مع حلول يوم 31 كانون الاول من هذا العام ستنتهي صلاحية الاحتلال الامريكي للعراق. الاحتلال الذي امتلك شرعيته وحُمـّل مسؤليته بقرار من مجلس الامن. وتحضيرا لحلول ذلك اليوم المنشود يجد الرئيس بوش انه امام خيارات ثلاث لا رابع لها.
الوقوف على منصة مجلس الامن حاملا طاسته بيده او فارشا عباءته متسولا كلا من روسيا والصين ان لا يستخدما حق الفيتو ليحصل على تجديد سنوي لبقاء قواته في العراق. وهو سيحصل عليه فعليا بتقديم بعض التنازلات. تنازلات مزعجة يفضل الرئيس الامريكي تقديمها للعراق بدلا من تقديمها لاعدائه التاريخيين من الروس والصين.
الخيار الثاني وهو مستبعد تقنيا وسياسيا، ان يحزم امتعته ويرحل عن العراق قائلا: لقد انهينا المهمة ولا نريد ان نكون ضيوفا ثقلاء على احد لا يرغب فينا تاركا البلاد بمن عليها لاهلها ولاعدائها.
الخيار الثالث، وهو الخيار الذي يحاول الرئيس بوش نيله قبل ان يودّع كرسي الرئاسة، انْ يعقد (اتفاقا) مع الحكومة العراقية تسمح له بابقاء عدد من القواعد العسكرية (لاجل غير مسمى) بعدد من الجنود ويتكفل حماية الحكومة العراقية من اي خطر خارجي او محلي.
نقول اتفاقاAgreement وليس معاهدة Treaty كما يشيع في الادبيات العربية والعراقية. واذا لم يكن ثمة فرق قاموسي او قانوني بين الكلمتين في اللسان والواقع العربي، فان بينهما في اللسان الامريكي ما بين المشرقين من بعد. ولهذا يصر البيت الابيض والناطقين باسمه على ان ما يتم تداوله مع العراق هو)اتفاق حماية عسكري وليس معاهدة( )لاجل غير محدد). Enduring or Continuing time
فلكي يعقد الرئيس الامريكي معاهدة مع دولة خارجية عليه ان يرفع الامر الى مجلس النواب وان يحصل على ثلثي الاصوات المؤيدة وهو امر صعب المنال لجهة سيطرة الديمقراطيين على اغلبية المقاعد فيه. اما عقد اتفاق فلا يحتاج بالطبع الى تعقيدات كهذه، بل يكفيه امضاءة صغيرة من القلم الشخصي للرئيس الامريكي. ولا عجب ان يعلق احد المحللين السياسيين بقوله ان الطرف العراقي يُحرج الرئيس الامريكي من خلال ترديده كلمة معاهدة وليس كلمة اتفاق.
الفرق الآخر هو انّ الاتفاق وفقا للسان الامريكي يمكن اعادة التفاوض عليه بعد حين من الدهر، ويمكن التحلل منه بمستوى معين من المفاوضات، ولهذا قال جورج بوش الابن ان الحكومة الامريكية الجديدة غير ملزمة بهذا الاتفاق. الكلمة التي اثارت استغراب الكثيرين.
على اية حال فسواء اكان اتفاقا ام معاهدة فان نقطة الخلاف العميقة بين البلدين تكمن في امرين. الاول في ما يمسى عربيا (اعفاء القوات الامريكية وشركات الحماية الخاصة الاجنبية من الملاحقة القانونية اذا ما قاموا باي انتهاك قانوني) وهي جملة مبتورة، اشاعتها مؤسسات اعلامية لاغراض في نفسها ونفس حلفائها. وتكملة الفقرة هي (منح تلك القوات وشركات الحماية حصانة من المحاكمة على منصات القضاء العراقي بل يحال امر مخالفاتهم الى الدول المنتمين اليها عبر رفع الحكومة العراقية قضايا ضدهم.
الامر الثاني والذي سبب ذعرا وهلعا كبيرين لدى كثير من العراقيين هو ما يتعلق بامتلاك الامريكيين كامل الصلاحية في القيام بهجمات واعتقال من تراه متورطا بشن هجمات ضدهم او (ضد الحكومة العراقية) دون الحاجة الى العودة الى المسؤولين العراقيين. وهي جملة تعرضتْ للبتر العربي ايضا حيث انها تنص بدوام هذه الصلاحية لعام 2010 وبعدها يتم التفاوض حولها واسقاطها اذا ما رغبت الحكومة العراقية بذلك ووجدت انها قادرة على ان تحمي نفسها بنفسها.
الخيارات الثلاث امام البيت الابيض لا تكلفه شيئا. يعرف اهل العلم قاطبة ان هذا البيت يتمتع بهيمنة كاملة على العالم كله وهو يملك، كما يقول لاعب الشطرنج الشهير كازباروف، القدرة السحرية على تحويل اخطاءه في اللعبة الى مكاسب. تبقى المعضلة العويصة هي في الجانب العراقي. اذ يتحتم على اهله واهل الحكم فيه ان يعرفوا كي يوازنوا سفينتهم الموشكة على الغرق في غمرة العواصف العاتية وظلمات البحر. لكي لا نقول ان السفينة قد غرقت فعلا منذ زمن ولم تبق منها سوى بضعة قوارب نجاة متفرقة بعدد من الناجين في اعماق بحر مجهول بلا بوصلة ولا زاد سوى امل العثور، او ان تعثرعليهم سفينة كبرى لتحملهم على ظهرها. وعلى نياتكم ترزقون.