منذ البداية، ولغرض تحديد الموقف الشخصي، أقول إن تاريخ السياسة الإسرائيلية عموماً قد بني على ممارسة العنف الوحشي الذي ربّى أنياب ومخالب التطرف والإرهاب في الشرق والعالم الإسلامي. وما حماس وغيرها من المنظمات الإسلامية المتطرفة سوى نتاج ذلك العنف الوحشي الذي اعتقدت إسرائيل أنه الأسلوب الأنجع في ردع الانتفاضات الفلسطينية المتكررة، وردع جيرانها من ذوي النزوع القومي من الذين غامروا بشن الحرب عليها. ولعل اتفاقية كامب ديفيد التي أبرمها الرئيس المصري محمد أنور السادات معها، واعتُبر بسبب ذلك خائن الأمة العربية، وأطلق عليه صدام حسين وأبواقه الإعلامية لقب: أبو رغال، أقول لعل تلك الاتفاقية كانت نقطة تحول في السياسة الإسرائيلية من ممارسة العنف الوحشي المطلق والتعالي على التعامل مع الأنظمة العربية الدكتاتورية، إلى فتح قنوات الحوار التي ابتدأت بمصر (أكبر دولة عربية، وأكبر أيديولوجية قومية) ومرّت بالأردن التي غالبية شعبها من الفلسطينيين النازحين، وانتهت بمنظمة التحرير الفلسطينية المتمثلة بشخص ياسر عرفات رمز المقاومة الفلسطينية.
لكن ما يجري الآن من تفجير للصراع ثانية بين حماس وإسرائيل لا يمكن تبويبه على أنه صراع واضح الأهداف من جانب حماس على أقل تقدير. فهو ليس صراعاً من أجل (التحرير) كما شاع في أدبيات المقاومة، وأكسبها تعاطفاً شعبياً واسعاً، بل هو عملية (انتحارية). وقد ربّت الحركات الإسلامية في فلسطين ولاسيما حماس عدداً كبيراً من الفلسطينيين على هضم وتمثّل ثقافة (الانتحار) بدلاً من (المقاومة). وثمة فرق بين المقاوم المتطلع إلى الحياة والعارف الواعي بشروط الصراع الميدانية والسياسية، والمنتحر اليائس الذي الذي خُدِع وتمّ تخديره بشعارات طقوسية كاذبة لا تهدف إلى التحرير حقاً إنما إلى إدامة السلطة وتقوية مخالبها. وحماس حركة ذات أهداف سياسية، وهي بارعة في تحقيق مكاسبها، لكنها ليست حركة تحريرية مطلقاً. ثمة سلوكان يدعمان فرضية أنها حركة سياسية لا تحريرية: الأول، هو شغفها بالسلطة إلى حدّ الانفصال السريع وتكوين دولة غزة بديلاً عن دولة فلسطين الموحدة مما أضعف ورقة المفاوضات وشتت قوة الضغط الفلسطيني والعربي. والثاني، هو نفاقها الأيديولوجي المتمثل بعلاقتها مع إيران الإسلامية وسوريا العلمانية. الجميع يعرف أن حماس، تمثل الإسلام الأصولي السني المتشدد، وفي الطرف الآخر تمثل إيران الإسلام الشيعي الأصولي، والاثنان يقومان على فلسفتين تختلفان أشد الاختلاف في الأصول والمرجعيات الفكرية والعقائدية والسياسية. وفي مقابل ذلك، فإن الفلسفة السياسية التي يستند إليها مرجعياً النظام السوري هي أيديولوجيا علمانية مازالت تتمسك بالخطاب القومي، إذ تراه مناسباً باعتباره فرضية قادرة على حل مشاكل (الأمة العربية) التي لا تنتهي.
من المؤسف، أن الوضع في فلسطين تحركه قوى إقليمية ولا تتحكم به إرادة فلسطينية داخلية تستفيد من منطق الصراع عبر مراحله المختلفة، وما حركة حماس سوى المنفّذ الشرعي لإرادة تلك القوى الإقليمية عربية وأجنبية على حدّ سواء. وعلى هذا الأساس فإن أسباب الأزمة المستمرة أسباب لا تخضع لواقع الصراع إنما هي أسباب مستعارة من أجندات خارجية. وحكومة حماس تغامر بأرواح الفلسطينيين بانتهاج فرضية إدامة التوتر مع الطرف الإسرائيلي بغية تحقيق مكاسب سياسية لا تلبّي تطلعات الشعب الفلسطيني في إيقاف نزيف الدم والالتفات إلى بناء المؤسسات المدنية بدلاً من تحويلها إلى مؤسسات تابعة للحركة لا للدولة.
يطالب الإسرائيليون ومعهم قادة السلطة الفلسطينية (حكومة محمود عباس) بإيقاف الهجمات الصاروخية المتكررة التي تطلقها حماس باتجاه إسرائيل، لكن قادة حماس ومن يتحالف معهم يجدون في استمرار تلك الهجمات فرصة لتحقيق أهداف سياسية متعددة: سحب البساط من تحت أقدام السلطة الفلسطينية، ادعاء أنها الوريث الشرعي للمقاومة، تحقيق رغبة الحلفاء الخارجيين اللذين يتخذان ذلك ورقة ضغط في صراعهما السياسي مع الولايات المتحدة وإسرائيل على حدّ سواء.
إن سياسة حماس وأيديولوجيتها لم ولن تحقق أي منجز يمكن البناء عليه في إيجاد مخرج لهذا الصراع المأساوي مع عدو لا يتورع أبداً في ارتكاب المجازر الوحشية. ومنذ وصولها إلى سدة الحكم لم تفعل حماس شيئاً للفلسطينيين سوى شق الصف وازدياد العزلة الدولية والعربية. وعلى الرغم مما قيل في تحليلات المحللين السياسيين وتعليقات الصحف حول الدوافع الانتخابية التي دفعت إسرائيل إلى شن حملة عسكرية واسعة، فإن الشيء المؤكد هو أن سياسة حماس كانت على الدوام تعطي الذريعة إلى إسرائيل لارتكاب عمل وحشي، وتوفر لها فرصة الحصول على التعاطف الدولي باعتبارها تدافع عن نفسها أمام حركة مارقة عن القانون الدولي وفاقدة لشرعيتها الوطنية بعد عملية الانفصال.