لم يعد الصراع محصورا بين الخير والشرّ، والأبيض والأسود، بل صار ثمّة مصطلحات جديدة لعصر ما بعد الاستفزاز هذا، مع حلول زمن المماحكات السياسيّة والغيظ المُتبادل، التي أودت إلى الفتوحات التأديبيّة القاضيّة لأنظمة مُستعصية في سدّة الرئاسة والحكم مثل quot;العراق ndash; طالبان quot; على يدّ المخلّص الأميركي، والمزمنة منذ عقود وعهود لشعارات وإيديولوجيات بلت وخلت وشاخت وانطوت ولازالت تكابر بطشاً وطغيانا، أمام شعوب تكابد ذلا وحرمانا، تنتظر في قرارتها ربّما المخلّص الأميركي أيضا، علّه يعرّج على متن آلته العسكرية بباقي المنطقة العربية، ويعيث فيها حريّة لا ضير إن كانت فاسدة، المهم التغّني بلفظهاquot;حريــــــّة quot;، وديمقراطيّة لا خوف حتى وإن كانت مشبوهة، المهم التشدّق بمفردة نادرة الحلول والحصول في ربوع بلادنا العربية معنى أو منهجا أو ممارسة أو إدّعاء quot;كالديمقراطيــــّـة quot;، وفوضى عارمة لا بأس وإن بدت quot;خفّاقة quot; لا quot;خلاّقة quot;، المهم تبنّي الحالة مهما كانت مزرية، فهي نِتاج العقلية المدبّرة quot;الأميركية quot; المسيطرة، فيا حبّذا مهما كان أو مهما سيكون.
ومع أنّ الخلاص لم يُسفر إلا عن مجازر ووحشية ضارية، باتت تهدد إنسانية الإنسان وتنهشها بعنفٍ موجعٍ ومحبطٍ وفتّاك، ورغم ذلك ثمّة من يرغب بالزحف الأميركي، لتمكين السطوة الأميركية، وتسهيل الضربة الأميركية بكل أشكالها، ريثما يأت التغيير وإن كان على شكل صفعة أو صفقة أو شبيها بخراب مالطة .
ولا ريب أنّ الحجّة الأميركية مبررة عالميّا وميسّرة عربيا، quot;والأورانيوم quot; وحده كفيل بتهيئة إشارة المرور وجواز التجاوز والتخطّي للسيادة والاستقلال
لأي نظام عربي مُستهدف، وأقول عربي لأنه الحلقة الأضعف في صراع التجارب النووية الحالية بامتياز، فالتحذيرات والإنذارات التي وُجّهت مرارا وتكرارا إلى كوريا الشمالية quot;بيونغ يانغ quot; للحدّ من تجاربها النوويّة، والتي لم تأبه ولم تكترث أو تبالي بأيّ منها، جعلت كونديليزا رايس تُفكر مليّا وبإمعان شديد قبل أن تكرر التنبيه، والتهديد والوعيد بشأن التجارب النووية التي فازت هذه الأخيرة بتغاضي الأميركي، وتراضي دول الجوار quot;الصين ndash; اليابان ndash; كوريا الجنوبية quot;، ولا يختلف الحال بشأن التجارب النووية الإيرانية، فلا يزال الرئيس الإيراني الفارسي الداعم للقضايا العربية المستعصية quot;أحمدي نجاد quot; ماضٍ في تنفيذ خطّته الإنتاجية من التجارب النووية سواءً نُظر إليها من منظار quot;التخديم quot; أو من منظار quot;الـتأزيم quot;، فالأمر بالنسبة لبني فارس في إيرانهم الكبير سواء، إذ لهم رأيهم وموقفهم وقناعتهم التي لا يحقّ لغيرهم التدخّل أو الحكم بشأنها، بينما الحال يختلف كلّ الاختلاف في المنطقة العربية، حيث بدأ برنامج التأديب الاستراتيجي الذي اعتمدته الولايات المتّحدة الأميركية في عهد جورج بوش الابن، بكسب تأييد الحلفاء من معظم دول القرار، وخوض مرحلة جديدة من الاحتلال الحديث للمنطقة العربية، الذي نجح في اجتياحه الهمجي على العراق وخلع الرئيس صدام حسين وأسرع في تصفيته، وقلب الأوضاع الداخلية رأسا على عقب، وأجهز على الأمن والاستقرار، وترك الفوضى للفوضى، التي لم يعثر لها حتى الآن على ضابطٍ منطقي يبررها.
الرئيس الليبي معمّر القذافي الذي صمد وشعبه في وجه الحصار سرعان ما سئم العزلة وآثر تقديم فروض الطاعة مسبوقةً بالتكفير عن quot;لوكربي quot; كارثة القرن المنصرم، وبيضة الذهب للقرن الحالي ولأقران الضحايا التي فرّخت في جيوبهم ملايين الدولارات، وجعلت من الشهادة حدثا ميمونا يتمنّاه كلّ حيّ على وجه البسيطة لأقرب أقرباء نبضه، وإمعانا من القذافي في توفير استرضاء الراعي الأميركي للمنطقة العربية، أقلع عن التجربة النووية دون قيد أو شرط، مكتفيا بفكّ الحصار وقانعا بحركة الطيران التي دبّت الحيوية في سماء الجماهيرية من جديد.
الجمهورية العربية السورية التي ما إن تخرج من وَهْدَةٍ سياسية حتى تسقط في غيرها، تواصل في صمت تحضير مفاعلها النووي، الذي تسبب بغضبةٍ أميركية ndash; إسرائيلية مشتركة، وسهّل انقضاض الطرفين كلٍّ على حده بضربة مستقلّة تتلوها الضربة، عزز تماديها السخط المؤجّل، والتهديد الهادئ من قِبل الحكومة السورية التي ما إن تنهض لتنطلق سياسيّا، انطلاقتها المتعالية شموخا واعتدادا،حتى تنكمش تماسكا واحتسابا، لترصّدٍ خارجيّ لم يكن في الحسبان، لكنّ جَعْلها مكتوفةَ الأيدي لكثيرٍ من الأوقات العصيبة التي تعصف باستقلالها واستقرارها من وقت لآخر، لم يعقها عن تحريك سبابة الفعل وضمان بقاء عقدة الخيط الخفي في عهدتها توجّهه أنّى شاءت لجذب الأنظار وقت تشاء سواء في الداخل اللبناني، أو الداخل الفلسطيني، أو الداخل العراقي، ومن يعلم ربّما الداخل الأردني والداخل السعودي لو أرادت؟.. فسوريا تستند إلى حائط متين اسمه إيران، وإيران مدماك السياسة الحاليّة الجديدة لكافّة المُستجدات وعلى صعيد مجمل الملفات في المنطقة، إذ أنّ إيران لم تعد ذاك البلد المشغول في تشكيل ملامح النهضة الإسلامية، بل صار خصما قويا ورادعا ربّما لباقي الخصوم، التي تختصرهم الرغبة الأميركية الجامحة في تسيير القافلة العربية على صراطها المستقيم، لضمانِ وصول الغِلال العربية إلى جعبتها آخر المطاف لتتقاسمها والحلفاء الأفاضل حيث ينعدم الحسيب والرقيب تماما.
لكنّ إيران وقفت كالقذى في عين الشهوة الأميركية المُسلّطة بشبق كبير على المنطقة العربيّة، ومن قال أنّ شوكة واخزة ليس بمقدورها أن تطرح أرضا جَمَلا برمّته؟..
هكذا صار الخلاص العربي رهنا لدخيلين جديدين quot;أميركا ndash; إيران quot; ومتلازمين في النشاط القائم على شكل نزاع خافت تارة، ومدوّي أخرى، وذلك بتنشيط الأطراف المُلحقة والمُتفرّعة عنهم والمتفرّغة لهم منها :quot;المُتأمركة 14 آذار - فتحquot; ومنها :quot; المتفرّسنة حزب الله - حماس quot;، وتِبعا لمتنازعَيْن على زعامة متفرّدة يستعرضها كلٌٍّ على حده بواسطة فريقه المدرّب على شدّ الحبال ودخول الحلبات وتمرير الجولات باقتدار مُريب، وبمُباركة حصرية من إسرائيل.
الغريب في هذا كلّه ليس شيوع التطرّف الناجم عن خطيّ الهجوم والدفاع الأميركي- الإيراني المُتبادل، بل المواكبة الثقافيّة المفرطة التي يصدّرها الإعلام العربي على أكمل وجه، فكم من مثقّف متأمرك سابق، خسر فرصَهُ وآمالَهُ العريضة على امتداد الوعود الأميركية الباهظة، فاندرج دون تردد في أعطاف السفارات الإيرانيّة التي تشرّع أبوابها وصدور ملاحقها الثقافية لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المتملقين الذين يعلنون ولاءهم quot;للدولار quot; الإيراني السخي أيّما سخاء، نظير أيّما ولاء.
ولأنّ الدولار عصب العصر وعصب المثقّف الأكبر، ومع قبول فكرة التواطؤ
على الذات بحثا عن الدولار، عن طريق الأمركة أو الفرسنة، فقد أصيب كبرياء المثقّف بعطب كبير، أقعده عن وجوب التمرّد على أي نظام كان، وأدخله في سُبات الرضوخ للأمر الواقع بين فكي الأمركة والفرسنة، ولا شكّ أنّ الانحياز الدارج بين اللفظين، يفضح !...