قرأتُ في الأيام الماضية مقالات واستمعت إلى تصريحات لكتّاب ومسؤولين فلسطينيين، تتحدث عن الصمود والشجاعة والمقاومة والنخوة العربية وسوى ذلك من الكلام الذي تهضمه المعدة الإعلامية والسياسية يومياً دون أن يقدّم أية رؤية واقعية وعقلانية للصراع وإيقاف لنزيف الدم الفلسطيني، إذ قدِّر للناس في هذا البلد المحتلّ أن يكتووا بنار الاحتلال الإسرائيلي من جهة ونار الشعارات الثورية والإسلامية من جهة أخرى. وبدلاً من أن يعمد هؤلاء الكتّاب والسياسيون إلى بلورة مشروع للسلام الحقيقي البعيد عن مصالحهم الشخصية وارتباطاتهم المشبوهة، فإنهم باتوا يتاجرون بقضية شعبهم من دون أن يرقّ لهم قلب لهذه المأساة المستمرة. مئات الآلاف من الأبرياء الذين قتلوا تمّ نسيانهم، على حين يحضر باستمرار في وسائل الإعلام وكتب التاريخ التافهة المزيفة مجموعة من القتلة الذين يطلق عليهم تسمية: البطل،الشهيد، المناضل، القائد، المجاهد.
إن التطور الجديد للصراع في الشرق الأوسط هو أن الحركات (الأصولية) [ حزب الله، حماس، الجهاد الإسلامي، والحركات الإسلامية المتطرفة في عموم الشرق] هي التي أصبحت تمسك بالخيوط الرئيسة في هذا الصراع. أعني خيوط التهريج الخطابي الإسلامي هذه المرة الذي استخلف التهريج الخطابي القومي ولواحقه. وعلى الرغم من أن الحكومات العربية الدكتاتورية في عقود الصراع العربي الإسرائيلي لم تكن سوى حكومات فاقدة للشرعية الشعبية، لكنها كانت توفر مناخاً أفضل لإيجاد حل لهذا الصراع الذي انتقل إلى مرحلة فوضوية وسريالية الآن. ونتيجة لهذا التخبط الفوضوي الذي أفرزته الرؤية السياسية لهذه الحركات المتطرفة، تفاقمت مشكلة الصراع وازدادت تعقيداً كلما لاح في الأفق بريق أمل لإنهائه. إن سبب هذا التعقيد الذي يجنح نحو التصعيد باستمرار هو أن المتحكم بخيوط اللعبة ليس سوى حركات مارقة على القانون، ذات تطلعات سلطوية مدعومة من دول تسعى إلى لعب دور إقليمي أساسي في الشرق الأوسط. وهكذا فإن المهمة الموكلة لهذه الحركات، هي إفساد أي مشروع يضع حلاً لهذا الاقتتال، لأن الحلّ يعني حرق ورقة من أوراق الضغط السياسية التي تحتفظ بها هذه الدول في الصراع الذي تخوضه مع أطراف وقوى إقليمية ودولية ذات علاقة مباشرة بمشاكل الشرق الأوسط وفي مقدمتها الولايات المتحدة وإسرائيل.
كشفت الاستراتيجية العسكرية للأيام الماضية عن: معسكر يخوض معركة حقيقية (إسرائيل)، ومعسكر يمارس نفس الطريقة الوحيدة التي يتقنها وهي المهاجمة بصواريخ محلية بدائية لا تتعدى ( 40 كم). وهي صواريخ دخانها أكثر من الخسائر التي تلحقها بالعدو. لكن خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة حماس صرّح بأن الحركة لم تتكبد إلا جزءاً يسيراً من قوتها العسكرية، وهذا شيء طبيعي لأن الحركة تتخذ من الشعب الأعزل درعاً واقياً كما كان يفعل صدام حسين في حروبه العبثية. وهذا شيء طبيعي أيضاً، لأن الحركة لا تملك سوى هذه الصواريخ التي لا تقدّم ولا تؤخر، وسوى بضعة كلمات رنانة تستعاد في كل حفلة قتل وحشية تقوم بها إسرائيل بسبب تحرشات حماس الحمقاء. وهذا شيء طبيعي لأن خالد مشعل وغيره من قادة حماس يعيشون عيشة راضية مرضية خارج نيران الصراع. ومع ذلك، فإن قادة حماس الذين اشتهروا بخطاباتهم المنبرية التي تضج بالوعيد للعدو الإسرائيلي، اختفوا تماماً عن ميدان الصراع وتركوا العزّل يواجهون مصيرهم. لكنهم نشطوا في شن الهجوم على البلدان العربية، إذ يريدون من العرب أن يشتركوا معهم في حماقاتهم، ويجروا المنطقة إلى فوضى عارمة، وإلا فإن من لا يساند (حماس) المغامرة بصواريخها الخشبية يعد خائناً.
من ناحية أخرى، فإن ما يحدث في غزة قد كشف عن أن الشعب الفلسطيني نفسه أظهر تبرمه من مغامرات حماس، وكشف عن انقسامه حيال الطريقة التي تدير بها حماس الصراع مع إسرائيل من ناحية، وعلاقتها بالسلطة الفلسطينية المركزية من ناحية أخرى. وعلى الرغم من العلاقة القوية بين الحركة وحلفائها، إلا أنهم وقفوا متفرجين على ما يجري، ولم يتمكنوا حتى من تقديم الدعم السياسي اللازم للحركة.
من المؤكد أن الحملة الإسرائيلية لا تحقق أهدافها كاملة، لأن عدوها عبارة عن كلمات وخطابات فوضوية خادعة لا ترعوي بمنطق الواقع، ولا تنضبط بضابط الحرص على الدم الفلسطيني، فهو عدو يعيد بناء نفسه بالكلمات والخطابات الرنانة، وكلما اندثرت حماس ثمة حماس أخرى تلد من نفس الكلمات التي يُضحَك بها على عقول الناس في هذه الأمة التي لا ترعوي فتثور على نفسها لتتحرر من مستعبديها أولاً ومن أعدائها ثانياً.