نقلتها من طور الى طور، ولدينا مثال أقدم في الكتابة التي أخترعها السومريون، وبالرغم من التغيرات والتطورات التي جرت عليها، لكن المبدأ ماكث حي يرزق. وهكذا كان الدكتور لمعي عاجزا عن الرد العلمي، حتى سمعت أحدهم يناديه من الحضور: نريد ردا علميا يادكتور!.
ثمة الكثيرون مثل الدكتور لمعي وجلهم من الشقيقة مصر، تبنوا خطابا ورد من كنف الخبث الإستشراقي، الذي لم يعد مقنعا البته بنأيه عن المنطق اللبيب. والخطاب الإستشراقي مفاده أن العمارة الإسلامية محض إقتباسات ومحاكاة لبيبة لعمائر وعناصر بيزنطية رومانية حينما يتعلق الأمر بالأرث الشامي، أو ساسانية فارسية، حينما يتعلق الأمر بالأرث العراقي. ويتفق معنا بهذا الصدد المصري محمد شعبان محمد في مقاله(العمارة الإسلامية من يعيد لها الإعتبار) حينما يذكر: (لقد نسجت اوروبا لنفسها تاريخاً مركباً وملفقاً احياناً وضعت نفسها في سدته، وقامت بترتيب الحضارات والثقافات والشعوب الأخرى وفقاً لعلاقتها بها على مر الزمن، وفي مجال العمارة نجد أن عصر التنوير صنع لأوروبا سلسلة تاريخية متميزة ومتصلة من بدايات مصرية laquo;مفترضةraquo; الى كلاسيكية الإغريق والرومان الى البيزنطيين والمسيحيين الأوائل ففترتا الرومانتك والقوطية الى عصر النهضة وما تلاه من الباروك والروكوكو والكلاسيكية المجددة حتى العمارة الحديثة وما بعد الحديثة والتفكيكية، وقد تم استبعاد كل ما يمكن ان ينسب الفضل في بعض انجازاتها الى غير الحضارة الغربية وفقاً لتطور معرفة اوروبا لنفسها وللآخر سواء كان هذا الآخر معاصراً أم بائداً، مسلماً أم مسيحياً أم هندوسياً أم بوذياً أم شرقياً أم افريقيا أم امريكياً أصلياً، وهذا ما حدث مع العمارات الرافدية والآرامية والفينيقية التي انمحت من مجموعة العمارات المؤسسة الرئيسية بالرغم من اسبقيتها الى الكثير من الابتكارات المعمارية ثابتة اركيولوجياً وتاريخياً وقد حلت محلها في السلسلة التاريخية الأوروبية عمارات غربية متأخرة نسبياً أو متبناة من الغرب كالـ(الحيثيين) في الأناضول والمينوين في كريت والإيونيين في اليونان القديمة).
ربما يكون الأمر برمته متداعيا من الدعة الحضارية التي نحن فيها، حيث إن الحداثة التي مازلنا نتخبط بين حيثياتها هي حداثة غربية محضة وليس حداثتنا البته، والتي جاء الخطاب الإستشراقي جزء من سياقاتها التي أنكرت مبدأ الثابت في ثقافات الأمم. وهكذا تصاعدت نزعة التنكر للماضي حتى وطأت التفكيكية التي أعلنت حاجة الغربيين لمسوغ يداروا بها خيبتهم في فشل الحداثة ان لم تطأ ثابت ثقافي وأحجمت عن تفسير الكثير من الأمور أو إقناع أهلها. ويرصد المتتبع أن الحداثيون العرب يصرون على تصدير آفات هذا الفصام الذي يعيشونه الى مجتمعاتهم من خلال فرض مبدأ القطيعة مع التراث، كما سعى له المنهج التفكيكي الذي طبل له الحداثيون دون أن يكلفوا أنفسهم عناء مراجعته وتكييفه مع واقع مجتمعاتهم، كما سبق وحدث مع الماركسية والليبرالية التي تعاملوا معها بعقلية كسولة ترتضي المسلمات، يحاكي قبول رهط الدكتور لمعي بالخطاب الإستشراقي دون مراجعة.
وهنا نلفت نظر كل المتشنجين والمتعصبين للنظريات الإستشراقية، بأن (النظريات) تمكث إسقاطات فكرية إبداعية، لكنها ليست الحقيقة العلمية المطلقة، لأنها لا تعتبر بديهيات ثابتة. كما أن العلم هو وسيلة من وسائل المعرفة لإدراك الظواهر وتفسيرها، لكنه في الغرب اتخذ أبعاداً أكبر من حجمه، فأصبح مصدراً وحيداً للتشريع كدين جديد لا يعترف بالأخلاق، فتم استخدامه بخبث لإرهاب الشعوب الأخرى، وإركاعها لإرادته المركزية التي مازلنا نعاني منه. وهنا ألفت نظر البعض الى أن لولا ظهور نظرية الأنكليزي (مارتين برنار) في كتابه (أثينا السوداء) عام 1989، وتأكيده بالدليل البحثي المتأني الدامغ، بأن اليونان وثقافتها وآلهتها وحتى عمارتها إلا إقتباسات مصرية وشامية وعراقية، لكان الكثير من أصحابنا مازالوا يعتقدون أن مصر ليست هبة النيل بل هبة أثينا وروما.
وعلى هذا الأساس وبموجب هذا الخبث، أمست عمارة الشعوب الإسلامية التي نشأت في الشرق القديم حصرا لاتمت الصلة بأصلها وغريبة عن جذورها في تلك البيئات، كي تكون مرجعيتها وقطبها غربي محض مثلما كل الأمور، ليفقدنا بالنتيجة حاضرنا الضائع بلجة الحداثة وتراثنا الذي حرفت حقيقة إنتماءه، وهكذا، سوف نمكث الى ماشاء الله نقبع في التيهان والتخلف، ولاسيما إذا اعتبرنا أن إستلهام التراث وسيلة فاعلة في كل النهضات، وهذا ما أعتبره الغرب حقيقة دامغة، حينما تعلق الأمر بنهضتهم التي أستلهمها رعيل (ميديتشي) من أرث روما في إيطاليا.
ثمة إلتفاته نبيهة للدكتور مشاري عبدالله النعيم في كتابه (العمارة والثقافة ص46) يشير الى أمر هام في الفرق بين مبادي الحضارة العربية-الإسلامية والحضارة الغربية بأن الأولى أتخذت طابعا مركزيا، وتقدمت على أساس أنها تدور حول نواة القيم وإستخداماتها في التقدم، بينما الغربية أتخذت وأعتمدت في تقدمها على الشكل الخطي التصاعدي مبتعدة عن القيم التي لم تهم غاياتها في لجة مغريات التقانة وبريق المادة. وهذه حقيقة أستلهمتها العقلية الإسلامية من ثقافات الشرق القديم، حيث أن ظهور الأديان وتداخلها مع نشوء المدن، وتبنيها للتوحيد الإبراهيمي الذي سار الإسلام على هداه، ومن قبله اليهودية والمسيحية وهي من أمهات نتاج العقلية الشرقية، كان له كبير الأثر حتى في ثقافات الدنيا.والأمر يتجسد كذلك في سياقات العمارة القديمة، حينما سعت أن تكون قميصا يقي الإنسان الحر والزمهرير والشمس والمطر والثلج، ويهبه الأمان والراحة ويحميه ويستره، وكلها مرام قيمية أخلاقية وإنسانية محضة. وفي تلك المقاصد وبثقة وإعتداد، لم تعر تلك المنطلقات الفكرية أهمية للجانب الشكلي المادي، وأعتبرته نتيجة ومحصلة، ماعد ما أملته إستثناءات بعض المقاصد المعمارية المكرسة لإنعكاسات نفسية كما الحال في صرحية المعابد مثلا ومعالجاتها الفنية المبالغ بها أحيانا، وهو ماورد في المساجد بعد التغيرات التي أقحمها الأمويون ثم العباسيون في عمارة المسلمين.
لقد أقتبس الإسلام ذلك المفهوم فامست العمارة لديه مغلف يقي الإنسان ما لايناسب طبيعته وطاقته، وما يكسبه الراحة الجسدية، ثم النفسية، التي كانت غاية الغايات.وهكذا أمسى الشكل المعماري نتاج وليس سبب ولم يعره القوم أهمية، وهو ما نجده قد تبناه رهط من معماريي الحداثة ومنه المدرسة العضوية إبتداءا من الأمريكي سوليفان ورايت، حينما أقرا أن (الشكل يتبع الوظيفة).
وفي سياق الثابت الثقافي لا نستبعد أن الإسلام جاء بالكثير من المنطلقات الفكرية ومنها مثلا وليس للحصر (مشاعية الثقافية mass culture)، التي كانت سنة طبقها السومريون ودونوها في رقم طيني، وجسدوا الأمر حينما أسسوا أول مدارس نظامية، وأعتبروا الكتابة والمعلومة منة سماوية و ملك للجميع، ولا تقتصر على لفيف أو طبقة أو فئة، والأمر عينه تبناه الإسلام الحضاري، ونجد حديثا للنبي الكريم (ص)، جاء فيه(من كتم علما يعلمه جاء يوم القيامة ملجماً بلجام من نار)(أخرجه أحمد في مسنده - رقم 10192).
وهكذا تسنى للإسلام الحضاري أن ينقل تلك النفحات الإنسانية الى ألازمنة الحديثة، حتى يمكن إعتبار الحضارة الحديثة جذورها إسلامية، ثم أعمق من الجذر القيمي الوارد من ثراء الشرق القديم الروحي والمادي، وكأننا نشّبه الإسلام كواسطة أمينة ومخلصة في إيصال بوتقة الفكر القديم إلينا.
وهنا نشير الى جزء من مداخلتنا ونذكر بأن إصطلاح (العمارة الإسلامية) نفسه الذي يتداول اليوم هو مفهوم إستشراقي كذلك ونحبذ أن يكون (عمارة الشعوب الإسلامية) كون بعض جوانبه ولاسيما الجانب الصرحي والبذخي والخيلائي، لايمت الى جوهر الزهد والتواضع الديني بصلة. وبذلك نخلصة من تلك التبعية القسرية، ناهيك عن أن ثمة الكثير من الشخوص والجماعات غير المسلمة التي شاركت في التراث المعماري إبان الحقب الإسلامية، ومنهم مثلا وليس للحصر (دليل بن يعقوب النصراني) المعمار المسيحي العراقي القادم من الحيرة الفراتية ليشيد مسجد ومنارة الملوية في سامراء على ضفاف دجلة. ولنا بحث منشور بهذا الصدد، جدير بالمراجعة.
وهكذا نتلمس تعمية متعمدة و طمس خبيث للأثر الشامي ndash; العراقي الوارد من أرث الشرق القديم في صلب العمارة التي صنعها الإسلام، ونجد من القوم من يفضل أن ينسب الأمور الى بيزنطة وفارس نكاية بميراث تلك الشعوب المفترى عليه.
كل ذلك يستوجب أن نركز جهدنا على إثبات مفهوم الثابت الجغرافي والمتغير التاريخي في الثقافات ونتاجها الروحي والمادي، ومنها العمارة. فالشعوب تبني بمعطيات سطوة البيئات الطبيعية والإجتماعية، وتوائم وتجانس بينها، لكنها لاتشذ عن محورية صريحة للثبوت يكرسها ثبات (العقلية mentality)، يمكن إعتمادها في سلسلة حلول بحثية لتخليص التنظير المعماري من سطوة التصانيف القومية العرقية أو الدينية الطائفية، أو حيثيات السياسة والدول وسطوة أسماء السلاطين والولاة الذي تجدهم فرسان التاريخ دائما. والأجدر في ذلك إرجاع حق الشعوب والأفراد المصادر، من خلال سلوك منهجية تعتمد الثابت والمتغير في البيئات الإجتماعية والأقاليم الجغرافية المعمارية.