في 11 من آب (أغسطس) عام 2000، وعلى خشبة المسرح في مدينة أبها وسط جمهوره وهو يحمل عوده، توقف قلب المطرب والملحن السعودي طلال مداح عن الخفقان. توفي وهو يشدو، بعد عمرٍ كافح فيه لتطوير الغناء والموسيقى في السعودية، وليغرس بدايات ازدهارٍ فني وثورةٍ مجتمعية بدأت تؤتي أكلها بعد رحيله بسنوات.
وُلد مداح في الخامس من أغسطس/آب عام 1940، ورحل وهو في الستين بعد أن حمل على عاتقه مهمة نشر وتطوير الموسيقى والغناء في بلاده وفي منطقة الخليج بأسرها، وبعد أن خاض معترك الفن وساحته، وفتح الأبواب للموسيقى والغناء في وقتٍ لم يكن الفن فيه يلقى التشجيع أو الاحتفاء في مجتمعه.
كان مولد مداح، واسمه الأصلي طلال بن عبد الشيخ بن أحمد بن جعفر الجابري، في مكة. توفيت والدته وهو في طفولته، فتولت تربيته خالته وأحبه زوجها، علي مداح. رد طلال المحبة بالمحبة، وأطلق على نفسه اسم طلال مداح، نسبةً لزوج خالته. وعرف الصبي طلال الموسيقى والغناء على يد أحد أصدقائه، الذي كان يحفظ ويردد العديد من الأغاني الرائجة في ذلك الوقت، خاصة أغاني عبد الوهاب. منه شُغف طلال بالغناء والعزف وبالشعر، وبكل ما يمت لعالم الموسيقى بصلة.
قال عنه الأمير الشاعر بدر بن عبد المحسن: "تجاوز الفن الغنائي السعودي بفضل صوت طلال مداح حدود الوطن ليصل للعالم العربي كله، وتميزه وتفرّده ليس فقط في صوته اللين الدافئ القوي، إنما في شخصيته البسيطة الطيبة، وأفكاره وفلسفته الخاصة للأشياء وعنها".
وقال عنه الأمير الشاعر محمد العبد الله الفيصل "طلال مداح تاريخ، وتاريخ الأغنية السعودية كانت بداياته الفعلية على يد طلال مداح، واشتهرت بفضل طلال مداح رغم محاولات من سبقوه".
أما المطرب السعودي محمد عبده، فقال عنه "طلال هو رجل الأغنية السعودية الأول، وهو الأصل ونحن نتفرع منه"، وقال عنه أيضاً: "طلال يستعصي على الغياب، ولا يمكن أن يغيب، وما غرسه في أرواحنا إحساس أبلغ وأعمق من الموسيقى".
وكي نفهم هذا التأثير الكبير لمداح على الغناء والموسيقى في السعودية بل في منطقة الخليج بأسره، يجدر بنا أن نعود إلى بدايات مداح، حيث بدأت ثورته الغنائية وتمرده على قيود مجتمعه آنذاك.
التحق مداح بمدرسة في مدينة الطائف، وذاع عنه جمال صوته وعذوبته، فأصبح مسؤولاً عن الغناء في المناسبات والحفلات المدرسية، وشغفه الغناء والموسيقى حباً، فأصبح شغله الشاغل هو تعلم العزف على العود وإجادته. آنذاك، ما كان تعلم العزف على العود أمراً يسيراً يقبله المجتمع المحافظ، فاضطر أن يتعلم العزف خلسةً، متمرداً على قيود المجتمع، وما كان تمرده ذلك إلا بداية لثوراتٍ تأتي لاحقاً، تمكن مداح خلالها من توطيد قبول، بل ذيوع وانتشار، الغناء والموسيقى في مجتمعٍ كان يرفضهما سابقاً.
وقال الناقد الموسيقي السعودي جمعة جميعة في مقالٍ بعنوان "الأغنية المكبلهة وأسطورة الستينات طلال مداح" إن الأغنية السعودية في الأربعينيات والخمسينيات كانت أغنية تراثية بسيطة، "يعتمد مطربوها لتلحينها على أسلوب اللحن الواحد، بخلاف الأغنية المصرية المكبلهة (ذات الكوبليهات الموسيقية) التي أسسها سيد درويش في مصر، وغزت العالم العربي بأصوات أم كلثوم ومحمد عبد الوهاب وعبد الحليم حافظ".
وأضاف جميعة أن العالم العربي بأسره تأثر بالأغنية المصرية، وأن "الكثير من المطربين العرب حاولوا مجاراة هذا القالب الغنائي المميز في العراق ولبنان والمغرب، مع التغيير في الألحان والكلمات لتتناسب مع هوية البلد الثقافية والاجتماعية".
"يا زارع الورد"
وقال جميعة: "كان طلال مداح من أوائل الفنانين السعوديين الذين قدموا الأغنية السعودية بصورتها الحديثة "الأغنية المكبلهة" في نهاية الخمسينيات. ليتغير شكل قالب الأغنية السعودية بعد أغنية طلال مداح الأولى "وردك يا زارع الورد" عام 1959، التي تتكون من مقاطعٍ مختلفة الوزن والقافية، كتب كلماتها عبد الكريم خزام ولحنها طلال".
كانت أغنية "يا زارع الورد" إيذاناً ببزوغ نجمٍ جديد، وسجلتها الإذاعة السعودية عام 1961.
ولأغنية "يا زارع الورد" مكانة وأهمية كبيرتان، فهي الأغنية العاطفية الأولى التي تسجلها وتذيعها الإذاعة السعودية، بعد أن كانت لا تبث إلا الأغاني الوطنية. وبهذا كانت هذه الأغنية الأولى في حد ذاتها ثورة على الأعراف، وتمرداً كان يصل إلى الناس في دورهم مع موجات البث، وسط أجواءٍ مجتمعية تستهجن الغناء بصفة عامة، لا سيما إن كان عاطفياً أو يتحدث عن العشق أو المرأة وجمالها. ربما هكذا استطاعت أغنية واحدة لمداح أن تكون الخطوة الأولى على درب طويل نحو الخروج من عباءة التقاليد، سواء كان ذلك اجتماعياً أم فنياً.
يكمن ذكاء مداح في أنه عرف فطرياً قدر التغيير الذي تحتاجه الأذن السعودية حتى لا تنفر من الأغنية، فقدم في "يا زارع الورد" بعض العناصر الموسيقية التي تألفها الأذن السعودية، وطوّر بعض العناصر، لتصبح أول أغنية سعودية ذات كوبليهات موسيقية متعددة، متنوعة الإيقاع.
وفي الإطار الاجتماعي الأرحب، أدى رواج الأغنية إلى بدايات تقبل الأغنية العاطفية، لنصل اليوم إلى الاحتفاء الكبير، جماهيرياً ونقدياً، بمسيرة مداح، ليس بوصفه فقط مطرباً وموسيقياً، بل أحد أركان الهوية السعودية.
تجربة سينمائية
لمداح تجربة سينمائية واحدة، حيث شارك في التمثيل والغناء في فيلم "شارع الضباب"، من إخراج سيد طنطاوي، عام 1967، والفيلم من بطولة صباح ورشيد علامة. ولم يحظَ الفيلم بنجاحٍ جماهيري كبير، ولكن مجرد مشاركة مداح فيه كانت بمثابة نقطة البداية للسينما في السعودية. وكان ظهور مداح في فيلم إيذاناً ببدء إدراك الجمهور السعودي أن السينما يمكن أن تكون سعودية أيضاً وأن يشارك فيها نجوم من بلادهم، بعد أن كانت السينما حكراً على مصر ولبنان.
وكتب الروائي السعودي عبده خال، الذي كان صديقاً مقرباً من مداح على منصة X، تويتر سابقاً، متحدثاً عنه قائلاً: "عرفته طفلاً صغيراً عندما تم إدخال التلفزيون إلى بيتنا، وأول أغنية سمعتها وشاهدتها كانت (عيني علينا علينا)، فعلقت بالبال، ثم علقت أغنية أخرى عندما كنت صبياً هي (بعد إيه ترسل كتاب)، وفي مرحلة المراهقة توالت الأغاني التي تجذرت في حرث القلب".
لحن مداح ما يقرب من 350 أغنية لمغنين من شتى الدول العربية، من بينهم فايزة أحمد ووردة وسميرة سعيد وعبادي الجوهر ورجاء بلمليح.
علاقة شائكة
وعلى الرغم من أن مداح تعاون كمطرب مع كبار الموسيقيين والملحنين العرب مثل محمد عبد الوهاب وبليغ حمدي ومحمد الموجي، إلا أنه كان يصر على أن هويته الموسيقية سعودية محلية بامتياز، وقال في لقاءٍ تلفزيوني معه: "أنا متمسك بأسلوبي المحلي في الغناء ومن يحب ذلك فليستمع إليّ".
وعلى الرغم من التقدير المتبادل، يمكن أن توصف علاقة مداح بالملحنين المصريين بأنها علاقة شائكة.
ففي تسجيل متوفر على يوتيوب نشاهد جلسة موسيقية جمعت بين محمد عبد الوهاب بمدّاح، ونستمع إلى آهات الإعجاب والانتشاء من الموسيقار المصري الشهير بأغنية مداح "أغراب"، ولا يكتفي عبد الوهاب بذلك بل يمنحه لقب "زرياب".
ذلك الإعجاب دفع عبد الوهاب إلى السعي حثيثاً إلى ضم مداح إلى مدرسته في التلحين والغناء، ليكون ضمن مجموعة منتقاة من صفوة النجوم مثل عبد الحليم حافظ، ونجاة الصغيرة، وفايزة أحمد، وأم كلثوم في بعض الأحيان، الذين حرص عبد الوهاب أن يجعل منهم حبات في عقد من اتبعوا أسلوبه في الغناء والتلحين ومن كانوا جزءا من مشروعه الموسيقي. لكن مداح كان مصراً على استقلاليته الموسيقة والغنائية والإبداعية ورفض أن يوقع عقد احتكار يمنعه من تسجيل أغان خارج شركة عبد الوهاب.
ساهم حرص مداح على استقلاليته الفنية والإبداعية في توطيد مكانته كأحد أهم أساطين الغناء والتلحين في السعودية والخليج. بنيت تلك المكانة على الانتصار للأغاني السعودية، التي لحنها لنفسه أو لحنها له ملحنون سعوديون، وأستهل مرحلة في مسيرته الفنية يعتمد فيها على الشعراء السعوديين في كتابة أغانيه، خاصة مع الأميرين الشاعرين محمد العبد الله الفيصل وبدر بن عبد المحسن، وتعاونه المثمر مع الملحن سراج عمر.
أثمر هذا التعاون أغنيات تعد علامات في مسيرة مداح الغنائية، بل وفي مسار الأغنية الخليجية مثل "مقادير"، "أغراب"، "ما أطولك يا ليل"، "غربة وليل"، "تعب الطريق"، "العشق"، "نام الطريق"، "الموعد الثاني"، كما برزت قدرات مدّاح كملحن في أغنيات مثل "زمان الصمت" و"وعد".
حرص مداح ألا يكون صدى لأي مدرسة موسيقية ولا لأي ملحن، وأسهم بذلك في أن يكون للغناء السعودي لونه الخاص وتفرده، وألا يكون نسخة مكررة من الغناء في مصر أو غيرها من عواصم الفن في العالم العربي.
"مقادير"
ولعل أشهر وأنجح أغنيات مداح التي أثّرت في الوجدان السعودي والعربي على اتساعه هي أغنية "مقادير" التي شدا بها مداح لأول مرة عام 1965 في نادي الترسانة الرياضي في القاهرة، وسط جمهور يقارب 40 ألف مستمع. وما إن صدح بها مداح، حتى احتضنتها الجماهير الغفيرة في العالم العربي بأسره، وأصبحت ملء الآذان والقلوب، حتى أن مغنين آخرين غنوها وحاولوا يصبغوها بصبغتهم لتلائم أصواتهم وأسلوبهم في الغناء، ومن أبرز تلك المحاولات محاولة المطرب السعودي محمد عبده والمطربة وردة الجزائرية.
وقال عبد الهادي بازباشي، محرر الموسيقى الشرقية في موقع "معازف"، إن "مقادير جاءت بعد عقد ونصف من تغيير طلال شكل الأغنية السعودية بـ وردك يا زارع الورد، إذ نقلها من الأغنية ذات اللحن والقافية الموحّدين إلى الأغنية منوعة القوافي والأوزان والألحان، وفتح باباً تاريخياً لتلحين الأعمال الغنائية الكبيرة بإبداعٍ خالص بعد أن كانت معتمدة بمعظمها على إعادة تدوير الألحان التراثية".
وأضاف بازرباشي إن "هناك من وجدوا في فتح طلال فرصة لمنافسة الأعمال المصرية بالنفَس التلحيني الطويل، مثل عدنان خوج وعمر كدرس وتلميذه محمد عبده في أغانٍ مثل الرسايل ووهم وصوتك يناديني والمعازيم، ملتحقين بتقليد مصري في الوقت الذي يغادره فيه المصريّون".
اعتزالات متعددة
اعتزل مداح الفن والغناء عدة مرات، ففي السبعينيات من القرن العشرين ابتعد مداح عن الغناء عدة أعوام، وسرت حينها شائعات أن ابتعاده عن الأضواء جاء إثر حادث سير تسبب فيه مداح بموت ابنه وهو يرجع بسيارته إلى الخلف، بينما اتضح لاحقا أن مداح كان في فترة عزلة واستراحة فنية يقيم فيها مسيرته ليقدم ما هو أفضل.
وفي أواخر الثمانينيات غاب مداح بشكل شبه كامل عن الحفلات الغنائية ولم يقدم جديداً طوال أربع سنوات حتى عودته في أغسطس/آب عام 1992 ليشارك في حفلات غنائية في القاهرة.
وفي برنامج إذاعي فسر مداح ذلك الغياب بقوله "خلال السنوات الماضية، مررت بحالات شديدة القسوة من القلق الفني والنفسي، جعلتني أفكر في اعتزال الغناء نهائياً. وكلما كان الحنين يعاودني كنت أقاوم بشدة، لكنني في الفترة الأخيرة لم أعد قادراً على المقاومة، خصوصاً في ظل الضغوط القوية التي مورست عليَّ من جمهوري لإقناعي بالعودة إلى الغناء".
التعليقات